ثمانية أفلام روائية طويلة فقط هي حصاد رحلة المخرج «داود عبدالسيد» أحدثها فيلمه المهم «رسائل البحر» الذي عرض في بداية عام 2010 السينمائي، ولكن أعماله جميعًا ترسم ملامح مخرج مختلف له عالمه ورؤيته التي تبدأ من شخوص عادية وتفصيلات نمرّ عليها كل يوم دون أن نلتفت إليها، ثم تتسع الرؤية في بعض الحالات لكي تستوعب أسئلة كبري، ولكي تناقش مفردات نستخدمها دون أن نحدد أبعادها، سينما «داود عبدالسيد» تكتسب أهميتها بحجم معالجاتها، وبمستوي المواهب التي ساهمت في تقديمها، وبأهمية الأسئلة التي طرحتها، وسيكون ممتعًا - بين فترة وأخري - أن نقف علي شاطئ هذا العالم مع التسليم بضرورة أن تكون هناك مستقبلاً وقفات أعمق وأكثر شمولاً.
لم يتمكن «داود عبدالسيد» المولود في 23 نوفمبر 1946، والمتخرج في معهد السينما - قسم الإخراج عام 1967، أن يقدم فيلمه الروائي الطويل الأول إلاّ بعد 18 عامًا من تخرجه بعرض فيلم «الصعاليك» عام 1985، ولكن السنوات السابقة لم تضع هباءً، فقد عمل في البداية مساعدًا لعدد من المخرجين مثل «يوسف شاهين» و«كمال الشيخ» و«ممدوح شكري» وأنجز بعض الأفلام التسجيلية المهمة أبرزها «وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم» (1976)، وفيلم «العمل في الحقل» (1979) عن الفنان التشكيلي الكبير «حسن سليمان»، وظل لما يقرب من عشر سنوات يكتب سيناريوهات، ويضعها في درج مكتبه، وبعد «الصعاليك» توالت أفلامه الروائية الطويلة بصورة غير منتظمة، فعرض له فيلم «الكيت كات» ثم «البحث عن سيد مرزوق» والاثنان في عام 1991، ثم «أرض الأحلام» (1993)، و«سارق الفرح» (1995)، ثم «أرض الخوف» (2000)، ثم «مواطن ومخبر وحرامي» (2001)، وغاب «داود» ما يقرب من تسع سنوات بسبب البحث عن منتج ليعود في 2010 بفيلم «رسائل البحر» الذي مكث طويلاً في درج مكتبه كالمعتاد. أول ما تلاحظه علي هذه الأفلام من حيث الشكل أنها أفلام شخصيات بالدرجة الأولي، ليس هناك هذا البناء التقليدي الذي يعتمد علي حدوتة لها بداية ووسط ونهاية، والأكثر دقة أن نقول إنها أفلام شخصيات داخل رحلة أو تجربة، نهاية الفيلم هي نهاية الرحلة أو الاختبار وهي في نفس الوقت استكمال ضربة الفرشاة الأخيرة في ملامح الشخصيات.
هذه النوعية من الأفلام معروفة بالطبع في السينما العالمية، ولكن «داود» وصل بها في السينما المصرية إلي أعلي درجات النضج والتكامل، شخصيات أفلامه هي أول ما يخطر إلي ذهنك عند ذكر أي اسم من أسماء أفلامه، وهي أيضًا مفاتيح هذه الأفلام، تمتلك الشخصيات عنده رسوخًا يذكرك بقوة الشخصيات في الروايات المهمة، كل تفصيلاتها تحظي بنفس العناية من الاسم حتي الدراسة النفسية والاجتماعية لها، تستطيع أن تقول بلا تردد إن «الصعاليك» ليس إلاّ رحلة وتجربة «مرسي» و«صلاح» و«الكيت كات» هو رحلة وتجربة «الشيخ حسني» وابنه «يوسف»، و«البحث عن سيد مرزوق» هو كابوس بطله «يوسف»، و«أرض الأحلام» هو حصاد التناقض بين شخصية «نرجس» وشخصية الساحر «رءوف»، و«سارق الفرح» هو رحلة «أحلام» و«عوض» القاسية، و«أرض الخوف» هو تجربة «يحيي» الضابط الذي ضاعت هويته، والذي خذله من أرسلوه بكل ظلالها السياسية والوجودية، و«مواطن ومخبر وحرامي» ما هو إلاّ مسيرة وطن في مرآة ثلاث شخصيات هي المواطن «سليم» والمخبر «فتحي» واللص «شريف»، هناك أيضًا «حياة» وقصتها مع الثلاثة الذين سرعان ما تتوه الاختلافات بينهم وكأنهم يتآمرون علي الحقيقة والعقل في مشهد ساخر ساحر مؤلم ومفزع. بسبب قوة بناء الشخصيات وارتباطها بمغزي أفلامه وروعة رسمها تقبل الجمهور، ومازال يتقبل فيلمه «الكيت كات» رغم بنائه غير التقليدي، لا يهرب «داود» من صنع الحواديت، فهو في الحقيقة حكّاء بارع، وكان يمكن أن يكون روائيًا كبيرًا، ولكن هذا الشكل التقليدي لا يستوعب همومه ولا هموم شخصياته، في «الصعاليك» و«أرض الخوف» مثلاً حدوتة ظاهرية ولكنها لا يمكن أن تروي لأن معناها في الصورة والحوار وفي أداء الممثلين وفي أسماء الشخصيات وفي موسيقي «راجح داود»... إلخ، يحكي «داود عبدالسيد» في أحد حواراته الصحفية أنه سمع في بداية اهتمامه بالسينما نكتة أضحكته، تقول النكتة «أن متفرجًا دخل صالة العرض، ولم يمنح «البلاسير» بقشيشًا، فأراد الأخير أن ينتقم منه، فمال علي أذنه، وقال له:
«علي فكرة.. الطباخ هو القاتل!» لم يكتف «داود» بالضحك، ولكنه قال لنفسه: سأصنع أفلامًا لا يمكن أن يحرقها «البلاسير» في كلمة. وأحسب أنه كسب الرهان بامتياز. الملمح الثاني في سينما «داود» الروائية الطويلة هو فكرة «الخلاص الفردي» عند شخصياته، ورغم أنه من أبرز كتاب السيناريو الذين ينجحون في رسم تأثير الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية علي شخصياته، إلا أن اختيارات هؤلاء تبدأ من داخلهم، كل نموذج إنساني حالة مستقلة تستحق الدراسة، وليست هناك استجابات واحدة لنفس التأثيرات، كل شخصية تبحث عن خلاصها الفردي مما يقرب عالم «داود» من عالم كتاب الأدب الوجودي، وخصوصًا أن بعض الشخصيات مثل الضابط «يحيي» في أرض الخوف تطرح أسئلة إنسانية كبري، ولكن كيف يتم هذا الخلاص؟ هناك ثلاثة مستويات يمكن التعامل معها من هذه الزاوية «1» . القلب: وعلاجه الوحيد هو الحب الذي يبدو العنصر الثابت في عالم مضطرب، الحب لا يحرر الإنسان فقط من العجز (علاقة «يوسف» و«فاطمة» في «الكيت كات») ولا يمنحه الشعور بالأمان (علاقة «يحيي» و«فريدة» في «أرض الخوف»)، ولكنه مشروع يستحق التضحية (علاقة «أحلام» و«عوض» في «سارق الفرح»)، بل هو الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بالذاكرة (علاقة «قابيل» و«بيسة» في «رسائل البحر»)، هل من قبيل المصادفة أن بعض شخصيات أفلام «داود» النسائية تحمل أسماء «دالة» مثل «أحلام» و«حياة» و«فريدة» و«نورا» و«هناء»؟ وهل من المصادفة أن تلك الشخصيات تلعب في حياة أبطال الأفلام دورًا يحمل إليها الحياة والنور والسعادة؟! «2» العقل: ودواؤه هو حسم الحيرة بخوض التجربة - حتي لو كانت مؤلمة - وصولاً إلي الاختيار.
ليس بالضرورة أن يكون الاختيار صحيحًا ولكن بدونه لا تكتمل ملامح الشخصيات ولا مغزاها. شخصيات «الصعاليك» و«مواطن ومخبر وحرامي» تتغير وتتبدل اختياراتها بصورة غريبة وفقًا لتبدل الأزمنة والظروف، ولكن لولا هذه الاختيارات لما اكتسبت الصورة المرسومة دلالاتها، قبل الاختيار تبدو الشخصية متعثرة ومضطربة («نرجس» في «أرض الأحلام» و«يحيي» في «رسائل البحر»)، ولكن فعل الاختيار هو الذي يجعل الشخصية أكثر اتساقًا مع نفسها، أما الاختيارات نفسها فهي متسقة تمامًا مع الطبيعة الإنسانية بجوانب قوتها وضعفها.«عوض» في «سارق الفرح» ليس لديه هامش كبير للاختيار لأنه ضمن بيئة عشوائية، وحبيبته «أحلام» أيضًا تختار بين ما هو ممكن ومتاح، شخصيات «داود» مثلنا تمامًا، وفعل الاختيار ليس عملاً بطوليا، ولكنه جزء من لعبة الحياة، وممارسة يومية لا يمكن أن نهرب منها لأن بديلها أن نكون مثل «يوسف» - بطل «البحث عن سيد مرزوق» الذي استيقظ علي تجربة مؤلمة بعد سنوات طويلة كان حريصًا فيها علي عدم الخروج من منزله في يوم الاجازة. «3»: وفيما يتعلق بالروح فإن عزاء شخصيات «داود» يتحقق بالحلم والأمل. ما يعطي هذه الشخصيات ثراء واضحًا أنها تملك الحلم رغم الظروف الصعبة التي تعيشها. في قلب المنطقة العشوائية في «سارق الفرح» يوجد نموذج ركبة القرداتي الذي لعبه «حسن حسني» أحلامه بلا حدود، وتتجسد في الفتاة الصغيرة التي لعبتها «حنان ترك»، ليست أحلامًا شهوانية ومادية لكنها أحلام بالجمال وبالحرية وبالشباب وبكل الأشياء التي يفتقدها، الحلم والأمل يتحول في «رسائل البحر» إلي رسالة داخل زجاجة قادمة من وراء البحر يمكن تفسيرها بأن القوي الكبري التي صنعت هذا العالم تهتم بهذا المخلوق الصغير. هنا يتحقق العزاء الروحي رغم أن العقل لا يستطيع تفسير مضمون هذه الرسائل. مازال الأمل موجودًا أيضًا عند الضابط «يحيي» في «أرض الخوف» رغم المأساة التي وجد نفسه فيها، ومازال موجودًا عند «نورا» في «رسائل البحر» التي اعتبرت حياتها السابقة أقرب إلي العاهرات، ولكنها ستولد من جديد مع «يحيي»، حتي والدة «نرجس» العجوز التي لعبتها «أمينة رزق» في «أرض الأحلام» مازالت تحتفي بالحياة وتريد أن تعيشها حتي النهاية. التفاؤل عند «داود» ليس ساذجًا لأنه لا يغفل أبدًا أن الحياة تجربة شاقة، ولكنه أيضًا جزء من اللعبة تخفف من مشقة الرحلة وتبل الريق بجرعة ماء باردة في يوم قائظ الحرارة. ليس غريبًا أن يحقق الممثلون الموهوبون أدوارًا لا تنسي في أفلام «داود عبدالسيد»، وليس غريبًا أن تصبح أعماله علامات مهمة في مسيرة صنع الأفلام الروائية، «سر داود» أنه استخدم موهبته لكي نفهم أنفسنا أفضل وأعمق، وهذا هو سر كبار المبدعين علي مر العصور.
روز اليوسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق