الأحد، 1 نوفمبر 2009

أدرينالين‮ .. ‬بث مباشر من المشرحة‮.. ‬و جرائم تفتقد الإقناع‮ !‬


في ذاكرتي من أيام الطفولة حلقات تليفزيونية أمريكية لا تنسي عنوانها‮ ‬د.كوينسي‮ ‬بطل الحلقات طبيب شرعي يحمل العمل اسمه وينجح في حلقة في حل لغز إحدي الجرائم من خلال قيامه بتشريح‮ ‬الجثث وتحليل العينات،‮ ‬وما أذكره جيداً‮ ‬أن الحلقات كانت أولاً‮ ‬عملاً‮ ‬تسويقياً‮ ‬جيد الصنع والحبكة‮ ‬يعتمد علي تقديم جريمة‮ ‬مقنعة في تفصيلاتها ودوافعها،‮ ‬كما أنه يقدم ثانياً‮ ‬تفصيلات علمية‮ ‬عن دقائق عملية التشريح وأهميتها في كشف الجرائم،‮ ‬وفي ذاكرتي أيضاً‮ ‬من سنوات قليلة ماضية مشاهدة فيلم‮ ‬صمت الحملان‮ ‬بطولة‮ ‬أنتوني هوبكنز‮ ‬وجودي فوستر‮ ‬وإخراج‮ ‬جوناثان ديم‮‬،‮ ‬وهو عمل يشرح النفوس بنفس الدرجة التي يشرح فيها الأجساد،‮ ‬لدرجة أنه يقدم شخصية خيالية تماماً‮ ‬هي‮ ‬د‮. ‬هانيبال‮ ‬بكل أبعادها وتفاصيلها،‮ ‬كما لا ينسي تقديم العقدة التي تحكم حياة ضابطة الشرطة‮ ‬جودي فوستر‮ ‬مما يجعلها تشعر بالذنب تجاه الضحايا الذين لا يمكن انقاذهم‮.‬ النموذجان السابقان ضروريان للحديث عن فيلم‮ ‬ادرينالين‮ ‬الذي كتبه‮ ‬محمد عبدالخالق‮ ‬في تجربته الأولي ومحمود كامل‮ ‬في الفيلم الثاني الذي يعرض له بعد‮ ‬ميكانو‮ ‬أدرينالين‮ - ‬مع الأسف ـ هو النقيض من هذين النموذجين السابقين،‮ ‬لقد انبهر صناعه بفكرة أنهم سيقدمون‮ - ‬ربما للمرة الأولي‮ - ‬بعض تفصيلات عمل الطبيب الشرعي في تشريح الأجساد،‮ ‬ولكنهم نسوا أنهم يجب أن يقدموا عملاً‮ ‬بوليسياً‮ ‬مشوقاً‮ ‬ومحكم الصنع،‮ ‬ونسوا‮ - ‬وذلك هو الأهم‮ - ‬أن تشريح النفوس وتحليل الدوافع هو الأساس قبل تمزيق الأعضاء وفتح الأحشاء،‮ ‬وبسبب كل ذلك حفل العمل بعدد لا بأس به من الثغرات والأعاجيب،‮ ‬وبدت جرائمه بدون دوافع‮ ‬مقنعة،‮ ‬وظهرت‮ ‬شخصيات أساسية بشكل‮ ‬غامض كل‮ ‬غايتها أن ترتكب جريمة لكي تنتقل في بث مباشر مطول إلي حجرة التشريح،‮ ‬للقتل ثم تحدث الجريمة،‮ ‬ثم تدور التحقيقات والتحريات،‮ ‬ويسهم التشريح بدوره في تقديم المعلومات حتي الوصول إلي الجاني،‮ ‬ولكن صناع‮ ‬ادرينالين‮ ‬يتوقفون طويلاً‮ ‬أمام حجرة التشريح في مقابل إهمال كل العمليات السالفة الذكر،‮ ‬ولذلك يبدو الأمر في كثير من لحظات الفيلم كما لو أنه مباراة للعبث باجساد الموتي‮!‬ حاول أن تركز معي،‮ ‬وسأحاول‮ - ‬من ناحيتي‮- ‬أن اركز لك التفاصيل الطويلة التي تأخذنا شرقاً‮ ‬وغرباً‮ ‬في ايقاع رتيب وبالحدود المتواضعة من الفضول والتشويق،‮ ‬يستدعي ضابط الشرطة‮ ‬محمود أبو الليل‮ ( ‬خالد الصاوي‮) ‬ومساعده‮ ‬عمر‮ (‬إياد نصار‮) ‬للتحقيق في جريمة قتل،‮ ‬رجل تم نزع جلد وجهه ويديه بعد طعنه وتركه في سرير بمنزل النحات‮ ‬أسامة‮ (‬سامح الصريطي‮) ‬وزوجته الجراحة منال‮ (‬غادة عبد الرازق‮) ‬لأول وهلة سيكون استنتاج الشرطة‮ ‬أن الزوج النحات هو القتيل خاصة أنه تشاجر مع زوجته ليلة الحادث،‮ ‬ولكن ظهور الزوج‮ ‬ينفي الاحتمال ويؤدي للافراج عن الزوجة‮. ‬وتندهش حقاً‮ ‬لأن رجلي المباحث يكتفيان بأقوال الجيران والمعارف حول الزوج وزوجته،‮ ‬ويبدو أن مؤلف الفيلم لا يعرف أن هناك‮ ‬شيئاً‮ ‬اسمه التحريات،‮ ‬ولو أنهما جمعا تحريات عن الزوجة‮ ‬وعلاقاتها تحديداً‮ ‬لأمكن حل اللغز في دقائق الفيلم الأولي‮.‬ سنلاحظ بوضوح أن الهدف من ترك هذه الثغرات أن تتاح الفرصة‮ ‬للطبيب الشرعي‮ ‬الحلواني‮ ( ‬محمد شومان‮) ‬وهو صديق دراسة‮ ‬للضابط‮ ‬أبو الليل‮ ‬أن يتدخل حيث سيتم استدعاؤه‮ ‬في شهر العسل لتشريح الجثة المشوهة،‮ ‬وتخيل أن الطبيب سيقدم للضابطين مفتاحاً‮ ‬عجيباً‮ ‬للحل باكتشاف أن صاحب الجثة مصاب بتليف في الكبد،‮ ‬وأنه يمتلك‮ ‬سنة‮ ‬بورسلين‮ ‬وأن عليهم أن يبحثوا في عيادات الكبد والأسنان للوصول إلي صاحب الجثة،‮ ‬ولعلك تتساءل‮: ‬ألم يكن من الأسهل استخدام الكمبيوتر لبناء صورة للوجه وعرضها علي الشهود بدلاً‮ ‬من اصطحابهم بالدور لرؤية الرجل منزوع جلد الوجه،‮ ‬الحقيقة أن صناع‮ ‬ادرينالين‮ ‬يرفعون شعاراً‮ ‬طوال الفيلم‮ ‬هو‮: ‬كل الطرق تؤدي إلي حجرة التشريح،‮ ‬ولا مشكلة لدي علي الإطلاق في ذلك،‮ ‬ولكن المشكلة في فشل الفيلم في‮ ‬توظيف ذلك بشكل مقنع فالمشكلة الأكبر في‮ ‬الإيحاء بأن اللغز متوقف علي التشريح مع أن بعض الاجتهاد في التحريات كان كفيلاًَ‮ ‬بتوضيح الكثير من الأمور منذ البداية‮.‬ اكتفي الضابط‮ ‬أبو الليل‮ ‬بسؤال الشهود دون الحصول علي معلومات حقيقية عن بطليه الزوج‮ ‬أسامة‮ ‬والزوجة‮ ‬منال‮‬،‮ ‬والأخيرة لن تظهر بعد الجريمة إلا في لقطات قليلة مع أنها مفتاح الأحداث كلها،‮ ‬الضابط لم‮ ‬يكلف نفسه أن‮ ‬يسألها حتي عن أسباب طلب الطلاق من زوجها النحّات،‮ ‬وفي تعقيد جديد للأحداث سيعترف الزوج أنه قاتل الرجل المشوّه،‮ ‬والذي نكتشف بعد الوصول إلي شخصيته باللف علي عيادات الإسكندرية،‮ ‬أنه مدمن للمخدرات،‮ ‬وسيُضيف الطبيب الشرعي معلومات إضافية هي أنه بلا قدرات جنسية،‮ ‬أما الأعجوبة التي سينبني عليها اعتراف الزوج فهي أنه قتله اعتقادًا منه أنه عشيق زوجته،‮ ‬ولكنه‮ ‬يقول أنه قام بطعنه فقط،‮ ‬ولكن حاشا لله أن‮ ‬يكون قد سلخ جلد وجهه‮.‬ لو كنت مكان أصغر طالب في كلية الشرطة لما اكتفيت باعترافات الزوج،‮ ‬ولقمت بتحريات موازية،‮ ‬فالقتيل مسلوخ الوجه لا‮ ‬يصلح عشيقًا لأسباب تتعلق بقدراته الجنسية،‮ ‬وبسبب إدمانه،‮ ‬والزوج‮ ‬يقول أنه قتل ولم‮ ‬يسلخ،‮ ‬هاتان ثغرتان لا‮ ‬يعترف بهما مؤلف الفيلم،‮ ‬بل أنه‮ ‬يجعل القاضي‮ ‬يحكم علي الزوج بالإعدام،‮ ‬والأغرب أن الضابط‮ ‬أبو الليل‮ ‬الذي تنتابه لحظات ثورة وصراخ أحيانًا لم‮ ‬يفكر سوي في استجواب الزوج،‮ ‬ولم‮ ‬يذهب إلي الزوجة إلا بعد صدور حكم الإعدام علي زوجها،‮ ‬كل هذه الثغرات تجعل الحبكة ضعيفة،‮ ‬وتكشف عن رغبة المؤلف في أن‮ ‬يكون الطبيب الشرعي هو مفتاح الحل في كل مرة وعندما تتناول الزوجة‮ ‬منال‮ ‬كميات من الأقراص المهدئة‮ ‬يظهر‮ ‬الحلواني‮ ‬من جديد ليقوم بتشريح جثتها،‮ ‬بل ويتحدث متفلسفًا عن أن الجثث تحوي أسرارًا،‮ ‬ولا تكشف أسرارها إلا لمن‮ ‬يطلبها،‮ ‬ويشير إلي أن الجثة تناديه لكي‮ ‬يكتشف الحقائق والألغاز،‮ ‬وبالمقارنة مع‮ ‬دكتور كوينسي‮ ‬فإن الأخير كان أكثر تواضعًا واحترافًا وأقل فلسفة من الدكتور‮ ‬الحلواني‮ ‬الذي بدا أحيانًا كنموذج كاريكاتوري‮ ‬يثير الضحك‮.‬ الاكتشاف الجديد للدكتور‮ ‬الحلواني‮ ‬هو أن الزوجة‮ - ‬بعد تشريحها‮- ‬كانت حاملاً‮ ‬في جنين عمره شهران،‮ ‬وأنها تعرضت لانفعالات قاسية سببت لجوءها إلي الحبوب المهدئة بقصد السيطرة علي نفسها لا الانتحار،‮ ‬وسيقود ذلك إلي اكتشاف عشيق للزوجة ستراه لأول مرة في الربع الأخير من الأحداث،‮ ‬وهكذا‮ ‬يبدو اللاعب الأساسي خارج الصورة تمامًا وسيتم الوصول إليه بطريقة ساذجة بالسؤال عن النقود التي قامت الزوجة بتحويلها إليه،‮ ‬وستدخل علي الخط حكاية حقن‮ ‬الضحية بالأدرينالين الذي‮ ‬يزيد القوة والحيوية عند الخطر،‮ ‬وستضحك عندما‮ ‬يقوم العشيق بدفن الضابط في تربة حيًا،‮ ‬أو عندما تقتحم الشرطة معمله الخاص،‮ ‬باختصار،‮ ‬ستكتشف‮ ‬سوبرمان‮ ‬يقتل ويسلخ ويحقن بالأدرينالين ويمارس الجنس مع عشيقته الجراحة في المشرحة‮ (‬ألم أقل لكم أن كل الطرق تؤدي إليها‮)‬،‮ ‬وهكذا‮ ‬ينتهي فيلم بأكمله دون أن تعرف سوي أقل القليل عن شخصياته الثلاث‮: ‬الزوج والزوجة والعشيق،‮ ‬ودون أن تقتنع بدوافعهم،‮ ‬لن تفهم أبدًا لماذا خانت الزوجة زوجها رغم اقترانهما بعد قصة حب،‮ ‬ولا لماذا تحول نحَّات في منتصف العمر إلي قاتل،‮ ‬ولا لماذا قام العشيق بنزع جلد الوجه للمدمن الذي اكتشف علاقته مع‮ ‬منال‮‬،‮ ‬ولا لماذا تخلص من عشيقته‮ ‬منال؟‮!‬ كل ذلك لا‮ ‬يهم،‮ ‬وكأن صناع الفيلم‮ ‬يقولون‮: ‬هه‮.. ‬مش شفتوا اللي بيحصل جوه المشرحة؟ إيه رأيكم في دكتور‮ ‬كوينسي‮ ‬المصري؟ وكأن مهارة الطبيب الشرعي لا تتم إلا في وجود ضابط بوليس خائب،‮ ‬سيناريو بوليسي‮ ‬يمثل هذه السذاجة من المستحيل أن‮ ‬يصبح مشوقا حتي لو اعتقد المخرج‮ ‬محمود كامل‮ ‬أن حركة الكاميرا البطيئة تكفي لكي تنقل التوتر والقلق إلي المشاهد،‮ ‬التشويق‮ ‬يبدأ من‮ ‬الورق‮ ‬ومن البناء المحكم ومن العناية بالتفاصيل،‮ ‬وإلا ستشعر حتمًا بالملل لا‮ ‬يكفي أن‮ ‬يتلاعب مدير تصوير كبير مثل‮ ‬طارق التلمساني‮ ‬بمساحات النور والظل علي الوجوه أو بأحزمة النور التي تبددها مروحة داخل المشرحة لكي تشعر بالخوف أو القلق،‮ ‬ليس ممكنا أن تصدق ما‮ ‬يفعله العشيق في النهاية دون أن تعرف عنه معلومات كافية،‮ ‬حتي أداء‮ ‬خالد الصاوي‮ ‬واياد نصار‮ ‬في دور الضابطين لم‮ ‬يكن مقنعًا،‮ ‬والأخير تحديدًا خذلته اللهجة المصرية في أكثر من مشهد،‮ ‬وبدا‮ ‬سامح الصريطي‮ ‬مندهشًا مثلنا مما فعله الزوج،‮ ‬في حين لم نفهم بالضبط هل شخصية الزوجة بأداء‮ ‬غادة عبدالرازق‮ ‬مريضة نفسيًا أم أنها تحت تأثير التنويم المغناطيسي؟

روز اليوسف - محمود عبد الشكور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق