السبت، 3 يوليو 2010

أطفال الشوارع .. أوليفر تويست المصرى


أن يتصدى شاعرٌ بقامة بهاء جاهين لكتابة نصِّ وأشعار مسرحية غنائية، فذاك يعنى أن الفكرة التى يدور حولها العمل لابد تحمل قيمة وجودية واجتماعية. وهو ما كان فى مسرحية «قطط الشارع» التى تُعرض الآن على مسرح البالون من إخراج عادل عبده، وبطولة سمير صبري، دوللى شاهين، جمال سليمان، وعدد من أطفال مصر الموهوبين الواعدين، ينتمون إلى الفرقة القومية.
القصة مستوحاة من «أوليفر تويست» التى كتبها الإنجليزى تشارلز ديكنز عام ١٨٣٨، وتحكى عن الطفل اليتيم ضئيل الجسم أوليفر الذى تتقلّب به التصاريف من ملجأ الأيتام إلى وكر المجرمين الصغار ليتعلّم سرقة الكتب، حتى ينتهى به الحال فى بيت الثرى سير براون، الذى يتبين أنه جد الطفل.
«قطط الشارع» تحكى عن مجموعة من أطفال مصر المحرومين من دفء المحبة، ما بين لقيط، ومشرّد، ويتيم، أو هارب من قسوة الأهل، يشبهون القطط الضالة التى تبحثُ فى ثنايا صناديق القمامة عن نفايات الناس، لتتعايش عليها. وفى البعيد، ثمة عينٌ كعين الحدأة ترقبهم، لتحدّد متى وأين وكيف، تنقضُّ عليهم بمخلبها النشط لتلتقطهم، ثم تودعهم مكانًا يطلقون عليه: «الورشة الأكاديمية الصباحية المسائية المشتركة». ورشة قطط الشوارع، حيث يتعلمون مبادئ النشل والشحاذة والنصب والاحتيال، وكل ما تجود به القريحة المريضة من ألوان السلوك المسيء للجنس البشري، المحطِّم فكرة الحياة كما رسمتها لنا السماءُ، حين قررت أن تُعمِّر الأرض ببنى آدم.
تلك العينُ المدرّبة هى عينُ «حافظ»/ سمير صبري، المُلقَّب بـ«حِتّة». هو رئيس الورشة والأبُ الروحيّ لتلك القطط التعسة، (يقوم بدور فاجن فى رواية ديكنز). كل صباح، بعدما يُنهى تدريبه اليوميَّ للأطفال على أساليب السرقة المستحدثة، يتعهد أمام الله وأمام الوطن بميثاق المهنة: «ربنا يقدرنى وأطلّعهم أعظم (هبّيشة) فى مصر!» على أنه، للمفارقة الوجودية، ورغم قسوته الظاهرة، يحمل قلبًا يخاتله أحيانًا فيقطر حنوًّا على أولئك الصغار، بل وعلى ضحاياه المستلبين.
فها هى حافظة نقود اقتنصها، تحمل روشتة مريض فقير، بدا أنه لم يجد ثمن الدواء، فيفكر «حافظ»/ اللص فى إرسال بعض المال للمريض المسروق، لكنه يُقابل باستهجان وسخرية شريكيه فى الورشة، حدّاية/ ممدوح درويش (الذى يقوم بدور بيل سايكس فى ديكنز)، وسمسمة/ دوللى شاهين (التى تمثّل شخصية «نانسي»).
وللحق لم تنجح دوللى فى أداء دور البنت الشعبية الجاهلة، ربما بسبب ملامحها الدقيقة الأرستقراطية، وإيماءاتها الرقيقة التى حاولت أن تُخرج منها فظاظةً تليق بدورها كلصّة، فخرج الأداء مفتعلاً وصاخبًا بما لا تحتمل الشخصية، (على عكس أدائها الفاتن فى فيلم «ويجا» مثلا)، ولكن صوتها العذب العريض، كمطربة، قام بمعادل موضوعيّ أنقذ الموقف بعض الشيء.
حافظ وسمسمة، كلاهما كان أيضًا فى طفولته قطةً لُفِظَت إلى الشارع. الولد شُكِّك فى نسبه لأبيه الذى ذريته رهطٌ من البنات، فاختار الهروب من قسوة الألسن، إلى قسوة الشارع، والبنتُ جفلت من تحرّش زوج الأم، فآثرت الشارعَ علّه أكثر رحمة بجسدها النحيل. كلاهما تحوّل من قطةٍ فزعة تفتش عن الحب إلى حدأة شرسة تتصيد الصغار لتستولد منهم لصوصًا جددا وحدءات مستنسخة، والدائرةُ لا تنتهي. تلك هى الرسالة التى حملتها المسرحيةُ الاستعراضية بقصائدها الموجعة. برودة المشاعر لدى الأسرة، تخلق مجرم الغد. وهنا نذكر ما قالته الأم تريزا، الهندية العظيمة والأم الروحية لكل أطفال العالم المشردين والمرضى والمأزومين: لكل مرض دواء، لكن ثمة مرضًا مخيفًا لا دواء له، اسمه: «نقص الحب».
«أتارى الأحلام مبتكلفش حاجة»، هكذا راح حافظ وسمسمة يحلمان بغد أجمل وأكثر نظافة، خلوٍ من مطاردة الشرطة، ومطاردة الضمير كذلك، وهو ما سيفعلانه فى نهاية العرض.
الطفل مروان، واسمه فى المسرحية «موس»، (جاك دوكنز لدى ديكنز)، أدى الدور على نحو ممتاز. نجح وجهُه فى الجمع بين نقيضين: براءة الطفولة وفهلوة المجرم الصغير، فخلق هذا التناقض لونًا من المفارقة الوجودية الآسرة.
كذلك نجح الطفل كريم، بطل العمل، الذى ظهر باسمه فى المسرحية ويؤدى دور أوليفر تويست الإنجليزى فى رواية تشارلز ديكنز الأصلية. نحولُه المفرط وضآلةُ جسده، ووقوفه على خط البراءة التى بعدُ لم تُلوَّث بالجريمة، ودهشته مما يجرى حوله فى الورشة الشريرة والحانية فى آن، وانتقالاته بين عوالم متناقضة: الملجأ بغرفه المظلمة، الشارع بقسوته، الورشة بنظامها المبنى على الفوضى وكسر قانون المجتمع، مخفر الشرطة بفظاظته ولا آدميته، السراى الفخمة وخدمها الذين يتسابقون على تدليله، حضن الجد المحروم من الحب، كل تلك الأضداد أربكت روحَ الطفل الهشّة فأنتجت نظرات وجلى مدهوشة، نجح الطفلُ المصريُّ كريم فى أدائها بامتياز. كذلك نجح عزيز الأرناءوط/ جمال إسماعيل، الجد المكلوم على ابنته الراحلة، فى أدائه دور سير براون الثرى الذى قاتل من أجل استعادة حفيده.
طفلُ اليوم، المحروم من السُّكنى والدفء والحب والرعاية، هو مجرمُ الغد الذى سوف يقوّض أمن ذلك المجتمع الذى حرمه فى طفولته من كل ما سبق. أطفال الشوارع قنابل موقوتة تنتظر الزمن وحسب، لتنفجر فى وجه كل شيء. علّ الحكومة المصرية تتحرك لحماية أولئك الملائكة قبل أن يتحولوا إلى شياطين.
المصري اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق