احتفل الإعلام المصرى فى العام الماضى باختيار فيلم «المسافر» فى المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائى الدولى، وأفردت الصحف المصرية صفحات كاملة للفيلم وصانعيه، ولم يهاجم أى شخص مخرج الفيلم أحمد ماهر، أو يتهمه بالتطبيع لوجود الفيلم الإسرائيلى «لبنان» فى المسابقة نفسها، كما لم تكتب صحيفة عنوانا يقول «إسرائيل تهزم مصر فى فينيسيا» عندما فاز الفيلم الإسرائيلى بجائزة الأسد الذهبى، بينما لم يفز «المسافر» بأى جائزة.
وفى عام ١٩٩٩، احتفل العالم العربى بشكل عام، ومصر بشكل خاص، بالعالم المصرى أحمد زويل لفوزة بجائزة نوبل فى الكيمياء، وحتى الآن، نستقبله باهتمام وتقدير وإجلال رغم أنه ذهب إلى إسرائيل فى عام ١٩٩٣ ليتسلم جائزة «وولف برايز» الإسرائيلية، بل وألقى خطابا فى الكنيست. وطوال سنين عمل المخرج الكبير يوسف شاهين فى السينما، كانت تشترك أفلامه فى مهرجانات وتنافس أفلاما إسرائيلية، فهل إسرائيل فينيسيا وزويل وشاهين غير إسرائيل المركز الثقافى الفرنسى؟
من حق أى شخص، أيا كان موقعه فى الحياة، أن يختار ويرفض بحرية وفقا لقناعاته الشخصية وممارساته «المعلنة»، لكن ليس من حقه أن ينادى بتعميم اختياراته، أو يعتبر من يختار غيرها «عميلا» خاصة فى موضوع متشابك وحساس ومعقد مثل قبول أو رفض إسرائيل التى نتعامل معها حتى الآن «كصفقة» إما نقبلها كلها بكل تفريعاتها ونصبح «مطبعين» أو نرفضها كلها ونظل «غير مطبعين»، وننتظر أى فرصة لننصب «سيرك» الوطنية رغم أننا، عمليا، كل ما نفعله كمصريين ضد مصر.
دون مزايدات أو شعارات، التعامل مع إسرائيل كدولة أمر مرفوض ومحسوم ولا يحتاج منا التأكيد عليه كل يوم، واعتبارها العدو الأول لمصر لا جدال فيه، بل هو ميراث بحجم حبات رمل صحراء مصر نفخر بحمله، لكن الوطنية ليست «كوفية» نضعها حول رقابنا عندما تلفحنا رياح الفشل الباردة، ونخلعها عندما يعتدل الجو العام للمصالح، فطالما أن إسرائيل العدو،
يجب أن نحرص على هزيمتها فى كل فرصة، ولن يحدث ذلك إلا إذا كنا مستعدين لأى مواجهة فى أى مجال، بدلا من النفخ فى نيران الاتهامات التى تحرقنا وحدنا ولا تضرها، فما تأثير اشتراك فيلم «تافه» لمخرجة «ليس لها أى قيمة»– «المصرى اليوم» نشرت سيرتها الذاتية الفقيرة– مهما كانت جنسيتها؟
وماذا فعل المقاطعون لمصر قبل أن يرفضوا، هل جعلتهم شهاداتهم السينمائية وكم المهرجانات الأجنبية التى يحضرونها «عمال على بطال» يقدمون أفلاما ذات قيمة، وهل رفضهم من منطلق قوة وتمكن من أدواتهم ومواهبهم، وإذا كانوا كذلك، لماذا «تدوخ» إدارة مهرجان القاهرة السينمائى (المصرى الدولى) كل عام على فيلم «عدل» ليمثل مصر.
والسؤال: لو وصل فيلم لمخرج من المقاطعين إلى التصفية النهائية لمهرجان أوسكار (الأمريكى المحلى) ووجد ضمن منافسيه فيلما إسرائيليا فى مسابقة أفضل فيلم أجنبى، هل ينسحب ويرفض حضور حفل توزيع الجوائز ويحرم نفسه من السير على السجادة الحمراء؟
وماذا نفعل لو تأهل منتخب مصر إلى نهائيات كأس العالم، ووجد نفسه سيلاعب منتخب إسرائيل فى أى من مباريات التصفيات، هل ينسحب أم يواجهه ويهزمه مثلما فعلت إيران مع الولايات المتحدة فى نهائيات عام ١٩٩٨ عندما فازت ٢-١ وصفق لها العالم؟
الانسحاب هو الاختيار الذى يفضله الضعيف، وبدلا من «الجعجعة بلا طحن»، نركز فى عملنا ونطور أدواتنا وننتج أفلاما سينمائية حقيقية نغزو بها العالم وإسرائيل فى عقر دارها (مثلما فعل العالم المصرى زويل بعبقريته العلمية فقط)، فهل يعلم السادة المقاطعون أن إسرائيل تنفق ٨٠ مليون دولار سنويا على الإنتاج السينمائى، وهل يعلمون بوجود «مجلس» للسينما فيها هو الوحيد صاحب القرار فى صناعة السينما، وقراراته لا يتدخل فيها حتى مجلس الوزراء،
ويشرف على ٥ صناديق للسينما تعمل كل منها فى إنتاج نوع معين من الأفلام ضمن خطة محكمة ومتكاملة (وضعت فى أواخر الستينيات ونفذت على مراحل)، وهل يعلمون أن إسرائيل تحرص على إنتاج ١٠ أفلام ضخمة كل عام ذات مستو عال فنيا لتشارك فى المهرجانات الدولية الكبرى،
وهل يعلمون أنها تخصص ميزانية لإنتاج أفلام «وثائقية للأطفال»، وكل ذلك بخلاف الإنتاج الخاص الذى يحرص على تقديم أفلام سينمائية فعلا، ولا يشغل باله بأجور السادة النجوم وتفصيل أفلام على مقاسات أحذيتهم حتى فى الأفلام التجارية؟
هذا هو عدونا فى مجال واحد فقط، فهل نستعد له ونهزمه بمنطق كل مجال نواجهه فيه، أم نترك له الساحة، وندير ظهورنا له وللعالم، ونتفرغ للسب والقذف وتوزيع الاتهامات على بعضنا البعض، والقيام بأدوار بطولية زائفة فى غرف مغلقة لأننا أضعف من الخروج إلى الشارع؟
المخرج ولاعب الكرة والمخترع والعالم والمهندس والممثل والدكتور الحقيقيون الذين يتمكنون من أدواتهم ويعلمون إمكانياتهم لا يخافون من المواجهة أيا كانت جنسيتها، وهؤلاء فقط عندما يقررون الانسحاب سيكون من منطلق قوة، وبالتالى سنحترم موقفهم، أما المهتزون والضعفاء فى مجالاتهم الذين يبحثون عن «جدار» يداريهم لصناعة بطولات وهمية، فهم الذين يضحكون علينا بشعارات ويضعون «كوفية» الوطنية للاحتماء من «برد» الفشل.
المصري اليوم - إسلام حامد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق