السبت، 17 أبريل 2010

نهر الدموع‏ !



أنا رجل علي المعاش أعمل مستشارا تجاريا لشركة خاصة وعمري‏68‏ عاما‏,‏ ورحلت زوجتي عن الحياة عام‏89‏ عن عمر يناهز‏47‏ عاما‏,‏ وتركت لي بنتا عمرها‏19‏ عاما وولدا عمره‏12‏ عاما‏.

ورفضت الزواج بعدها وتفرغت لهما وفاء لأمهما التي ربطتني بها علاقة حب قوية‏,‏ وساعدتني في تربيتهما والدتي رحمها الله‏,‏ وأختي حفظها الله ورعاها وتعمل أستاذة جامعية وحصلت علي لقب الأم المثالية‏..‏ وتخرج الاثنان في كليتهما‏.‏وتقدم لابنتي شاب يعمل محاسبا في إحدي دول الخليج عن طريق صديق لي‏,‏ ولذلك لم أهتم بالسؤال عنه‏,‏ وتمت الخطبة وعقد القرآن بالرغم من تحفظات أختي علي أسلوب والدته في المعاملة ثم عاد إلي عمله بالخليج علي أن تتم إجراءات الزفاف بعد خمسة أشهر‏,‏ وخلال هذه الفترة الوجيزة لم تظهر أي خلافات‏,‏ وكان يتصرف بمثالية‏,‏ وعند عودته أتممنا الزفاف‏,‏ ومر شهر العسل بسلام‏,‏ ثم لاحظنا بخله الشديد‏,‏ لكني تجاوزت عن ذلك واعتبرته نوعا من الحرص‏,‏ إلي أن سافرا إلي الخليج‏,‏ وظللت اتابعهما تليفونيا كل أسبوع‏.‏وحدث تأخر في الحمل‏,‏ وجاءت ابنتي إلي القاهرة لإجراء فحوص طبية‏,‏ وخضعت للعلاج وتعافت تماما‏,‏ وجاء زوجها إلي مصر‏,‏ ولاحظت لأول مرة أنه متسلط إلي حد كبير‏,‏ كما أن والدته تعامل ابنتي معاملة لا تليق بها‏,‏ وتأكدت من بعد نظر أختي عندما تحفظت عليها عند الخطبة‏.‏وحملت ابنتي لكني أحسست في مكالماتها الهاتفية أن هناك شيئا لا تريد أن تفصح عنه إلي أن حضرت للوضع‏,‏ وعرفت منها أنه لا يوفر لها المتطلبات الضرورية‏,‏ فالتمست له الاعذار‏,‏ وساعدتها في تدبير احتياجاتها‏,‏ ورزقها الله بابنة جميلة‏,‏ هي قرة عيني‏,‏ واستدعيت خالة ابنتي لرعايتها بعد الولادة‏,‏ وأقمنا سبوعا بحضور الأسرتين‏.‏والمدهش أن زوجها ووالدته أقاما احتفالا آخر بالسبوع في منزل والدته ولم يدعنا إليه‏,‏ وبعد شهرين عادا إلي الخليج‏,‏ وتكرر إحساسي بأن هناك شيئا ما تخفيه عني ابنتي‏,‏ ولم يمر وقت طويل حتي فاجأتني بأنها ستعود هي وابنتها إلي القاهرة‏,‏ فأسرعت إلي المطار‏,‏ وما إن وقعت عيناي عليها حتي وجدتها نبكي بحرارة‏,‏ بكاء من القلب‏,‏ فإحساسي كأب هو أن ابنتي تمر بأزمة‏,‏ وحدث ما كنت أخشاه إذ أخبرتني خالتها أنه يسئ معاملتها‏,‏ وأن درجة قسوته عليها زادت بعد علمه بحملها الثاني‏,‏ فهو يحملها المسئولية لأنه غير مستعد لاستقبال مولود ثان‏.‏وأقامت عندي ومرت أيام ثم إذا باتصال هاتفي من زوجها يطلبها للسفر إلي الخليج لترتيب أمورهما حيث إنه سينهي إجراءات عودته نهائيا‏,‏ وبالفعل طارت إليه‏,‏ وعادا بعد فترة وجيزة واستقرت بهما الحال في إحدي ضواحي القاهرة‏.‏وراح يبحث عن عمل لكنه لم يجد ما يناسبه وباتصالاتي تم إلحاقه بالعمل مع أحد رجال الأعمال المرموقين مديرا ماليا بإحدي شركاته‏,‏ وهدأت الأمور قليلا‏,‏ ثم أصيبت إبنتي بإنفلونزا حادة تطورت إلي حساسية في صدرها‏,‏ ونقلناها إلي المستشفي بناء علي طلب الطبيب المتابع لحالتها‏,‏ وأصيبت بنزيف حاد‏,‏ وأجريت لها عملية إجهاض وساءت أحوالها‏,‏ وبعد عشرة أيام في العناية المركزة انتقلت إلي رحاب الله عن عمر يناهز‏29‏ عاما‏..‏ ولك أن تتصور حالة أب يفقد ابنته وهي في هذه السن‏..‏ لقد كانت صدمة مروعة لي زلزلت كياني‏,‏ وكيان شقيقها فتضرعنا إلي الله آناء الليل والنهار أن يلهمنا الصبر والدعاء لها بالقبول الحسن‏.‏وأقامت ابنتها البالغة من العمر سنة ونصف السنة‏,‏ مع جدتها لأبيها‏,‏ وهي سن لا تدرك فيها شيئا مما يدور حولها‏,‏ وداومت علي زيارتها أنا وابنتي ولاحظت طوال فترات وجودنا نظرات وهمسات بين والدها وجدتها توحي بشيء ما بينهما‏.‏واستقرت الأوضاع شهرين فقط‏,‏ ثم علمت أن زوج ابنتي تقدم لخطبة ابنة خالتها لكن أهلها رفضوه وفقا لعاداتنا وتقاليدنا‏..‏ ولم نكن حتي ذلك الوقت قد تحدثنا في تركة ابنتي‏,‏ وتدخل الصديق الذي كان سببا في زيجتها وبعد جلسة عاصفة تم الاتفاق علي تصفية التركة‏,‏ وهنا أفصح زوجها عن ماديته وأنانيته التي ليس لها حدود‏.‏وتزوج علي فراش ومنقولات ابنتي‏,‏ وأقامت حفيدتي معه‏,‏ وهي لا تعلم عن والدتها شيئا وتمسكت بزيارتها في بيت جدتها لكي لا أذهب إلي شقة ابنتي فأجتر الأحزان علي رحيلها‏,‏ وتحملت المقابلات الجافة‏,‏ والرقابة الصارمة علي الطفلة حتي لا أنفرد بها فأشبع من الجلوس معها وإدخال السرور والبهجة عليها كما كنت أفعل مع والدتها رحمها الله‏,‏ وبلغت الطفلة ست سنوات وحاولت في إحدي الزيارات أن أطلعها علي صورة والدتها‏,‏ فإذا به ينتزعها مني ويهددني بأنني لن أراها مرة أخري‏,‏ ثم منعني من زيارتها عندما حاولت أن أعرفها بأن والدتها ماتت وتدخل أخوه وزوج اخته لتهدئة الأمور واستمررت في زيارتها برغم المعاملة السيئة‏.‏وفي حفل زفاف ابني وجهت الدعوة له للحضور ومعه حفيدتي‏,‏ لكنه منعها من الحضور‏,‏ وتحاملت علي نفسي وواظبت علي زيارتها‏,‏ وحرصت علي إقامة حفل عيد ميلاد لها سنويا‏,‏ وأذكر أنها سألتني في عيد ميلادها الثامن وهي في حيرة ليه أنا لي ثلاثة جدود‏,‏ فعدت إلي الالحاح علي أبيها بأن يقول لها الحقيقة لأنها سوف تعرفها ذات يوم‏,‏ ومن الأفضل أن تعرف ذلك وهي صغيرة حتي لا تصاب بصدمة أو عقدة عندما تكبر‏,‏ لكنه تحجج دائما بأنه سوف يعرضها علي طبيب نفسي ليتولي توجيهه إلي الأسلوب الأفضل للتصرف في هذا الموضوع‏.‏ولما بلغت الطفلة‏10‏ سنوات‏,‏ لم أجد بدا من أن أعرض الأمر علي دار الافتاء وجاء ردها بأن هذا قطع صلة رحم‏,‏ ولابد أن تعرف الطفلة أمها‏,‏ وأن والدها إذا لم يعرفها بذلك فإنني مسئول عن تعريفها به وإلا سأكون مشتركا في الوزر وقطع صلة الرحم حتي لو هددني ومنعني من رؤيتها‏.‏وأبلغته بالفتوي‏,‏ وطلبت منه إبلاغها بالحقيقة التي يخفيها عنها‏,‏ فرد علي يكفي أنها تعرف أنك جدها وخلاص‏..‏ فلم ألق له بالا وأجبتها علي سؤالها بأنني جدها‏..‏ والد والدتها‏..‏ وأن خالها شقيق والدتها رحمها الله‏.‏وعندما جاء أبوها أخبرته بما قلته لها فإذا به يقيم الدنيا ولا يقعدها‏,‏ وقال لي بانفعال شديد بيني وبينك المحاكم‏,‏ وعندما توجهت لرؤيتها في موعد زيارتها لم أجد أحدا في البيت‏,‏ ومنعني من الاتصال بها بالمحمول الذي اشتريته لها‏.‏وعرضت الأمر علي القضاء وحكمت لي المحكمة بحق الرؤية‏,‏ ولم يكن أمامه الا التنفيذ وبدأت رحلة عذاب جديدة‏,‏ إذ لم يتركني دقيقة واحدة معها علي إنفراد ومنعني من تقديم أي هدايا لها‏,‏ وأراد افتعال المشكلات بأي طريق‏.‏وبلغ بي الضيق والغضب مداه عندما عرفت أنه قال للطفلة وهي صغيرة أن زوجته هي والدتها‏..‏ وهي تصرفات لا ترضي الله‏,‏ وسوف تترك آثارا نفسية مدمرة علي الطفلة عندما تكبر‏,‏ لكن هذا النوع من البشر لا يلقي بالا لنفسه وأهوائه‏,‏ فبماذا تشير علي في التعامل معه في قادم الأيام حتي أحافظ علي التوازن النفسي للطفلة وتدرك في الوقت نفسه الحقيقة الغائبة عنها وإزالة اللبس الذي سببه لها بنسبها إلي من ليست أمها‏..‏ إنها مسألة تؤرقني ومنذ رحيل ابنتي لم يتوقف نهر الدموع عن التدفق من عيني‏,‏ بعد أن فقدت حبيبتي ثم روحي‏,‏ وها آنذا أفقد ما بقي لي في هذه الحياة من أمل‏!.‏‏*‏ الوضوح يا سيدي هو مفتاح الحل لكل أزمة قد تعصف بالإنسان في أي مرحلة من مراحل حياته‏..‏ وقد عشت حياتك واضحا‏,‏ وتعاملت مع زوج ابنتك بشفافية‏,‏ لكنه مضي في خط الأنانية الذي رسمه لنفسه منذ البداية عندما تزوج ابنتك وسافر إلي الدولة الخليجية التي يعمل بها‏,‏ وكل همه جمع المال ولم يبال بمرضها وظل يضغط عليها حتي ماتت كمدا وحسرة علي نصيبها في الحياة‏.‏والمدهش أن ضغطه عليها لم يتوقف عند حد الأنانية‏,‏ وإنما إمتد إلي سلوكه معها فظل يعنفها علي حملها وسلط عليها لسانه‏..‏ واللسان عنوان الانسان ومفتاح شخصيته‏,‏ فالمرء مخبوء تحت لسانه حتي إذا فتح فاه بانت محتوياته‏..‏ وهذا ما حدث مع ابنتك عندما ظهرت مثالبه‏..‏ وكان الأحري بك أن تتوقف عند ملاحظة أختك منذ البداية فتعيد حساباتك مع هذا الشاب قبل أن توافق علي تزويج ابنتك له‏.‏ولكن حدث ما حدث‏,‏ ورحلت عن الحياة وتبقي وديعتها لديكم‏,‏ فمن حق ابنتها أن تعرف ان امها ماتت وأنها تعيش مع زوجة أبيها‏,‏ فهذا أفضل لها من أن تفاجأ وهي في ريعان الشباب بالحقيقة المرة‏,‏ واني استغرب موقف أبيها‏,‏ ولا أدري سبب تعنته الغريب‏,‏ واقول له بقليل من الإدراك السليم للأمور والتسامح مع الآخرين سوف تريح نفسك وتحسن علاقتك بأهل زوجتك الراحلة‏,‏ ومهما يكن بينكما من خلافات فعليك أن تعلم أن المال لا يبني السعادة‏,‏ وإنما يبنيها الود والتسامح وطول البال‏.‏والزمن كفيل بمداواة الجراح‏,‏ وأظن أن حفيدتك قد فهمت الحقيقة وعرفت برحيل أمها‏,‏ ولذلك أنصحك بأن تهدأ في معالجة الأمور‏,‏ وأن تحاول كسب ود زوج ابنتك الراحلة‏,‏ ولا تثير العواصف ضده‏,‏ فالعاصفة تهز الأشجار بعنف وتحطم كل شيء‏..‏ أما النسيم فينقل البذور في هدوء‏,‏ فانثر بذور الود علي الجميع وأعد جسور المودة مع والد حفيدتك‏,‏ فالهدم صارخ والبناء صامت‏,‏ وعليك أن تجتهد في بناء ما تهدم من علاقتكما‏.‏وإذا كانت المحكمة قد حكمت لك بالرؤية‏,‏ وهو يماطل في ذلك‏,‏ فعليك أن تستعين بصديقك الذي كان سببا في زواج ابنتك منه لكي يتراجع عن موقفه وكن لينا معه حتي تصلا إلي حل وسط يتيح لك رؤية حفيدتك‏,‏ ويجعلك علي وفاق دائم مع أبيها وزوجته‏,‏ وإني ألمس بين ثنايا سطور رسالتك أن زوجة أبيها تعاملها معاملة حسنة‏,‏ وتعتبرها كإبنتها وهذا مكسب كبير لها‏.‏فكن حريصا يا سيدي علي استمرار هذه العلاقة الجميلة‏,‏ ولا تكرر علي مسامع أبيها أنك تفعل كذا وكذا من أجلها‏..‏ وضع ذلك في ميزان حسناتك عند الله‏..‏ وأقبل علي الدنيا بروح جديدة تتسم بالتسامح مع الآخرين حتي تنال رضا الله‏..‏ وهي النصيحة نفسها التي انصح بها زوج ابنتك‏..‏ واسأله سبحانه وتعالي أن يجمعكما علي طاعته‏..‏ إنه علي كل شيء قدير‏.‏

الاهرام - أحمد البري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق