الثلاثاء، 1 يونيو 2010

أحمد أمين البدايات و النهايات .. كثير من الحب


لماذا يا دنيا تبدئين بالأمل، وتنتهين بالألم؟ تمنحيننا وجوها غضة، وقلوبا نضرة، وآمالا لا نهاية لها، حتى إذا ملأنا أيدينا بالنجوم لم نجد إلا قبض الهواء، ووجوها مغضنة، وقلوبا مثخنة، وخيبة أمل لا حدود لها.
أحمد أمين: مؤرخ الحياة العقلية الإسلامية، صاحب الموسوعة الخالدة (فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام)، الرجل الحازم الذى أخذ الحياة مأخذ الجد، ولم يجد متعة حقيقية إلا فى القراءة والكتابة، صاحب الحس الأخلاقى القوى، الذى يزن الحياة بميزان الضمير: يرفض منصبًا خطيرًا إذا اعتقد أنه ليس أهلا له، ويستقيل من وظيفة رفيعة لدى أى اعتداء طفيف على كرامته، ولا يرقّى موظفًا إلا إذا كان جديرا بالترقية.
هذا الرجل دائم التساؤل عن الموقف الأخلاقى الصحيح، كما وصفه جلال أمين فى سيرته الذاتية «ماذا علمتنى الحياة»: قليل الاحتفال بالمال، لا يهتم بالمظاهر الفارغة، منشغل بما هو أهم، استقر فى ذهنه أن يُكرّس حياته لعمل عظيم فى نزعة متأصلة نحو الإصلاح.
رجل هكذا، تصدى وحده لعمل يحتاج جامعة كاملة: تأريخ جوانب الحياة العقلية والفكرية والاجتماعية للحضارة الإسلامية منذ ظهور الإسلام حتى القرن الرابع الهجرى.
كان ملء السمع والبصر، الهاتف لا ينقطع عن الرنين، والصحف لا تكف عن نشر مقالاته، والأدباء يشيدون بتفرده، وفجأة تغير الزمان، استغرق فى التأليف والترجمة ونسى أن يتطلع إلى المرآة.
لم يشهد الشعر الأبيض وهو يغزو هامته، ولا نضارة وجهه وهى تنسحب، ولا التجاعيد تُعلن شيخوخته. فجأة انحنى الظهر، وكَلَّ البصر، وكفّ الهاتف عن الرنين، وامتلأت رفوف مكتبته بأصناف أدوية لم يعد قادرًا على تمييز أسمائها.
دار الكوكب الأرضى عدة مرات، أصدقاء الأمس أصبحوا فى ذمة الله، خيّم الحزن وفترت الحماسة وهيمن الاكتئاب، ولم يعد هناك شىء قادر على إبهاجه، لا الثناء يسعده ولا الجوائز تبهجه ولا التكريم يعنيه، ما أبعد البون بين البدايات والنهايات!
يعترف جلال أمين فى نهاية كتاب «ماذا علمتنى الحياة» بهذه الصورة المؤلمة التى تثقل ضميره ولم يتمكن من نسيانها: والده العجوز يجلس فى الصالة المعتمة، وحده تماما، دون أن يكون مشغولاً بشىء، لا قراءة ولا كتابة ولا استماع لراديو، وقد رجع هو (أى جلال أمين) من مشاهدة فيلم سينمائى مع بعض أصدقائه، فيلقى على أبيه التحية بسرعة وهو متجه إلى غرفته، فيما يحاول أبوه استبقاءه، هربا من وحشته، وشوقا إلى الحديث فى أى موضوع، يسأله عن اسم الفيلم فيجيب فى اختصار، وأبوه يأمل فى العكس. ثم يذهب بسرعة إلى غرفته، غافلا عن حزنه الكبير، وقلبه الكسير ووحدته الموحشة.
دين سيسدده الأبناء فيما بعد، حينما تنعكس الآية، ويصبح صغار اليوم كبار الغد، وتدير له الدنيا وجها منحته فى البدايات، وصرفته فى النهايات.

المصري اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق