الجمعة، 23 أكتوبر 2009

أسرار فيـروس "الخنازير" .. سر القدرة التدميرية في ضرب أنسجة الجهاز التنفسي



فيروس إنفلونزا الخنازير الذي هدد العالم وأصابه في مقتل منذ أبريل‏2009‏ وحتي اليوم‏,‏ تعود جذوره إلي نحو‏90‏ عاما مضت‏,‏ وبالتحديد عام‏1918‏ وأوائل عام‏1919,‏ حين شهدت‏1919‏ أكبر كارثة في تاريخ الإنسانية سميت‏"‏ الهولوكوست الميكروبيولوجي المدمر‏"‏ حيث توفي في غضون أشهر قليلة نحو‏50‏ مليون إنسان أغلبهم في قارتي أوروبا وأمريكا‏,‏ بسبب فيروس‏(H1N1),‏ والذي وصف آنذاك بالإنفلونزا الأسبانية‏,‏ وإن كان بدأ أساسا في معسكرات الجيش الأمريكي بولاية بوسطن‏,‏ لكن الأخيرة أخفت إعلان ظهور هذا الوباء لأسباب استراتيجية عسكرية لأن الحرب العالمية الأولي لم تكن قد وضعت أوزارها بعد‏
فعندما أعلنت إسبانيا عن تفشي وباء الإنفلونزا بها كان ذلك في حقيقة الأمر في غضون أسابيع من ظهور الحالات الأمريكية‏,‏ وامتد هذا الوباء الفتاك ليصيب أغلب البلدان الأوروبية وكان أغلبها في الموجة الجائحة الثانية التي حدثت في خريف عام‏1918‏ إلي بداية عام‏1919,‏ وحصد من البشر ما يفوق عدد ضحايا الحرب العالمية الأولي‏!!‏
هذا الفيروس كان إحدي فصائل مجموعة فيروسات الإنفلونزا الشهيرة بالمجموعة‏(A)‏ ولكن كيف تسلل هذا الفيروس من داخل هذه المجموعة ليكتسب قوة قاتلة غير عادية ؟ لقد تحور إلي أقصي درجة ممكنة خلال عدة سنوات دون أن نتنبه عبر فصائل من الطيور المهاجرة والحيوانات البرية واستخدم الخنازير كعائل وسيط للتبادل الجيني مع فصائل إنفلونزا أخري لقدرة الخنازير علي الإصابة بكل الفصائل الفيروسية‏.‏
والغريب في الأمر أن الإصابات بإنفلونزا‏(H1N1)‏ بلغت القطب الشمالي في ظاهرة وبائية قاتلة ـ كان لها أهمية علمية فيما بعد ـ فقد أصيب جميع سكان بلدة في آلاسكا هي‏"‏ بريفج ميشان‏"‏ وذلك في الفترة من‏10‏ ـ‏15‏ نوفمبر‏1918,‏ ففي يوم حزين أرسل رهبان أحد الأديرة الموجودة هناك إشارة استغاثة للقوات الأمريكية القريبة لدفن جميع سكان هذه القرية المنكوبة من رجال ونساء وأطفال في مقبرة جماعية في الأرض الثلجية‏,‏ حيث إن تربة هذه القرية مكونة من الثلج الدائم‏.‏

وتمر السنون‏,‏ وفي صيف عام‏1951‏ بعد أكثر من‏30‏ عاما كانت في زيارة إلي ألاسكا بعثة علمية من جامعة أيوا الأمريكية‏,‏ أحد أعضائها شاب صغير في السن سويدي الأصل يسمي‏"‏ جوهان هالتن‏"‏ كان قد التحق في عام‏1949‏ بالجامعة ليدرس علوم الميكروبولوجي وتشاء المصادفة أن تزور البعثة مقبرة قرية‏"‏ بريفج ميشان‏"‏ القابعة في الثلوج وكان عليها شاهدان يحكيان مأساة‏1918‏ حيث دفن جميع أهل القرية في وباء قاتل‏,‏ وقد تأثر هذا الفتي الشاب برواية أهل القرية عن هذا اليوم المأساوي‏,‏ وقرر مواصلة دراسته في محاولة لكشف سر قيام هذا الفيروس بقتل أكثر من‏50‏ مليون إنسان في فترة لا تتجاوز أربعة شهور‏,‏ وأصبح جوهان بعد التخرج باحثا في علم الباثولوجيا بالجامعة قبل أن يصبح أستاذا لها فيما بعد‏.‏

محاولة البحث عن فيروس إنفلونزا‏1918‏بعد سنوات عديدة وبالتحديد عام‏1991‏ قرر فريق علمي بقسم الفيروسات بجامعة واشنطن بالتعاون مع المؤسسة الطبية العسكرية وضع بروتوكول علمي لمحاولة البحث عن فيروس إنفلونزا‏1918‏ أو فيروس‏H1N1‏ الذي سبب المأساة البشرية منذ أكثر من‏90‏ عاما وإعادة هذا الفيروس إلي الحياة ليخضع إلي الوسائل العلمية والتقنية الحديثة التي لم تكن موجودة في الماضي لمعرفة أسراره‏,‏ وكيف حصد الملايين من البشر‏.‏ وكان يرأس الفريق العلمي الدكتور جفري توبنبرجر الاستاذ بقسم الميكروبيولوجي بجامعة واشنطن‏,‏ والذي يقول‏:‏ لقد وضعنا خطة بحثية علمية دقيقة وشاملة لدراسة خصائص الفيروس القاتل‏,‏ ولكن أين نجد هذا الفيروس بعد‏80‏ عاما؟؟
وأضاف‏:‏ لقد قضينا عدة سنوات في البحث والتقصي حتي حصلنا علي عينات محفوظة في الفورمالين من المعامل العسكرية الأمريكية‏,‏ وهذه العينات أخذت من جثث بعض الجنود واستطعنا بعد جهد جهيد الحصول علي الفيروس في بعض منها‏,‏ ولكن كان الفيروس محطما وعبارة عن بقايا أجزاء وشذرات لتأثير الفورمالين عليه‏,‏ وأصبنا بخيبة أمل كبيرة حتي كانت المفاجأة الكبري وهو الحصول علي الفيروسات كاملة من عينات عن طريق العالم جوهان هالتن‏..‏فكيف حدث ذلك؟
لقد تذكر الدكتور جوهان زيارته لبلدة بريفج ميشان في ألاسكا منذ‏40‏ عاما مضت عندما كان لا يزال طالبا وتذكر مقبرة الثلوج‏,‏ وفكر في أن حفظ جثث الموتي في الثلج الدائم ربما تبقي علي الفيروسات طوال هذه السنين الطويلة‏,‏ وعاد جوهان بمفرده هذه المرة إلي آلاسكا‏,‏ وكان يناهز من العمر‏71‏ عاما‏..‏وحصل علي إذن من المجلس المحلي لقرية بريفج ميشان وتم فتح المقبرة القابعة في الثلوج واختار جثة كاملة لسيدة بدينة للحصول علي أجزاء من الرئة ربما يكون الفيروس مازال كامنا فيها‏,‏ وأكد أن دهون الجسم مع البرودة المستمرة حافظت علي أنسجة الرئة‏....‏وعاد بالعينات إلي زملائه‏.‏
إعادة الحياةإلي القاتل الكبيرولأول مرة في تاريخ البشرية في عام‏1997‏ وبطريقة غير مسبوقة يتم عزل ميكروب ويعاد إلي المعامل الحديثة بعدما يقارب من‏80‏ عاما ليتم فصل هذا الفيروس‏"‏ فيروس إنفلونزا‏1918‏ أو فيروس‏H1N1"‏ ليخضع لجميع الأبحاث الفيروسية للتعرف علي أسرار الشراسة التي حملها وتدميره القاتل لأنسجة الرئة في فترة وجيزة‏,‏ وكشف الأسرار عن تفاصيل تركيبه الجيني واختلافه عن الفصائل الأخري‏....‏
وقضي الفريق العلمي برئاسة الدكتور جفري توبنبرجر عدة سنوات في أبحاث مضنية استخدموا فيها كل الطرق التكنولوجية الحديثة في الهندسة الوراثية والجينية والبيولوجية واستخدموا مزارع باثولوجية وأجروا العديد من حيوانات التجارب المعملية‏,‏ وتم أيضا تركيب فيروسات تخليقية تحمل أجزاء جينية منفصلة من الفيروس القاتل لدراسة كل علي حدة‏,‏ ليتم كشف جميع أسرار فيروس‏H1N1,‏ ونشر الفريق العلمي نتائج جميع أبحاثه في مقالات علمية بالدوريات العالمية‏.‏
التركيب الفيروسي لفيروس الإنفلونزاويقول الدكتور أحمد عبد اللطيف أبو مدين أستاذ ورئيس قسم الأمراض المتوطنة الأسبق بكلية طب قصر العيني و نائب رئيس الجمعية الطبية المصرية للحميات إن جميع فيروسات فصائل المجموعة‏(A)‏ تشترك في الصفات التركيبية وأهمها‏:‏ وجود بروتين‏(H)‏ ويسمي‏"‏ هيموأجليوتينين‏"‏ علي السطح الخارجي للفيروس كجزء من الغلاف المحيط به وهو المسئول عن اتحاد الفيروس مع مستقبلات خاصة علي سطح الخلايا المكونة لنسيج الجهاز التنفسي‏,‏ ليتم بعد ذلك اختراق الفيروس لهذه الخلايا‏,‏ ويحدث ذلك في الثدييات التي تصاب بالإنفلونزا وتشمل الإنسان والخنازير وبعض الحيوانات البرية‏,‏ لكن تبين أن الهيموأجليوتينين الموجود في بعض فصائل الفيروسات الأخري مثل إنفلونزا الطيور له مستقبلات خاصة بها علي الخلايا الطلائية للأمعاء في الطيور وفي الجهاز التنفسي للخنازير أيضا‏.‏
أما البروتين‏(N)‏ ويسمي‏"‏ نيورأمينيداز‏"‏ وهو موجود أيضا علي السطح الخارجي للفيروس كجزء من الغلاف المحيط به ويقوم بدور مهم بعد اختراق الفيروس للخلية المصابة وبعد حدوث استنساخ لآلاف الفيروسات داخل الخلية‏,‏ فهو يحرر هذه الفيروسات ويساعدها علي الخروج من الخلايا لتـنطلق وتصيب آلاف الخلايا الأخري‏..‏
لماذا يقوم فيروس الانفلونزا دائما بتغيير أنماطه؟السبب الذي يدعو فيروس الإنفلونزا دائما إلي التغيير دوريا إلي أنماط جديدة حتي داخل المصاب نفسه هو أنه عند الإصابة لأول مرة بنوع معين من الفيروس تتكون لدي المصاب أجسام مضادة لبروتين الهيموأجليوتينين‏,‏ وهذه الأجسام المضادة تقوم بدورها بإعاقة استخدام الهيموأجليوتينين لهذه المستقبلات‏,‏ وبهذا يصبح الفيروس غير قادر علي اختراق الخلايا وإعادة العدوي بنفس النمط السابق‏,‏ لذا يقوم الفيروس بتغيير صفاته الانتجينية ليتحاشي إعاقة الأجسام المضادة له من خلال إعادة تنسيق مكوناته الانتجينية بإنتاج فيروسات جديدة داخل الخلية المصابة نفسها أو من خلال تبادل المكونات الانتيجينية مع الفصائل الأخري التي تزخر بها عائلة الإنفلونزا‏,‏ ويتم ذلك أيضا من خلال الانتقال داخل أنواع الثدييات والطيور‏,‏ ويقبع علي رأس القائمة الخنازير والطيور المهاجرة‏.‏
القدرة التدميرية لفيروس‏H1N1‏أثبتت الدراسات التجريبية التي قام بها الفريق العلمي برئاسة الدكتور جفري توبنبرجر علي فيروس‏H1N1‏ القاتل أن له عدة أساليب قاتلة أثناء الإصابة‏,‏ منها قدرته الضارية علي التدمير السريع والشامل لأنسجة الجهاز التنفسي خاصة الحويصلات الهوائية‏,‏ فعند الإصابة به يقوم الفيروس باستنساخ أعداد مهولة وشرسة لينتشر بسرعة خارقة من خلية إلي أخري دون أن يكبح جماحه شيء‏,‏ ودلت التجارب باستخدام هندسة الفيروسات والتي أجريت علي جينات فيروس‏1918‏ أنها سببت كارثة مروعة مكونة من قدرة فائقة علي التكاثر من خلال استـنساخ رهيب وعنيف‏,‏ حيث تبين أن من خصائص بروتين هذا الفيروس‏(N)‏ والذي يسمي‏"‏ نيورأمينيداز‏"‏ أنه يبدأ بمقاومة عنيفة لمنع تحفيز النوع الأول من الإنترفيرون الخاص بالمصاب من خلال إعاقة نظامه التحذيري المبدئي للجهاز المناعي‏,‏ وهذه الإعاقة تحبط بدورها الاستجابة المناعية ضد العدوي الفيروسية‏,‏ ولذلك ترتع الفيروسات داخل الخلايا دون رادع أو رابط‏.‏
أما الأسلوب التدميري الآخر الذي ثبت بإعادة الأبحاث واستخدام حيوانات التجارب المعملية ومناظرتها بعينات الرئة المحفوظة لضحايا الوباء‏,‏ فقد وجد أن فيروس‏H1N1‏ يسبب حدوث تدمير رئوي فادح وشامل وسببه بصمات البروتين‏(N)‏ الذي يسبب نشاطا التهابيا متعاظما مكونا من أعداد هائلة من خلايا الجهاز المناعي‏,‏ ويؤدي هذا الوجود المكثف لهذه الخلايا المناعية داخل الأنسجة إلي تدميرها خاصة الحويصلات الهوائية‏,‏ وهذه الخلايا المتجمعة هي الخلايا الأكولة الكبيرة وخلايا تي الليمفاوية‏,‏ بالإضافة إلي عدد كبير من الجينات التي لها علاقة بتخريب الأنسجة والتدمير التأكسدي مع تفاقم عمليات الموت الخلوي المبرمج أو ما يسمي الانتحار الخلوي‏,‏ كل ذلك ينتهي بتدمير شامل وسريع لأنسجة الرئة وتسمي هذه الظاهرة‏(‏ زوبعة السيتوكاين أو زوبعة المحركات الخلوية‏)‏ التي تنتج من تحويل الاستجابة المناعية لحماية الجسم إلي أسلوب تدميري‏.‏
كيف حدث التفاعل المناعي القاتل لفيروس‏H1N1‏وأضاف الدكتور أحمد أبومدين قائلا‏:‏ تعتبر زوبعة المحركات الخلوية إكلينيكيا أحد أساليب التفاعل المناعي القاتل الذي يؤدي بدوره إلي حدوث الأعراض العنيفة للمرض خلال فترة وجيزة من الإصابة‏,‏ وهي الحمي العالية المستمرة والفشل التنفسي السريع‏,‏ وميكانيكية حدوث هذا التفاعل المناعي القاتل هي أن هجوم الفيروس يؤدي عادة إلي إرسال إشارات استغاثة من الخلايا المصابة إلي الخلايا التائية الليمفاوية والخلايا الأكولة الكبيرة التي تسارع إلي الذهاب لمكان الإصابة في الرئتين‏,‏ ولكن يحدث وجود لهذه الخلايا المناعية بأعداد هائلة تزاحم الخلايا الطبيعية بل تعوقها عن أداء وظائفها‏
وتبدأ هذه الخلايا المناعية في إنتاج المحركات الخلوية أو‏"‏ السيتوكاين‏"‏ بكميات كبيرة تفوق حد استيعاب الأنسجة‏.‏ وتبين أنه في حالة الإصابة بفيروس إنفلونزا‏1918‏ أو فيروس‏H1N1‏ القاتل فإن هذا الاندفاع المناعي الهائل لم يكن له ضابط مع عدم القدرة علي السيطرة علي هذه القوات المتزاحمة في مكان واحد دون فاعلية‏,‏ مما يؤدي إلي امتلاء الرئتين والحويصلات الهوائية بالسوائل والخلايا الالتهابية‏,‏ وهذا بدوره يؤدي إلي الفشل التنفسي‏.‏
ومن الملاحظ أن هذا التفاعل المناعي الجائر علي وظائف الرئتين يوقف تبادل الغازات داخلهما مما يؤدي إلي الاختناق‏,‏ ومن المعروف أن هذا التفاعل المناعي القاتل ينتج دائما عند تعرض الجسم لهجوم ميكروبي لفيروس جديد ليس لجهاز المناعة سابق معرفة به‏,‏ خاصة إذا كان هذا الفيروس عالي الشراسة‏,‏ مما يدفع جهاز المناعة إلي القيام بوجود مكثف مكان الإصابة‏,‏ مما يؤدي إلي نتائج عكسية تماما علي حياة المريض‏.‏
وهناك دور آخر خطير تلعبه مادة تسمي‏"‏ الانترلوكين‏10"‏ وهي أحد السيتوكاين‏,‏ ففي دراسة الفريق العلمي لخصائص فيروس‏H1N1‏ وجد سبب آخر يساهم في حدوث التفاعل المناعي الجائر وهو إرسال إشارات مفاجئة قادمة من مادة‏"‏ الانترلوكين‏10"‏ والتي تمنع تحول الاستجابة المناعية من وضع الالتهاب إلي وضع الشفاء‏,‏ ولذلك فإن إشارات هذه المادة تسهم في استمرار الحالة الالتهابية وتفاقمها لدرجة تهدد حياة المصاب‏.‏
صفات قتل مشتركةيشترك فيروس الإنفلونزا الاسباني‏1918‏ مع فيروس إنفلونزا الخنازير‏2009‏ في قتل المصابين عن طريق حدوث زوبعة المحركات الخلوية‏,‏ ولكن من الملاحظ أن هذه الظاهرة لا تكاد تكون سائدة الحدوث مع فيروس‏2009,‏ وتبلغ نسبتها أربعة في الألف ونتائجها يمكن السيطرة عليها عن طريق الجهاز المناعي للمصاب الذي يوقف تفاقمها في أغلب الحالات‏.‏ ولكن الأكثر شيوعا هو حدوث متلازمة الفشل الرئوي الحاد التي تعتبر جزءا من انهيار الأعضاء الحيوية للجسم‏,‏ ولذلك فان علاج حالات الإصابة بفيروس‏H1N1‏ يجب ألا يعتمد فقط علي مضادات الفيروسات‏,‏ حيث إنها لن تؤدي إلي حصر الحالة المرضية المتفاقمة نتيجة الاضطرابات المناعية الخطيرة‏.‏
الدور الخطير للمضادات الفيروسيةمن خلال أبحاث تقييم علاج الإصابات بفيروس‏H1N1‏ بالمضادات الفيروسية‏,‏ مثل العقار الوحيد المعروف والمضاد للنيورأمينيداز‏,‏ فقد تبين أن هذا العقار يقوم بدور مهم في منع انطلاق آلاف الفيروسات من الخلايا المصابة‏,‏ باعاقة عمل بروتين النيورأمينيداز‏,‏ وهو الذي يستقطع الفيروسات الناشئة المتكونة داخل الخلايا المصابة لتنطلق وتصيب خلايا أخري‏,‏ ولكن منع خروج الفيروسات من الخلايا المصابة أحيانا يأتي بنتائج عكسية تماما‏,‏ كما يؤكد الدكتور أبومدين‏,‏ حيث إن منع الفيروسات المستنسخة من الخروج وحجزها داخل الخلايا المصابة يسبب انفجار هذه الخلايا في ظاهرة باثولوجية خطيرة تؤدي إلي تحلل أنسجة الرئة تباعا وانهيارها وتلك الظاهرة مع تجمع السوائل الالتهابية وبقايا الخلايا المدمرة تؤدي إلي تسارع الفشل الرئوي والوفاة حتما‏.‏
الفرق بين انفلونزا ‏1918‏ و‏2009‏لقد تبين بعد التحليل الاحصائي وتقييم الآلاف من حالات الإصابة بالإنفلونزا المكسيكية‏H1N1(2009)‏ والمسماة إنفلونزا الخنازير ومقارنتها بمثيلتها الإنفلونزا الإسبانية‏H1N1(1918)‏ هناك اختلاف واضح لشراسة فيروس‏1918,‏ حيث إن أعراض غالبية حالات الإصابة بفيروس‏2009‏ المسبب لأنفلونزا الخنازير تتشابه حتي الآن وإلي حد كبير مع الإنفلونزا الموسمية التي تصيب البشر دوريا وهو دور الإنفلونزا العادية‏,‏ ولكن بصورة أكثر وبائية‏,‏ فهي أكثر انتشارا ومن الملاحظ أنها تصيب جميع الأعمار‏,‏ مما يعني أن هذا التكوين الفيروسي جديد وانتشاره الوبائي يعود إلي عدم سابق هجوم علي البشر فلم يتعرف عليه بعد الجهاز المناعي للمصاب‏
ولم يكتسب بعد الشراسة القاتلة التي كان يحملها فيروس‏1918‏ وبمقارنة حالات الوفيات في كل من الفيروسين وجد أن نسبة الوفاة في إصابات فيروس‏1918‏ كانت تتجاوز‏70%‏ وقد بلغت حالات الوفيات أكثر من‏50‏ مليونا من البشر في خلال فترة وجيزة‏,‏ بينما في حالة فيروس‏2009‏ فإنها لم تتعد‏12‏ في الألف حتي الآن‏,‏ وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية في آخر حصيلة نشرتها الجمعة الماضي أن فيروس‏H1N1‏ أصاب علي الأقل‏378‏ ألفا و‏223‏ شخصا في العالم وتسبب في وفاة‏4525‏ شخصا في‏191‏ بلدا ومنطقة في العالم‏,‏ وذلك منذ ظهوره في مارس‏2009,‏ بنسبة قدرها‏1.1%.‏
مقارنة بين فيروس إنفلونزا الخنازير والطيوروطبقا لما ذكره الدكتور أبومدين وجد أن الفيروس‏H1N1‏ المعروف بإنفلونزا الخنازير لا يصيب إلا الخلايا غير الهدبية التي تحمل المستقبلات الخاصة لهذا الفيروس والمسماة ألفا‏2-6‏ المرتبطة بحامض السيالك‏)‏ وهذه الخلايا منتشرة في النسيج الطلائي للجهاز التنفسي العلوي مثل الأنف والقصبة الهوائية وداخل الرئة أيضا‏,‏ وهناك دراسة أثبتت أن فيروس إنفلونزا الخنازير‏2009‏ قد اكتسب إحدي الصفات التي يحملها فيروس إنفلونزا الطيور وهو إصابة الخلايا العميقة داخل الرئة إذا أتيحت له فرصة التغلغل الباثولوجي‏
أما الفيروس‏H5N1‏ المعروف بفيروس إنفلونزا الطيور فهو لا يصيب إلا الخلايا التي تحمل مستقبلات أخري مختلفة خاصة به وهي‏(‏ ألفا‏2-3‏ المرتبطة بحامض السيالك‏)‏ وهذه المستقبلات لا توجد في الإنسان إلا في أعماق الرئة وعددها قليل جدا حيث توجد الخلايا الهدبية‏,‏ ولكن هذه المستقبلات توجد أيضا في أمعاء الطيور بكثرة‏,‏ فقد بينت إحدي الدراسات أن عدد الفيروسات الموجودة في فضلات الطيور تصل أحيانا إلي مائة مليون فيروس في الجرام الواحد‏.‏
وقد تبين أن كلا من النوعين من المستقبلات موجود في رئة الخنزير الذي يصاب لهذا السبب بالفيروسات‏H5N1‏ وأيضا‏H1N1,‏ وعدم وجود المستقبلات الخاصة بإنفلونزا الطيور في الإنسان إلا في أعماق الرئة هو سبب عدم انتقال فيروس إنفلونزا الطيور‏H5N1))‏ من الإنسان المصاب مع الرذاذ إلي المخالطين‏,‏ عكس ما يحدث في الإصابة بإنفلونزا الخنازير‏,‏ فان مستقبلات الفيروس‏H1N1‏ موجودة في الجهاز التنفسي العلوي مثل الأنف والقصبة الهوائية فيصبح الرذاذ والإفرازات الأنفية حاملة للفيروس لتنتقل إنفلونزا الخنازير بين الناس والمخالطين بسهولة‏.

وأخيرا يبقي التساؤل‏..‏ هل فيروس‏H1N1‏ أو سلالة أنفلونزا الخنازير قد تسربت إلي العالم بفعل فاعل؟ أم ماحدث هو التطور الطبيعي لفيروسات الأنفلونزا؟ أم هي الطفرة التي كانت تترقبها الصحة العالمية كل عقدين أو ثلاثة وربما تسعة عقود من الزمن؟‏.‏تساؤلات سنجد الإجابة عنها حتما ولو بعد حين‏.‏


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق