فيلم " The last chance Harvey" أو كما عرض تجارياً في الصالات المصرية تحت عنوان "الفرصة الأخيرة" هو أحد أجمل الأفلام الرومانسية التي شاهدناها في السنوات الأخيرة، عمل محكم الصنع ومختلف كتبته وأخرجته "جويل هوبكنز" فأتاحت لنا أن نشهد مباراة رفيعة المستوي في فن التشخيص طرفاها الأمريكي الكبير "داستين هوفمان" والبريطانية المتألقة "إيما طومسون". بناء فريد من المشاعر والاحاسيس الدافئة التي تعتمد علي تفصيلات ذكية تتراكم لتترك بداخلنا شعوراً بالشجن، نموذج جديد من الأفلام التي تتميز بإحكام عناصرها بداية من المعالجة وحتي كل عناصر الصوت والصورة لتتاح الفرصة للجمهور ولصناع السينما معاً للتأكد أن الأعمال الجيدة ممكنة بشرط الاتقان والجدية والاجتهاد. ليست هذه هي المرة الأولي ولن تكون الأخيرة التي تقدم فيها السينما قصة حب، ولكن الحب في "الفرصة الأخيرة" مختلف لأنه بين اثنين في مرحلة النضج، ولأنه علاقة مركبة بين طرفين من عالمين مختلفين في كل شيء تقريباً فيما عدا المشاعر التي تحتاج فقط لمن يوقظها، علاقة حب تنمو تدريجياً دون أن يقول طرف لآخر "أنا أحبك" ومع ذلك فإن كل نظرة ولفتة وحركة وتعبير تؤكد علي هذا الحب، طرفان منذ أن التقيا لا يريدان أن يتركا بعضهما خلال ساعات قليلة، وفي دأب وصبر يصبح الحب أكثر من شعور جميل يعيد الحيوية إلي شخصين تجاوزا سن الشباب ليصبح فرصتهما الأخيرة ليعيدا تشكيل الحياة كما يريدان، وليس كما تجبرهما الظروف علي ذلك. هذا هو المعني الذكي الذي يحول الحب إلي الحياة الجديدة نفسها دون أدني مبالغة. سيناريو متماسك يستحق الدراسة، يبدأ أولاً برسم عالم كل طرف: الموسيقي الأمريكي "هارفي شاين" (داستين هوفمان) الذي يعيش في نيويورك، ويعمل في تأليف موسيقي الإعلانات، والبريطانية "كيت والكر" (إيما طومسون) التي تعيش في لندن، وتعمل في الوكالة الوطنية للإحصاء، عالمان لا يلتقيان بالحساب ولكنهما يلتقيان في المشاعر والظروف، هو ارتضي العمل في الإعلانات تعويضاً عن حلمه الضائع بأن يكون عازف بيانو لموسيقي الجاز، ولكنه علي وشك الطرد من العمل لأن الكمبيوتر يكاد يؤدي ماهو أفضل من نغماته الحائرة، وهي ارتضت أن تقوم بإحصاء القادمين عشوائياً إلي مطار "هيثرو" ولكنها لم تتزوج اكتفاءً برعاية أمها العجوز التي شفيت تواً من السرطان، ومع ذلك لا تتوقف عن سؤالها عن عدم زواجها. هو سيكون مضطراً للسفر إلي لندن لكي يحضر زواج ابنته الوحيدة "سوزان" من عريس أمريكي يعمل في مجال النفط، لقد انفصل عن أم ابنته التي تزوجت وعاشت في لندن مع زوجها "برايان" وهي ستكون مضطرة أن توافق علي مقابلة شاب أصغر منها سناً اسمه "سايمون" يمكن أن يكون زوج المستقبل. "هارفي" سيفشل في لقائه الأول مع ابنته "سوزان" وأمها في كسب ثقتهما فيقرر الانسحاب والعودة إلي "نيويورك"،. وتعلن "سوزان" أنها ستعتمد علي زوج أمها "برايان" لكي يسلمها إلي عريسها، و"كيت" ستفشل في التواصل مع "سايمون" وستزيد وحدتهما رغم أنها وسط الكثير من الرجال والنساء. هذا البناء المتوازي الدءوب لا يمكن تذوق روعته إلا إذا لاحظت الأداء المذهل من "هوفمان" و"إيما طومسون"، الاثنان تجاوزا سن الشباب ولكن تعبيرات الوجه والعينين والمشية السريعة المتعثرة والملابس غير المهندمة، كلها تفصيلات تكشف عن شخصيات خارج الحياة رغم أنها تعمل وتتعامل مع الآخرين، ومنذ اللقاء الثاني بينهما في مطار "هيثرو" بعد أن فشل "هارفي" في اللحاق بطائرة العودة، تشعر علي الفور أن النجمين "هوفمان" و"إيما طومسون" ضبطا مشاعرهما علي الموجة الصحيحة، وأنك لا تريد لحوارهما أن ينتهي، في المرة الأولي تجاهل "هارفي" موظفة الإحصاء لأنه مجهد، وفي المرة الثانية بدأ هو في الثرثرة معها، أنه في حاجة للتواصل والحوار، هي أيضًا تحتاج إلي الفضفضة، سيحكي لها عن ابنته العروس التي تركها، وعن أحلامه كعازف للبيانو، وستحكي له عن أمها التي تراقب جارهما البولندي ومخاوفها من أن يكون سفاحًا، وفي مرحلة تالية ستحكي له أيضا عن طفل حملت به وهي صغيرة ولكنها تخلصت منه، سنراها تبكي وتعبر عن مشاعرها، كانت في البداية مثل الإنجليز الذين يضغطون علي الفّك ليتحكموا في مشاعرهم، ولكنها وجدت أخيرًا المرآة التي تشاهد نفسها فيها، "هارفي" أيضًا وافق علي الفور علي فكرتها بالعودة إلي حفل الزفاف، اشتري لها فستانًا، وقدمها بوصفها صديقته، وأخذ يخطب بوصفه والد العروس، جلسا معًا علي مائدة بها عدد من الأطفال، رقص مع ابنته، وعزف علي البيانو، ورقص مع كيت، وعندما جلسا في ساحة الفندق في الصباح لم يقل لها "أحبك" ولكنه نظر إليها بعينيه وطلب منها أن يلتقيا في الظهيرة في اليوم التالي في نفس المكان البديع. لن يذهب "هارفي" إلي الموعد لأن دقات قلبه اضطربت، ولأنه نسي احضار الدواء معه، هي أخذت الموضوع ببساطة وكأنها استراحت لأنها لن تخرج من الشرنقة، ولكنه ذهب إليها، بكت لتفرغ عواطف مكبوتة، لم تخرج منذ سنوات، واعترفت أخيرًا، بأنها استراحت لفكرة تغيبه عن الموعد، هارفي لم يستسلم، أخبرها أنه استقال من عمله في نيويورك رغم تمسكهم به، هو يريد حياة جديدة بمعني الكلمة، لا يعدها بأي شيء، وليس لديه أي توقع عن مستقبلهما، كل ما يطلبه عمن تسأله، عن البيانات التي تريدها كموظفة في وكالة الإحصاء، وعندما تسأله عن مكان إقامته يقول لها: "أنا في مرحلة انتقالية" . ليس هناك أحكام نهائية أو أقواس مُغْلقة، ولكن السيناريو الذكي يقدم إليك مشاعر وأحاسيس صادقة لابد أن تنفعل معها، تخرج من الفيلم وفي ذاكرتك مشاهد لا تنسي: هارفي مرتبكًا أمام ابنته في أول لقاء، ثم عندما يقف خطيبا بعد عودته، و"كيت" وهي كالفتاة الخائبة الباحثة عن عريس، ثم وهي تبكي معترفة بمأساة تخلصها من جنينها، وسعادتها بالفستان الجديد الذي دخلت به فرح ابنة "هارفي"، قطعات سهلة عذبة يلتقط التعبير المناسب بلا زيادة أو نقصان، وعلي شريط الصوت حوار آخر عذب بين دقات بيانو، ورنات جيتار، سرعان ما يمتزجان عند النهاية، "جويل هوبكنز" المؤلفة والمخرجة تعرف أن سلاحها الأساسي هو النجمان الكبيران، أنها تديرهما ببراعة، التفصيلات مدهشة لدرجة أن مشيتهما المتعثرة ستتحول في مشهد النهاية أخيرًا إلي مشية واثقة ومنتظمة. الحب ليس مجرد مشاعر جميلة، ولكنه فرصة جديدة للحياة، حتي أم "كيت" العجوز العائدة من تجربة السرطان في طريقها لكي تحب جارها البولندي الذي لا يتوقف عن الشواء، لا وعود ولا عبارات مكررة ولا كليشيهات محفوظة وإنما مشاعر صادقة. ياله من فيلم كبير. ويالهم من نجوم يستحقون موقعهم في السماء!
روز اليوسف - محمود عبد الشكور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق