الأربعاء، 2 يونيو 2010

أوديب و شفيقة .. أزمة الإنسان واحدةٌ فوق المكان و الزمان


يُسدَلُ الستارُ على مشهدين يفصلُ بينهما التاريخُ، مثلما تفصلُ بينهما الجغرافيا. على اليمين شابٌّ إغريقى عاش قبل قرون طوال فى كورنثا اليونانية، يقفُ فى ملابسه الملكية ويهتف فى وجل ورعب: «مَن أكون؟»، وعلى اليسار شابةٌ من صعيد مصر، ابنة العصر الراهن، فى ملابس قروية تهتف فى أسى وفجيعة: «أنا مين؟» كلاهما بطلٌ لأسطورة شهيرة من الفولكلور الإغريقى والمصرى، وكلاهما مأزومٌ بالبحث عن الأصل والهوية. كلاهما ضائعٌ دون جذر يحمى الفرعَ ويمنحه ثباته ولونه وهويته وصفاته. كيف اجتمع ما لا يجتمع فى هذا العمل المسرحى «أوديب وشفيقة»، التى تُعرض الآن على مسرح الغد بالبالون؟
منذ العنوان ثمة تناقضُ مقصود وخلطٌ فنىٌّ فى الزمن والجغرافيا. لكى تقول الرسالة إن الإنسانَ واحدٌ، وأزمته واحدةٌ عابرة الوقت وعابرة المكان، وعابرة اللغة واللسان. أزمة الهوية والانتماء، فى حيرة أوديب الملك، وشفيقة الفقيرة فى معرفة الأبوين.
وكذا أزمة الشر الموجود فى كل عصر ومكان، متمثلا تارة فى الكاهن «نصّوب» الذى سيسرق أوديب رضيعًا من أبويه الملك والملكة، مُنذرًا من أنه حين يشبُّ سوف يقتل أباه ويدنّس بالعار مضجع أمه، كما عرفنا من مسرحية سوفكليس ومن الميثولوجيا الإغريقية (بتصرّف)، ومن جانب آخر الشر متمثلا فى عمدة كفر الحناوى الذى يسعى للزواج من صبية من عُمر أحفاده بالقوة والنفوذ والتهديد، كما عرفنا من الحكاية الشعبية «شفيقة ومتولى»، (بتصرف أيضًا). تُفتح الستارة على مقام سيدى الحناوى فى القرية الصغيرة، وعلى اليسار مقهى بلدى صغير، وراقصةٌ من الغجر تؤدى رقصةً بوهيمية رعوية احتفالا بمولد الحناوى.
ثم نتعرف على أصحاب المقهى، «نبيهة» و«شعبان»، وابنتهما المُتبناة الصبية الجميلة «شفيقة»، التى يودُّ عمدةُ القرية المتسلّطُ المزواجُ الزواجَ منها بأى ثمن، فتحاول الراقصةُ العرّافة إقناعها بشتى سبل الترغيب والترهيب دون فائدة. تتملك شفيقةَ الحيرةُ والعذاب طوال مدة العرض لأنها تود أن تعرف أصلها وهويتها. وفى يمين المسرح، ثم منصة مرتفعة، ستمثل مسرحًا داخل المسرح، عليها أزياء وديكور من العصر الإغريقى القديم، كرسى عرش يخصُّ الملك، وأريكة «تشيز لونج» تتكئ عليها الملكة، وتيجان وصولجان تخص المُلك.
وفى منتصف المسرح، فى بؤرة المشهد، مقام ولى الله، الذى يتبرّك الأهالى بلمسه والبكاء على ضريحه. هذا المزج بين الزمن والجغرافيا حيلةٌ مسرحية جديدة وذكية صنعها المخرج: عاصم رأفت، وكتبها المؤلف: أحمد الأبلج، يإتقان مدهش، ساهم بشكل أساسى فى توصيل الرسالة للمتفرج، حول وحدة الإنسان ووحدة سؤاله الوجودى وأزمته مع الحياة، بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية والزمن والموقع المكانى. عايدة فهمى وأمين عامر، يمثّلان مرّة صاحبة المقهى وزوجها، وبعد برهة هى مع أحمد أبوعميرة، الملكان العاقران اللذان يبحثان عن طفل نبيل الدماء ليورثاه عرشهما.
وعلى الجانب الآخر، ناهد رشدى ومصطفى طلبة، الممثلة والمخرج وبعد برهة هما جيوكاستا ولاوس، ملكة «ثيبا» وملكها اللذان ينجبان لتوّهما طفلا لن يلبثا أن يفقداه بحيلة حقيرة زيّفها نصوب/ شادى أسعد، ليسرقه منهما ويهبه للملك والملكة العاقرين ويقبض الثمن. الأداء على نصف المسرح الأيسر يتم بالدارجة المصرية الشعبية، وعلى الجانب الأيمن، الملكى، بالفصحى التى كأنما هى اللغة اليونانية القديمة معرّبةً.
وبدايةً يُحسب للممثلين الانتقال الرشيق الواثب بين اللسانين العربى الفصيح، والدارج العامىّ. وحال الكلام عن العربية الفصحى وجبت تحية الممثلين جميعًا الذين لم نسمع منهم هنةً لغوية أو لحنًا نحويًّا أو صرفيًّا، وهو أمر بات مدهشًا لندرته الآن، حتى بين الأدباء القابضين على زمام اللغة وأسرارها، وكذا بين مذيعى القنوات الفضائية الذين أهانوا اللغةَ على خير ما تكون الإهانة!
عادل رأفت/ أوديب، رضوى شريف/ شفيقة، محمد عبدالفتاح/ العمدة، جميعهم مع بقية الممثلين فهموا أدوراهم، وأدركوا البعد التأريخى والوجودى لطبيعة الشخصيات التى يتلبسونها فخرج العمل راقيًا رفيع الطراز على نحو يستحق التحية والتقدير.
ذوبان الإنسان فى سؤال الوجود هو تيمة تلك المسرحية الجميلة. قمة الهرم الطبقى/ الملك، وقاعه/ القروية، قمة الديمقراطية/ أثينا القديمة، قمة البطريركية/ صعيد مصر. استخدام الكهنوت فى اللعب بعقول العامة: نصوب الإغريقى، الدجال المشعوذ فى الصعيد. أوديب يخاطب الآلهة، شفيقة تخاطب مقام الحناوى. قصة الإنسان واحدة، فى أثينا الملكية، وفى صعيد مصر البسيط.


اقرأ أيضا :
* قضية التراث .. في "أوديب و شفيقة ..
اضغط هنا
* أوديب و شفيقة علي مسرح الغد .. اضغط هنا

المصري اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق