الأربعاء، 3 فبراير 2010

٧٥% من ملح الطعام المحلى يصنع من مياه مشبعة بالصرف الصناعى والصحى


«المصرى اليوم» تكشف:
يقال إن الدخيلة مدينة سيئة الحظ، يتندر بعض سكانها بأنها «بلد منحوس..أوله محكمة، وأوسطه قسم شرطة، وآخره المقابر»، كانت المدينة إحدى بوابات دخول جيوش الحملة الفرنسية إلى مصر صبيحة الثانى من يوليو عام ١٧٩٨، لذا سميت «الدخيلة»، إلا أن وجود ثانى أكبر ميناء بالإسكندرية فيها، كان كفيلاً بانتشالها من بؤرة النسيان التى عاشتها، لتبقى المشكلة الكبرى فى تحولها إلى مصدر وباء يمتد أثره إلى مائدة الطعام فى كل بيت مصرى.
يسمى الجزء المطل من المدينة على الطريق الدولى «الدخيلة الشمعدان»، وهناك لا يفصل البيوت عن ملاحات بحيرة مريوط سوى عشرات الأمتار وترعة يطلق عليها الأهالى «الكوبرى»، كانت تحمل إليهم ماء البحر النقى، وتصب فى بحيرة مريوط، والآن يعزو البعض جفاف وتدهور حالة البحيرة العريقة إلى نضوب هذا المعين بمرور السنين، وبعد الفشل الذريع الذى أصاب مشروع الصرف الصحى رغم استمرار العمل فيه عشرات السنين، تحول صرف المدينة بأكمله إلى هذه الترعة، وبعدما كانت السيدات يجلسن على حافتها يغسلن الأوانى، فيما يصطاد الأبناء والرجال الأسماك بمختلف أنواعها، امتلأت الترعة بالقمامة والحيوانات النافقة، تشكو منها شركة المكس للملاحات.. «النصر» سابقا، تماماً كشكوى أهالى المدينة.
يقترب سعيد القرنى، أحد سكان المدينة، مبدياً رغبته فى سرد معاناة الدخيلة.. «شركة الملح دى موجودة من سنة ١٨٠٥، وعندها ٣ ملاحات فى كل أنحاء مصر، واحدة فى العريش، والثانية فى سيناء، والثالثة ملاحة برج العرب، اللى احنا فيها دلوقتى، ومساحتها ٢٧ مليون متر، وتنتج الملح بكل أنواعه، وتصدره لكل بلاد العالم فى أوروبا وأفريقيا».
ويشرح القرنى مراحل الصناعة: «يبدأ الأمر بعمل أحواض للملح، تترك خميرة من الملح فيها ويمرر ماء شديد الملوحة عليها، ليتم بعد فترة وبالتحديد فى شهر يونيو حصاد هذا المحصول، لكن المشكلة التى لم ينتبه إليها أحد إلا مؤخراً كانت فى الترعة التى تحمل الصرف الصحى للمدينة وتلقى به فى بحيرة مريوط، التى يصنع الملح من مياهها».
«راعونا يا ناس احنا بنى آدمين برضه».. بتلك الكلمات بدأ الحاج محمد، أحد السكان، يروى لنا المعاناة التى يعيشها الأهالى بسبب غياب الصرف الصحى: «كان هناك مشروع صرف صحى للمنطقة منذ ما يقرب من ٥ سنوات ولكنه لم يكتمل ولم نعرف سبب ذلك حتى الآن، ولم نجد أمامنا حينها إلا أن نجمع من كل شقة ٥٠ جنيهاً لنقوم بتركيب مواسير للصرف وننقذ أنفسنا، ولكن المواسير لم تعمل بشكل جيد وغرقنا فى مياه الصرف، فقمنا بحفر فتحات عبر الترعة التى امتلأت بالصرف الصحى لتلقى بها فى النهاية داخل الملاحات».
تقاطعه سيدة خمسينية لافتة إلى أن جميع أبنائها مصابون بأمراض صدرية جراء أكوام القمامة المتراكمة على ضفتى الترعة، المغطاة تماماً بتلال القمامة والحيوانات النافقة، أما المشكلة من وجهة نظرها فهى شعورها بالذنب عندما تطبخ لأبنائها من الملح المصنع من الأحواض المجاورة، فهى تدرك جيداً عندما تشق قناة صغيرة بعصا خشبية لصرف مياه الترعة إلى داخل الأحواض، أن هذا الصرف يعود إليها مرة ثانية، ولكن داخل آنية الطعام.
وهنا تتدخل منى، ثلاثينية هرولت إلينا تحمل طفلا على خصرها وتحاول عبثا أن تشد غطاء على رأسها، تتحدث بصوت مرتفع وكأنها تريد أن تسمع مسؤولى الشركة عبر مساحات الأحواض الشاسعة التى تتجاوز آلاف الأفدنة: «الشركة فضلت فترة طويلة تعمل الملح من مية الصرف الصحى، لسنين طويلة، والكل هنا عارف كده، ولو جربت تنزل فى احواض الملاحات هاتشوف ده بنفسك».
وبالفعل.. كلها خطوات لتتجاوز الترعة التى تحولت إلى مصرف صحى حتى تصبح داخل أحواض الملاحات، الحوض الأوسط والمطل على الطريق الدولى تبدو تربته عطنة، الماء الواقف فيها آسن له رائحة الصرف الصحى، ما أن تلقى حجرا فيه حتى يغوص فى التربة، مؤكداً أن هذا المكان تشبع بمياه الصرف لسنوات طويلة.
السؤال الأهم الآن: هل مياه البحيرة وحدها هى السبب المباشر فى هذا الوضع الخطير، وكيف لم ينتبه مسؤولو شركة المكس لذلك؟
تأتى الإجابة هذه المرة من أحد مهندسى الشركة، وهو فى الوقت نفسه من سكان «الدخيلة الشمعدان»، يقول طارق: «منذ ٣ أشهر قامت الشركة بإغلاق مصب الترعة على البحيرة، وفى الوقت نفسه فإن الصرف الصحى يزداد فى الترعة دون وجود مصرف له، ولأن المسافة الفاصلة بينها وبين الملاحات لا تتجاوز العشرين مترا، فقد بدأت عملية الرشح تنقل مياه الصرف من الترعة إلى الأحواض، وتشبعت منه التربة، وأصبح التخلص من تأثيرها يستلزم تعطل الأحواض لفترة لا تقل عن عام كامل مع غسلها بشكل دورى كى يمكن التخلص من نسبة القلوية العالية جدا التى تسببها مياه الصرف».
من بين الجموع التى تابعتنا منذ لحظة وصولنا، والتى كانت أشبه بمظاهرة شعبية، عبرت عنها موظفة إدارية باحدى المدارس: «أخيرا مابقيناش منسيين وفى ناس بتسأل علينا وتفكر فينا»، من بين هذه الجموع خرج طفل تركت أسراب الناموس المتوطنة حول الترعة آثارا قاسية على وجهه، اسمه إسلام، تطوع أن يفتح باباً جديداً يوضح أسباب تلوث أحواض الملح، التابعة للشركة الحكومية، يقول إسلام: «لما الترعة بتتملى بتغرق البيوت، عشان كده عملنا سد من ناحيتنا عشان الميه الوحشة تروح ناحية البحيرة– يقصد الملاحات– ولما الشركة حاولت تحط سد من ناحيتنا حطت جبل ملح، وبقى لونه أسود، وبرضه الميه وصلت هناك».
هنا قررنا أن نعاين هذا بأنفسنا، توغلنا داخل أحواض الملح، بعضها جاف والبعض الآخر رطب تتوسطه برك مياه متفرقة، لون الماء صار أسود، وباستخدام عصا خشبية، تستطيع التأكد أن المياه والتربة تشبعتا من المخلفات الآدمية»، يعلق المهندس طارق مؤكداً أن الشركة لا تستطيع أن توقف عملها وفى نفس الوقت لا تقدر على إظهار هذه المشكلة إعلامياً لأنها تضر بمصالحها وسمعة منتجاتها التى تصل إلى بلدان كثيرة فى العالم.
«هما عاوزين يغرقونا إحنا فى مياه الصرف الصحى والمهم عندهم شغلهم بس إحنا مش سايبينهم».. جاءت تلك الكلمات الغاضبة على لسان محمد سالم- أحد سكان المنطقة- الذى أخذ يتحدث عن محاولات شركة المكس للملاحات لإبعاد الصرف الصحى للمنطقة عن أحواضها عن طريق إغلاق مصرف الترعة على البحيرة، وقال سالم: «كل ما يسدوا مصب الترعة نروح عاملين فتحات علشان مياه الصرف الصحى بتزيد فى الترعة وهتغرقنا وما بيبقاش قدامنا غير إننا نعمل فتحات علشان المياه تقل شوية».
ولأن البحيرة بمنابعها هى الأساس فى صناعة الملح هنا، كان لابد من رصد مصادر التلوث فيها، التلوث هنا صناعى وزراعى وصحى، يأتى من مصانع وادى القمر عبر مصرف المكس ومن الشركة المصرية الألمانية للبورسلين الكائنة بالكيلو ١٩ من الطريق الصحراوى، والحال نفسه مع شركة الإسكندرية الوطنية للتكرير والبتروكيماويات المعروفة بـ»إنريك»، ويأتى مشبعاً بالصرف الزراعى من ترعة النوبارية التى تسير بمحاذاة الطريق الدولى لمسافة لا بأس بها قبل أن تلتقى بالبحيرة، على أمل إمدادها بالماء بغية إنقاذها، إلا أن هذا الأمل تحول إلى مصدر رئيسى للتلوث،
حيث يأتى الماء مشبعاً بالكيماويات والأسمدة الزراعية، وكأن عناصر الطبيعة تواطأت لقتل هذه البحيرة وأسماكها والصناعات القائمة عليها، خاصة صناعة الملح التى تحتل شركة المكس مكانا رئيسيا فى إنتاجه محلياً وتصديره أيضاً، فوفق الموقع الرسمى لوزارة الاستثمار، فإن هذه تعد الشركة هى الأكبر فى هذا المضمار فى الشرق الأوسط ويصل إنتاجها من الملح الخام إلى ٢.٧ مليون طن سنوياً، وتصدر أكثر من مليون طن من منتجات الملح المختلفة بما يمثل ٨٥% من حجم صادرات مصر من الملح سنويا إلى الولايات المتحدة وتركيا وقبرص وبلغاريا ولبنان وسلوفينيا.
سبب آخر من أسباب التلوث يكشفه لنا أحد العاملين بمحطة صرف الورديان، غرب الإسكندرية، التى يفترض أنها محطة لمعالجة مياه الصرف الصحى، إلا أن الموظف، الذى رفض نشر اسمه، قال إن زيادة كمية الصرف، خاصة فى فصل الصيف تصيب الأجهزة بالعطب..وحينها «نضطر إلى فتح مداخل للمياه لتصب على البحيرة مباشرة».
يصحبنا الموظف فى جولة داخل المحطة، مؤكدا أن المياه التى تخرج معالجة أيضا ليست بالمواصفات المعتمدة، وأنها لا تختلف كثيرا عن المياه قبل معالجتها «لأن طاقة المعدات رغم حداثتها صارت لا تتماشى مع كميات الصرف التى تستقبلها المحطة، وبالتالى لا مفر من تحويلها مباشرة إلى البحيرة».
أحد الصيادين هنا انفجر غضبا فور أن رآنا، اسمه حمدان، يحمل شباكه وأشياءه إلى مكان ناءٍ، يقول إن أسماك البحيرة ماتت وأصبحت مسممة، ومذاقها صار هو الآخر «ماسخاً»، فهو لا يقبل أن يطعم أولاده أسماكا تغذت على «المجارى» أو على مياه صرف «شركة البترول»، ويضيف «حتى النوبارية بقت ملوثة، والملاحات والبحيرة والبحر كمان، طيب نأكل عيالنا ولا نضحك على الناس ونأكلهم أكل مغشوش مسموم.. حسبنا الله ونعم الوكيل».
على الجانب الآخر، تؤكد شركة المكس للملاحات، من خلال مدير عام البيئة والجودة، ناهد الشريف، أن الشركة قدمت عدة شكاوى إلى وزارة البيئة بسبب الصرف الصحى الناتج عن منطقة الدخيلة لكن دون جدوى، نافية أن تكون هذه المياه قد طالت أحواض الشركة بأى شكل من الأشكال، أو أن الأمر يؤثر على جودة إنتاجها.
تقول ناهد إن المسؤولين بالشركة اعتادوا منذ سنوات على إرسال الشكاوى إلى وزارة البيئة بسبب تضررهم من الصرف الصحى لمنطقة الدخيلة، وعندما يئسنا من «لا مبالاة» الوزارة أقمنا سدوداً أمام المنطقة السكنية حتى لا يصل الصرف للملاحات، ولكن الأهالى دائما ما يزيلون تلك السدود وهو ما يؤثر على التربة، نافيةً أن تكون هناك إمكانية لتسرب «الصرف» إلى أحواض الملاحات، وتشير ناهد إلى أن معامل الشركة تجرى فحوصات للعينات بشكل يومى للتأكد من جودة الملح ..
«وأؤكد لكم أن الأمر لا يقتصر على تحاليلنا فقط، بل إن وزارتى الصحة والبيئة تقومان بعمل تحاليل أخرى فى معاملهما»، وختمت الشريف حديثها قائلة: «نحن نلتزم بالمواصفات المصرية والعالمية للملح ولا يمكننا أن نعرض منتجنا لأى خطر، ولكننا نناشد وزارة البيئة التصرف فى أزمة الصرف الصحى للدخيلة لأننا نخشى تأثيره على التربة».
هذه الوقائع التى رصدناها من تلوث مياه أحواض ملاحات المكس وبحيرة مريوط بفعل الصرف الصناعى والصحى الملوث، وهى التى يصنع منها ٧٥% من الملح الذى يتناوله المصريون، حملناها إلى وزارة البيئة لتفسر لنا كيف تفاقم هذا الوضع الذى لا يمكن التكهن بتاريخ بدايته؟بدورها استبسلت «البيئة» فى كشف حجم الجهد الذى بذلته لإيقاف هذه الملوثات، البيان الذى أرسلته لنا جاء ليكمل المشهد، ويمثل «صك اعتراف» حكومياً بهذه الكارثة البيئية والصحية، على الأقل فيما يتعلق بدور «الصرف الصناعى» فيها.
يؤكد البيان استمرار الشركة الألمانية للبورسلين فى صرف مخلفاتها فى المجرى المغذى للأحواض الخاصة بشركة المكس للملاحات، على الرغم من التنبيه المتكرر على الشركة بضرورة وقف الصرف فى المجرى، الذى يخالف ما تعهدت به فى خطة توفيق أوضاعها المقدمة لجهاز شؤون البيئة.
ويكشف البيان عن تلاعب متعمد من مسؤولى الشركة، حيث أكد مسؤولو الشركة للوزارة فى مستندات رسمية أنهم يقومون بكسح المياه عن طريق سيارات الصرف الصحى وأنها غير كافية لكسح كل المياه الخارجة من الشركة، لذا فإنهم مضطرون لصرف الكمية المتبقية على مجرى تغذية الملح، إلا أن تحريات «البيئة» جاءت لتؤكد، بعد الإطلاع على سجلات تشغيل سيارات الصرف الصحى، أن شركة البورسلين طلبت كسح الرواسب فقط وليس المياه الملوثة للأحواض.
المصري اليوم - هشام علام ودارين فرغلى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق