الأحد، 11 أبريل 2010

لأن الحياة صارت أكثر قسوة : نساء الأشغال الشاقة


لم تكن تأثيرات التحولات الاقتصادية لمصر ببعيدة عن النساء، فارتفاع معدلات الفقر وزيادة نسب الأسر التى تعيلها سيدات دفعهن إلى الاشتغال بأية مهنة شريفة وتدر دخلا، حتى لو كانت توزيع الأنابيب أو النقاشة أو مسح الأحذية.وسط ماكينات وكريمات الحلاقة أخرج الشاب من أحد الأدراج مقصا وعدة أمشاط، لم يقترب بها من الزبون الأنيق الجالس بصالون الحلاقة فى وسط البلد، إنما ناولها لامرأة خمسينية جميلة ارتدت نظارتها الطبية، وبدأت تحلق للزبون «شعر ودقن»! وبينما يبدو مشهد السيدة تحلق لرجل عاديا فى أوروبا، كسرت سهير هيكل العرف السائد فى اقتصار ممارسة هذه المهنة على الرجال فى مصر ودخلت هذا المجال. كانت البداية عندما وجدت سهير فتاة أوروبية تساهم فيها: «أول مرة دخلت محل حلاقة رجالى كان عمرى 14 عاما، دخلت مع زوج أختى من باب حب الاستطلاع فوجدت فتاة يونانية تغسل شعر الزبائن، وتمنيت أن أعمل مثلها»، وبينما استنكر زوج أختها الفكرة رحب صاحب المحل بها وضمها للعمل معه لتبدأ مشوارها المهنى كأول امرأة فى مصر تدخل هذه المهنة. واليوم لم تعد مهنة «حلاق رجالى» هى الوحيدة التى اشتغلت بها نساء على خلاف المعتاد، فقد خلقت التحولات الاقتصادية التى مرت بها مصر ــ ابتداء من الانفتاح حتى الخصخصة ــ دوافع قوية لدى النساء لوراثة مهنة آبائهن أو العمل محل أزواجهن لإعالة الأسرة، لتجد سيدة تعمل فى النقاشة وأخرى فى جلى السلالم وغيرها فى لحام الكاوتش وأخريات سائقات ميكروباص وغيرها من المهن. مؤخرا انتهت الباحثة الاجتماعية ــ رشا حسين ــ من دراسة ماجستير عن هؤلاء العاملات فى مهن «مستحدثة»، ووجدت أن دخول النساء هذه المجالات كان أمرا غريبا على المجتمع لسببين: الأول يتمثل فى المجتمع وموروثاته التى ترفض أن تعمل المرأة بالمهن التى تعوّد أن يؤديها الذكور، والسبب الثانى هو أصحاب المهنة أنفسهم إذ يرى البعض أن فى ذلك انتهاكا من المرأة لأعمالهم من باب أنها سوف تقاسمهم أرزاقهم. وهو ما حدث مع مدام سهير التى وجدت على مدار 37 عاما منذ دخولها المجال، مواقف مختلفة من رجال ساعدوها وآخرين لم يتعاونوا معها، وتروى أن أول من عملت لديه لم يعلمها المهنة واكتفى بإسناد غسيل الشعر إليها: «لم يكن سهلا أن يترك لى صاحب العمل زبونا أحلق له، فكنت أدعو أقاربى ومعارفى لأتعلم فيهم»، لكن الوضع اليوم تغير فالزبائن يقصدون سهير بذاتها لتحلق لهم وصار لها زبائنها ومن بينهم رجال أعمال وسفراء وشخصيات عامة.ونقطة التحول الحقيقية فى عمل سهير كانت انضمامها للعمل فى صالون «سعيد» للحلاقة، فهو من علمها الكثير من أصول المهنة «ابتداء من فن التعامل مع الأدوات إلى مظهر وسلوك الحلاق»، كما تقول. وهو الرجل نفسه الذى تزوجته سهير: «تصورى أن زوجى هو معلمى، ومتفهم تماما لعملى بل وفخور بنجاحى، لو كنت تزوجت شخصا آخر لما استمررت متميزة فى هذا المجال». ثم تؤكد أنها علمت عددا من الفتيات الحلاقة وقص الشعر الرجالى، لكنهن توقفن عن العمل بعد الزواج. ووفقا لدراسة «التحولات الاجتماعية وأنماط المهن النسائية المستحدثة» فإن اشتغال النساء بالمجالات المقصور دخولها على الرجال ليس مانعا أمام زواجهن أو سببا لفشل حياتهن الشخصية، بل ترتفع نسبة المتزوجات بينهن إلى 60 بالمائة.ورغم سنوات وجودها الطويلة فى المجال، لا تزال سهير تتفهم كون بعض الرجال لا يثقون فى يديها لتهذيب شعورهم أو لحاهم، موضحة: «لا أحلق فى أول مرة يأتى زبون للمحل، إنما أتركه يشاهدنى أحلق لآخرين ليطمئن قلبه»! وعندما يرتاح الزبون للتعامل معها تتوطد العلاقة، فتتبادل معه بعض الأحاديث كأى حلاق يصفف زبونه. أناقة وشحم... وحمل ثقيلأصحاب المحلات والورش فى المنطقة يعرفون مكانها، منى التى تجاوزت العقد الرابع من عمرها رفضت التحدث إلا بعد استئذان صاحب الورشة التى تعمل بها. ورغم اشتغال كلتيهما بمهن يسيطر عليها الرجال، لن تجد بين مدام سهير ومنى الكثير من أوجه الشبه خاصة فى المظهر، فبينما لم تتخل سهير عن قصة شعرها المتناسقة وملابسها العملية المهندمة، تخفى منى شعرها القصير جدا تحت طاقية صوف وقد اكتسب صوتها خشونة واضحة، وهو أمر عادى فى رأى الباحثة الاجتماعية ــ رشا حسين ــ التى تقول: «طبيعى جدا أن يختلف مظهركل منهما عن الأخرى وفقا لطبيعة مهنتها، هذا موجود حتى على مستوى الرجال.مثلا مدام سهير تعمل فى الحلاقة والتجميل وهى مهنة تفرض عليها الاهتمام بمظهرها وهندامها، لكن منى ــ على سبيل المثال ــ لحام الكاوتش يجعل يديها وملابسها تتسخ. وبينما أدوات العمل لدى مدام سهير هى المقص وماكينة الحلاقة، تضطر منى للتعامل مع كاوتش وأدوات ثقيلة، فضلا عن أن زبائنها من فئات معينة تتأثر بطريقة كلامهم لا إراديا». والد منى هو صاحب الورشة، وقد وجدت نفسها تقف فيها بعد وفاته. وتذكر دراسة «التحولات الاجتماعية وأنماط المهن النسائية المستحدثة» أن 70 بالمائة من النساء اللائى يشتغلن بمهن يسيطر عليها الرجال، وصلن إليها عن طريق أحد أقارب العائلة سواء من الأب أو الأم أو حتى الزوج أو الأخ.وتذكر الدراسة نفسها أن أسباب عمل النساء بالمهن «المستحدثة» فى المقام الأول كانت أسبابا اقتصادية بنسبة 70 بالمائة، بسبب غياب أو مرض العائل سواء كان الزوج أو الأب كما أن بعضهن حاولن العمل بمهن أخرى ولكنهن وجدن أن العمل بهذه المهن لا يكفى قوت يومهن، وهو تماما ما حدث مع أم رمضان بعد مرض زوجها وخضوعه لجراحة فى القلب، إذ وجدت نفسها المسئولة عن إعالة أسرة من 4 أبناء،جربت فى البداية أن تبيع بعض الحلويات أمام منزلها فى امبابة لكنها وجدت العائد «مش جايب همّه»، ففكرت فى طرح بعض أنابيب الغاز ووجدت طلبا عليها دفعها إلى التركيز فى توزيع المزيد من الأنابيب حتى تمكنت من شراء عربة كارو تضع عليها ما استطاعت من أنابيب وتوزعها بنفسها فى المنطقة.موزعة الأنابيب قد تجدها بعربتها أمامك إذا مررت بشوارع إمبابة، تجلس وفى يدها المفتاح وخلفها الأنابيب وإلى جوارها ابناها الصغيران اللذان يساعدانها اليوم، السيدة التى بدت هادئة الملامح والصوت تعلمت تركيب الأنابيب بمشاهدتها لبعض السيدات والرجال يقمن بذلك فى بيوتهم، لتكن أول امرأة فى عائلتها ومنطقتها تعمل فى توزيع الأنابيب. تنتمى أم رمضان إلى عائلة صعيدية لم ترفض عملها لسبب بسيط تعبر عنه السيدة فى تساءل: «طيب لو مش هنشتغلو، ناكلوا منين؟»75 بالمائة من العاملات بالمهن «المستحدثة» من أصول ريفية و20 بالمائة منهن لا يزلن يعملن فى مناطق ريفية. ورغم تصالحها مع طبيعة مهنتها، تتمنى أم رمضان أن «يتوب ربنا علينا منها» وقررت التوقف عن العمل عندما يكبر أبناؤها ويلتحقون بالعمل.«أيوه بنشيلو الأنبوبة ونركّبوها وكله»، تقول أم رمضان ذلك بطريقة طبيعية كأنه أمر عادى على السيدة التى تتم هذا العام 20 سنة فى المهنة، وتذكر: «كنت أحمل الأنابيب وأطلع بها للدور الرابع والخامس حتى وقت أن كنت حاملا فى ابنى الصغير». وبعد ولادته استراحت أم رمضان لفترة ثم عادت للعمل.وفى دراستها «التحولات الاجتماعية وأنماط المهن النسائية المستحدثة» ركزت رشا حسين على عاملين أساسيين وهما: فترة الحمل وفترة نزول الدورة الشهرية للمرأة، باعتبارهما من أكثر العوامل البيولوجية التى قد تتأثر بهما المرأة خلال فترات عملها، وقد خلصت النتائج إلى أن معظم الحالات تقريباً نفين أن يكون الحيض أو الحمل عائقا لعملهن وأشرن إلى أنه ليس هناك علاقة ما بين هذين العاملين وما بين انجازهن العمل. قيادة 12 شخصًا ذهابًا وإيابًاقد تكون قابلت سيدة تقود سيارة أجرة، أو حتى تحمست لفكرة طرحتها إحدى الشركات بتخصيص سيارات تاكسى للسيدات تقودها سيدات، لكن الأمر يكون أصعب إذا كانت السيدة نفسها تقود ميكروباص لأن مهمتها تكون توصيل نحو 12 شخصا بدلا من شخص واحد والوصول إلى هؤلاء الركاب يستلزم علاقات قوية فى «الموقف» وشخصية قوية للتعامل مع أبناء المهنة المنافسين لها الذين تحتك بهم بصفة يومية. وفى حى المساكن بمحافظة الجيزة، ستجد أم كريم أمام عجلة القيادة «على الخط» تنقل زبائنها فى ثقة من وإلى محطة المترو. بدأت السيدة الثلاثينية ذلك بعدما فارقها زوجها ووجدت نفسها مسئولة عن أبناء صغار، ولأنها من الأصل معروفة لدى السائقين فى منطقتها لأنها كانت تبيع لهم الشاى والمشروبات الغازية، نزلت للعمل على إحدى السيارات واستمرت فى عملها بعد عودة الزوج.وبعد ترددى على مكان جلوسها الذى يعرفه جميع سائقى الميكروباص وكثير من ركابهم! نظرت أم كريم إلىّ بعيون حزينة مكحلة ولباس أسود قائلة: «بنتى اتحرقت ولسه خارجة بيها من المستشفى، مش قادرة اتكلم حتى مع أهلى»، وطوال شهرين قضتهما الابنة فى مستشفى «أم المصريين» كانت السيدة تحاول إنجاز أى «مصلحة» فى الفترة التى تعود فيها إلى منزلها، كى تؤمن دخلها ودخل أولادها. هناك من اخترن مشوارا أبعد ليقطعنه بزبائن الميكروباص، منهن ريهام التى عملت لفترة بين القاهرة وطنطا واعتادت الخروج بزبائنها من موقف رمسيس، وبعد مخالفات مرورية دفعت فى الواحد فيها 500 جنيه انتقلت للعمل فى موقف عبود، الغريب أنه لم يعد لها أثر فى الموقف! مثلها عملت أم سماح لفترة بين القاهرة وزفتى التى تسكن فيها، ثم اختفت من الخط، وكانت السيدة قد تعرضت لحادث مرورى أرقدها الفراش لشهور فى الجبس، ووفقا لدراسة أكاديمية، فإن 90 بالمائة من النساء العاملات فى مهن غير شائع التحاق المرأة بها يتعرضن لحوادث أثناء عملهن.لدى سؤالى عن ريهام وأم سماح فى موقف رمسيس ارتاب أحد السائقين فى أمرى واستفسر عن سبب سؤالى عنهن قائلا فى لهجة جادة: «انتى عايزاهم يعلموكى الصنعة يعنى؟! طيب معاكى عربية؟»! وتعلق الباحثة رشا حسين على ذلك شارحة: «الرجال بالطبع يقلقون من امرأة تعلم وسطهم، من ناحية لأنها شخص جديد يأخذ زبائنهم، ومن أخرى لأنهم يتوقعون تعاطفا أو تحيزا لها من جانب رجال المرور أو الركاب»، إلا أن السيدتين نجحتا فى إدارة علاقتهما وتطويع المجتمع الرجولى، فالسائقون مثلا يسمحون لأم سماح بالقيادة «على وش العجل» أى أن تسبقهم فى تحميل سيارتها.رحلة استمرت 5 سنوات البحث عن نساء فى مهن يحتكرها الرجال«رصد الظروف الاجتماعية والاقتصادية التى نتج عنها دخول سيدات مجالات جرى العرف على كونها للرجال فقط»، هذه العبارة كانت مهمة الباحثة الشابة ــ رشا حسين ــ لسنوات، وهى مهمة انتهت بالحصول على درجة الماجستير بتقدير امتياز من كلية الآداب جامعة القاهرة قبل عدة أسابيع. وفى مكتبها بجمعية «ملتقى تنمية المرأة» روت رشا حسين قصة هذا البحث الذى بدأته قبل خمس سنوات بعد أن شاهدت فيلم «خالتى فرنسا» الذى تقول إنه نبهها «إلى ارتداء بعض النساء عباءة الفتوة. بعدها التقيت سائقة ميكروباص على خط مصر ــ اسكندرية اسمها أم رانيا، وبهرتنى طريقة إدارتها لعلاقتها مع الناس سواء زملائها أو زبائنها، ووجدتنى أركز فى اتجاه البحث حول قدرة المرأة على الاشتغال بأى مهنة وتكييف أوساط هذه المهنة على ظروفها».لكن العثور على نماذج شبيهة لأم رانيا لم يكن أمرا سهلا، لعل أكثر الأسباب التى أطالت عمر البحث كما تقول رشا: «لم يكن الوصول لكل السيدات أفراد العينة سهلا، لكن من خلال شبكة علاقاتى ومنهج كرة الثلج الذى نستخدمه كباحثين فى حالات دراسة عينات نادرة توصلت لتسع عشرة سيدة غير أم رانيا». العثور على الواحدة منهن لم يكن حلا لجميع الصعوبات، إذ إن بعضهن تردد وأحيانا رفض التحدث إلى رشا التى سمعت بعدها منهن بعض التجارب السيئة عن التحدث مع الغرباء. رغم ذلك كله، استمرت الباحثة الاجتماعية فى إتمام الدراسة، مفسرة: «ما شجعنى على الاستمرار هو النماذج المتزايدة التى أقابلها لنساء كسرن الحاجز الزجاجى أو السقف الاجتماعى الذى حصرهن فى الاشتغال بمهن بعينها غالبا ما تكون تنظيف البيوت أو بيع الحلوى فى كشك أو رعاية الأطفال فى دور الحضانة». «التحولات الاجتماعية وأنماط المهن النسائية المستحدثة» ليست البحث الأول الذى تجريه رشا حسين التى تعمل راصدا مركزيا فى المنظمة التى تعمل بها، فقد أنجزت عدة دراسات اجتماعية أبرزها دراسة «غيوم فى سماء مصر» عن التحرش الجنسى، والتى خرجت عام 2008 كأول دراسة معمقة لهذه الظاهرة، وقبلها دراسة عن العنف الانتخابى الذى تعرضت له النساء خلال الانتخابات البرلمانية حول المشاركة السياسية للمرأة. وترى الباحثة الشابة أن «غالبية التقارير الحقوقية التى تناولت قضايا تخص النساء، ذات خلفية قانونية غالبا، بينما تغيب عنها المنطلق الاجتماعى».
ولا تستبعد رشا حسين أن يكون عمل النساء موضوع رسالتها لنيل الدكتوراه: «ربما أتناول ذلك على المستوى الرسمى، فالمرأة اليوم دخلت مجالات القضاء والمأذونية والعمادة، كما صارت رئيس مجلس محلى، وكثير من السيدات فى هذه المهن يعشن فى قرى».

الشروق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق