الجمعة، 9 أبريل 2010

بطل السكر



فى ذلك اليوم – يوم السكر – توفيت جدتى لأمى.
كنت حينذاك طفلا يناهز السابعة، وبرغم السنوات الطويلة فلم أزل أذكر كيف دق جرس الهاتف طويلا متصلا يحمل مصيبة مؤكدة. رفعت أمى سماعة الهاتف، وساد صمت كئيب ثم أجهشت بالبكاء.
نينة ماتت!
فى ذلك اليوم من أيام شهر أغسطس – شديد الإملال – جاءنى الخبر الحزين. بصراحة لم يكن حزينا جدا بالنسبة لى بقدر ما تملكنى الفزع من بكاء أمى. وانتابنى شعور مثير طرد السأم فورا، لم يكن خبرا عاديا، وهذا اليوم من أيام أغسطس صار مشحونا بجميع الاحتمالات، جريت نحو إخوتى أعلنهم الخبر، منفعلا وفخورا فى الوقت نفسه كونى انفردت بهذا الخبر الذى جعلنى محور الاهتمام.
قلت لهم بسرعة وأنا أبلع ريقى وألهث:
نينة ماتت وماما هتموّت نفسها من العياط!
هرعت أختى لمواساة أمى، وعانقها أخى الكبير أحمد، أما ياسر فقد وقف عن قرب متجهم الوجه يشعر بمسؤولية غامضة. وشرعت أراقبهم باهتمام لأعرف إن كان حزنهم حقيقيا أم مصطنعا مثلى!، عن نفسى كان حزنى - كعادة الأطفال - سطحيا مع كثير من الترقب. لابد أن عائلة أمى ستحضر كلها، وهذا يعنى لقائى مع أطفال العائلة، ومهما تظاهرنا بالحزن فسوف يكون مجالاً للعب. يجدر بى ألا أفكر فى هذا!، عيب أن أفكر فى هذا!، لكن المشكلة أننى بالفعل أفكر فى هذا!.
وفيما بعد - وكما توقعت - حضرت كل فروع الأسرة بأزهارها الصغيرة، وكانت هناك حكايات مشوقة: كل واحد منا – نحن الصغار - روى للآخر على مهل كيف عرف الخبر!، وبماذا شعر وقتها، وكيف استقبلت أمه الخبر؟، وما رد فعل والده بالتفصيل. أشياء كانت تبدو لنا أخطر ما فى العالم، هناك حيث اجتمعنا كعصافير صغار فى الشرفة الخلفية لمنزلى تتبادل اللعب والتغريد. كان هناك الكثير من الانفعال لأطفال لم يفهموا بعد حقيقة الموت.
■ ■ ■
بعد الخبر مباشرة، سمع أبى صوت التليفزيون العالى فأغلقه قائلا فى حزم:
التليفزيون ما يتفتحش يا ولاد اليومين دول.
لم أجد علاقة واضحة بين وفاة جدتى وحرمانى من برامج الأطفال. تضايقت جدا فغادرت الغرفة إلى المطبخ، وهناك كانت علبة السكر المعدنية فى متناول يدى. فى شرود وضعت قليلا منه فى فمى. لكن ياسر لكزنى مؤنبا:
عيب أوى تاكل سكر ونينة ماتت!.
وأمسك العلبة المعدنية فوضعها – بقامته الطويلة النامية - فوق رف عال، رف لا يمكن أن أصل إليه بقامتى القصيرة أبدا. وفهمت الوضع بسرعة: كان تعبير ياسر – صبى الحادية عشرة – عن الحداد أنه سيمنعنى من تناول السكر!.
يا للهول! لا برامج أطفال ولا سكر!، الآن اقتنعت بأن وفاة جدتى فعلا كارثة. لكنى واسيت نفسى أننى سأجد بعد قليل حيلة مناسبة، ياسر لن يظل فى المطبخ إلى الأبد!، ظللت أحوم طيلة النهار حول المطبخ الذى تحول إلى جزيرة قراصنة تحتوى الكنز. والكنز علبة معدنية مملوءة بالفرح!، لكن ياسر لم تلن له قناة، يبدو أنه – بالفعل – قرر أن يبقى فى المطبخ إلى الأبد، بعد أن حدد لحياته هدفا واضحا: منعى من تناول السكر!.
■ ■ ■
الساعات مرت بطيئة، وعبثا ما حاولت أن أنشغل بشىء آخر، الساعة الآن الخامسة بعد العصر موعد برنامج (فرافيرو) الذى اعتدت مشاهدته، الحياة قاسية جدا!، كلا، الحياة رائعة، ياسر غير موجود فى المطبخ الغارق فى عتمة العصارى. قلبى يدق كالطبول والعلبة اللامعة تنادينى، لكنها عالية جدا، لن أتمكن - بقامتى القصيرة - من الوصول إليها.
أين الكرسى الطويل المدهون باللون الأحمر!، يبدو أنهم استخدموه فى غرفة أخرى، لكن ذلك لم يكن ليمنعنى، فى خفة قرد مُدرب قفزت على حافة المنضدة، حرفها حاد وضيق، لكن أصابعى صغيرة ولينة. بحركات بهلوانية شديدة التعقيد، بارعة كنجم سيرك محترف، تمكنت من الإمساك بالعلبة، والهبوط بسلام إلى أرض المطبخ، سمعت فى ذهنى تصفيق المشاهدين الذين جنوا من الإعجاب بهذه القفزة البارعة المعقدة.
وقبل أن أنحنى لتصفيق المشاهدين وجدت ياسر أمامى. ناظرا لى فى صمت مخيف لعدة ثوان قبل أن ينزع العلبة من يدى، هازا رأسه فى أسف وذهول، وكأنه لم يكن يتصور - أبدا - أننى بهذه الخسة.
نينة ماتت وعاوز تاكل سكر!
لم أنبس بحرف، كان أكبر وأقوى، والأهم أنه أفلح – بإصراره – فى زرع إحساس الإثم فى قلبى. ماتت جدتى وأنا لا أفكر إلا فى اختلاس السكر، يا للعار، ويا لبشاعة ما أصنعه!، حتى الشياطين لا تفعل هذا يوم وفاة جدتها!.
انصرفت متدلى الكتفين شاعرا بالخزى، مصمما على الاعتراف لأمى حتى أتخفف من العبء الهائل، صارحتها منكس الرأس بالجريمة، ثم أردفت مؤكدا:
بس ما أكلتوش يا ماما والله العظيم!.
ولم يبد على أمى أنها سمعتنى، أو حتى اهتمت بما أقول. لكنى عاهدت نفسى – من قبيل التكفير – أن أتوقف عن أكل السكر. وداعا أيها السكر اللعين، وحتى عندما أكبر وأشرب الشاى سأشربه بدون سكر كما تفعل ماما، لا سكر إلى الأبد.
بعد قليل كنت قد تحللت من عهدى وغلبنى شيطانى، وعدت أحوم حول المطبخ تتملكنى الفكرة الواحدة، وفى كل مرة أجد ياسر واقفا عند الباب كديدبان مخلص.
■ ■ ■
كدت أجن من شدة الرغبة، وقد ألهب الحرمان خيالى، ونسيت أننى لم أكن أتناول السكر فى العادة أو أعبأ به، إذ كان السكر فى هذا الوقت من السبعينيات أصفر اللون ردىء الصناعة، وبالتأكيد لم أكن لأهتم به أو يشغل بالى.
وكانت النهاية الجميلة حينما انتظرت حتى أوغل الليل وسكنت الحركة تماما فى البيت، ونام الجميع بمن فيهم ياسر. رفعت الغطاء فى خفة عن جسدى الصغير، وتسللت إلى المطبخ حافى القدمين كيلا أوقظ أحدا.
وعلى ضوء البهو الخافت المتسلل كانت العلبة المعدنية تلمع فى الظلام كالجواهر. حمدا لله الكرسى العالى موجود فى مكانه هذه المرة، صعدت بسرعة ثم تسلقت الرف ممسكا بالحافة، زحزحت العلبة ثم تلقفتها بيدى، وبرشاقة بطل سيرك هبطت إلى الأرض دون أن أتزحزح خطوة واحدة، قفزة ماهرة جلبت لى تصفيقا جنونيا فى خيالى، لكن لم يكن عندى وقت للانحناء لأننى أمسكت بالعلبة، واغترفت السكر فى قبضتى ، وبسرعة جريت إلى سريرى الذى لم يزل دافئا، وتحت الغطاء – فى ثوان معدودات – كنت قد التهمت ألذ سكر فى حياتى!.
■ ■ ■
وتمضى الأيام، وأكبر، لم يعد أحد قادرا على منعى من تناول السكر إذا أردته، وبرغم ذلك تجدنى مستعدا أن أتنازل عن كل سكر العالم، فقط لو يعود ياسر!.


المصري اليوم - د. أيمن الجندى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق