لا أعرف ما الذي يجعل المخرج الكبير الراحل صلاح أبوسيف هو الأقرب لقلبي ولعقلي أيضا من بين كل مخرجي السينما المصرية.. ثمة أسباب شخصية بالطبع منبعها أن الحظ ساعدني للتعرف عليه عن قرب في سنواته الأخيرة.
الا أن ألاسباب الموضوعية كثيرة ولا حصر لها.اليوم ونحن نتذكر بكل الاجلال والاحترام أبوسيف في ذكري وفاته التي توافق22 يونيو1996 نطالع تلك الاسباب بعمق.قال عنه الناقد والمؤرخ الفرنسي جورج سادول في موسوعته عن السينما العالمية أن أفلامه قد خلقت تيارا لا يقل عن تيار الواقعية الجديدة الذي نشأ بايطاليا وأثر علي كل بلاد العالم.وأضاف سادول عنه أنه من أهم عشرة مخرجين في تاريخ السينما العالمية. وقالت عنه الباحثة الألمانية اريكا ريشتر أن أفلامه العمود الفقري للفيلم الواقعي العربي وتحدد بظهوره اتجاه حساس في تطور السينما العربية. المفاجأة هي أن شهرة صلاح ابو سيف عند متابعي السينما العالمية قد تطاول المخرح الكبير يوسف شاهين او تفوق.ربما شهرة شاهين بفرنسا غالبة لكن بأمريكا وايطاليا مثلا ابو سيف الاكثر تأثيرا. وعندما أقام مهرجان بولونيا منذ أكثر من10 سنوات تكريما للسينما المصرية اختار ان يقوم بعمل بانوراما كاملة لافلام أبو سيف لانها التعبير الحقيقي و المنصف عن مصر طوال نصف قرن من الزمان. لم يكن أحديتصور أن يبلغ كل هذا المجد هذا الشاب المتواضع الذي ولد في10 مايو1915 بحي بولاق الدكرور الشعبي وعمل في بداية حياته موظفا بشركة النسيج بالمحلة الكبري. وهناك قابل نيازي مصطفي و هوالذي ساعده في الانتقال إلي ستوديو مصر. فبدأ صلاح أبو سيف العمل بالمونتاج في ستوديو مصر, ومن ثم أصبح رئيسا لقسم المونتاج بالأستوديو لمدة عشر سنوات عمل صلاح أبو سيف كمساعد أول للمخرج كمال سليم في فيلم العزيمة الذي اعتبر الفيلم الواقعي الاول في تاريخ السينما المصرية.ثم سافر بعدها لدراسة السينما بفرنسا عام1939 وسرعان ما عاد بسبب الحرب العالمية الثانية.كل تلك الدروس المؤسسة ساهمت فيما أصبح عليه هذا المبدع الكبيرفيما بعد المولود في وسط فقيروالتربية في خضم الشعور الوطني بالتخلص من الانجليز وفي وسط مصر الرائعة في النصف الاول من القرن العشرين عندما قطف المصريون ثمرة ما يقرب من قرن من التحديث منذ قرر محمد علي باشا ان يصنع من مصر دولة حديثة حتي جري في النهر مياه كثيرة فدخلت الكوزموبوليتية مصر وازدهرت الثقافة والعلوم وانتشرت الاحزاب وتعددت الجرائد والمجلات وعاش المصريون في ثلاثينات واربعينات القرن العشرين في خضم زخم ثقافي وسياسي رائع أنجب قامات رفيعة في كل المجالات.بلغت ثروة أبو سيف الثمينة أربعون فيلما في خمسون عاما هي عمره الفني قدم خلالها كل الانواع السينمائية من الرومانسي للايت كوميدي للفانتازي للملحمي للتراجيدي وعلي رأسها طبعا الواقعي.أول أفلامة كان( دايما في قلبي) الذي أخرجه عن جسر واترلو.لكن انطلق بعدها بقليل ليصنع سلسلة أفلامة العظيمة التي أصبحت علامات في تاريخ السينما المصرية فبدأها عام1950 بصنع النسخة المصرية من فيلم( الصقر) وعندما عرض علي المنتجين فيلم( لك يوم يا ظالم) ورفضوا فأنتجه بنفسه. ثم أخرج افلامه الواقعية الاربعة الهامة فورا وهي( الاسطي حسن)1952- ريا وسكينة1953- الوحش1954- شباب امرأة1957- الفتوة1957- هذه الافلام جميعها تحفل بتحليل النظام الاجتماعي وتأثيره علي تصنيع الفساد داخل نفوس البشر.بعدذلك دخل صلاح أبوسيف مرحلة النضج الاهم في حياته بعد الثورة فأخرج ما بين(1957 و1968)16 فيلما تنوعت في موضوعاتها فعالج في( الطريق المسدود وأنا حرة) تحرر المرأة. لكن ظلت أهم أفلامه هذه الفترة بين السما والارض و بداية ونهاية القاهرة30 والقضية68 وكلها تتراوح بين النقد الاجتماعي والسياسي والحس الاصلاحي والحبكة الدراما المتمكنة.وعشر منها علي الاقل دخلت قائمة الاهم داخل السينما المصرية طوال تاريخها.في السبعينات قرر صلاح أبوسيف تجربة أنواع متنوعة وجديدة من السينما فاصاب مرات وأخفق مرات أخري وان ظلت للافلام خصوصيتها.فقدم الفيلم التاريخي الديني فجر الاسلام و الفيلم الفلسفي السقا مات وافلام التعرية الاجتماعية حمام الملاطيلي وافلام التاريخ العربي القادسية., من أهم علامات حياته انه ادخل نجيب محفوظ السينما ككاتب سيناريو من خلال أفلام( مغامرات عنتر وعبلة, شباب امرأة, بين السما والارض, بداية ونهاية غيرها. لكن ربما أهم ما ميزصلاح أبوسيف طوال تاريخه هو ضميره الحي والتزامه بالتعبير عن قضايا المجمتع المصري والتاريخ العربي بكل أمانة ورصانة.الأمانة هي التي جعلته لا يتزيد علي الواقع أو يبالغ فيه لغايات شخصية أو حتي فنية وحاول بكل السبل وفي تنوع مذهل أن يتحدث عما هو موجودفي الواقع لا أن يسقط عليه أهواءه أو مشاكله الشخصية.والرصانة هي الصفة الاخري التي تتوج معالجاته السينمائية بدون أي ابتذال أو ترخص أو تدني تحت مسمي أنه واقع ويحق عند التعبير عنه استخدام اي وسيلة.انه تعلم بفرنسا وكان علي اتصال بالكثير من تيارات الثقافة العالمية ورموزها لكنه ظل وطنيا مخلصا وليس من أتباع الغرب المروجين لافكاره ونظرياته شرا كانت او خيرا.و قد أسعدني القدر بأنني كنت من جلساء الاستاذ أبو سيف بفندق كوزموبوليتان بوسط البلد بالقاهرة و صنعت عنه فيلما تسجيليا لقناة النيل الدولية عام1994 لكن الفرصة لم تأتني لأكون مساعدا للاخراج معه لانهل من بحر علمه وتواضعه وحكمته الواسع أكثر وأكثر.رحم الله الاستاذ الكبير وأسكنه فسيح جناته.
الاهرام - أحمد عاطف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق