الأحد، 30 مايو 2010

حوار ما قبل الرحيل مع أسامة أنور عكاشة عن المرض و الموت



أسامة أنور عكاشة: شعرت تحت رحمة جهاز التنفس الصناعي أنني أتمني العبور إلي إحدي الجهتين.. إما الحياة أو الموت> من رحمة الله بالمريض أن يفقده الإحساس بالندم علي ما فعله من أخطاء.. فالله لا يريد أن يضيف إلي عذاب مرضه عذاب قلبه ونفسه وضميره> كرهت غرفة العمليات وكرهت المستشفيات والأجهزة.. وكل هذه الأشياء التافهة التي تقرر مصيري.. بينما أنا مجرد جثة ممددة علي منضدة العمليات
كانت هذه الشهادة بداية لسلسلة شهادات رغبت في إجرائها عن تجربة المرض في حياة الفنانين.. كانت شهادة الراحل العظيم أسامة أنور عكاشة أكثر هذه الشهادات ثراءً وغني، فقد تحدث عن المرض وعن تجربة الموت الذي شاهده وقابله أكثر من مرة في حياته، وكأنه يسهل علي نفسه ذلك اللقاء الذي نرغب جميعًا في تأجيله.. رحل أسامة أنور عكاشة بعد أن صادق الموت.. غير عابئ بالدنيا، ولكنه ترك لنا ميراثًا من أجمل ما قدمت الدراما التليفزيونية منذ بدايتها وحتي الآن، وهذا عزاؤنا الوحيد في فراق أجمل حكائي مصر. علي مدي أكثر من ثلاثين عامًا من الإبداع استمتعنا بما قدمه السيناريست أسامة أنور عكاشة من أعمال درامية تغلغلت في أعماق واقعنا المصري وغيرت شكل مواضيع الدراما التليفزيونية من أعمال كانت تُقدم بهدف تسلية المشاهد إلي أعمال ذات قيمة تحترم عقليته وتنمي وعيه.. لم يكن هذا الزخم الدرامي الذي قدمه يولد بسهولة، فقد كان يرهقه تمامًا كأي مبدع يعاني مشاق ولادة الفكرة، فالمجهود الذهني والعصبي لا يقل بأي حال من الأحوال عن المجهود العضلي، بل إنه أشد وأقسي.بعيدًا عما قدمه أسامة أنور عكاشة، قمنا بتسجيل تجربة أسامة أنور عكاشة مع المرض ومع غرفة العمليات ومشرط الجراح، وكيف تعامل مع مرضه والفلسفة التي خرج بها بعد هذه التجربة المريرة.تاريخ المرض:في التاسعة من عمره تعرض لمرض التيفوئيد وكان علي وشك الموت لولا صدفة أنقذت حياته، فقد سعي والده للبحث عن علاج لحالته حتي قال له الأطباء إن حالة ابنك ميئوس منها فسلم أمره لله فيه وانتظر موته إلي أن نصحه أحد الصيادلة في طنطا بأن هناك صيدليًا في كفر الشيخ لديه دواء اسمه «استربتومايسين»، ولم يكذب الأب خبرًا، فذهب إلي الطبيب ووجد عينة من الدواء وتم العلاج.وهو في الأربعين من عمره أصيب بحصوات في الكلي وظل يعالج منها لمدة أربع سنوات إلي أن قضي عليها.من عام 1994 إلي عام 1999 أصيب بذبحات صدرية متوالية بسبب انسداد في الشرايين، إلي أن أجري جراحة القلب المفتوح في كليفلاند بالولايات المتحدة.. عام 2007 أجري جراحة قلب مفتوح مرة أخري بعد إصابته بضيق في شرايين القلب.. وأخيرًا أصيب بضيق في التنفس بسبب وجود مياه علي الرئة أودت بحياته.أسباب المرض:علي مدي أربعين عامًا كان يدخن 120 سيجارة يوميًا بما يعادل ستة علب وأكثر من 20 فنجان قهوة وعمل يومي متواصل لمدة عشر ساعات.بدأ أسامة أنور عكاشة حديثه عن فترة المرض قائلاً: «التجربة كانت لها خصوصية شديدة خرجت منها إنسانًا جديدًا.. طفلاً عاد إلي الحياة مرة أخري، وبعد انتهائها أدركت أنها بقدر ما كانت محنة، فقد كانت فرصة أيضًا، فالمحنة كانت في شعوري الإنساني بالخوف الممزوج بالملل من حالة المرض والرغبة في التخلص منه ومن آلامه لدرجة أنني وسطت طبيبًا مصريًا في كليفلاند بتقديم موعد الجراحة، وقلت له: «لو عايز تخدمني خليهم يقدموا لي ميعاد العملية»، واستغرب الطبيب جدًا وقال لي: إن الجميع يهربون من الجراحة، وأنت تريد أن تقدمها، فقلت له: «أنا عايز أخلص»، وبالفعل قدموا الموعد.قبل موعد الجراحة بيوم واحد شرح لي حالتي بالضبط، والنتائج التي قد تترتب عليها فقال: بعد الجراحة سنواجه مشكلة التدخين، فأنت تدخن منذ 40 عامًا، وهو ما سيتسبب في مشكلات عديدة ومضاعفات خطيرة، ستؤثر بالتأكيد في الرئتين، وما قاله حدث بالضبط، وبعد الإفاقة دخلت العناية المركزة، وتوقفت الرئتان عن العمل تمامًا، وتم وضعي علي جهاز التنفس الصناعي، وكانت هذه أصعب الأوقات.. شعرت بحالة شديدة من الضيق النفسي، فأنا علي قيد الحياة، لكني لا أتنفس.. الجهاز هو الذي يؤدي هذه المهمة.كنت وقتها محرومًا من الطعام والشراب وكنت في حالة عطش لا توصف، فالماء ممنوع لأنهم يريدون التخلص من الماء الموجود علي الرئة.. شعرت وقتها ومن خلال تعبيرات الأطباء أنني علي الحافة «بين وبين»، فقد قال الطبيب لصديق جاء لزيارتي «we hope that he makes it ..we did our best».. فكرتني هذه الجملة بكلمة الأطباء المصريين: «إحنا عملنا اللي علينا والباقي علي ربنا».. شعرت من ضيقي وكربي وأنا تحت رحمة جهاز التنفس الصناعي أنني أتمني العبور إلي إحدي الجهتين.. إما الحياة أو الموت.. تمنيت أن أتخلص من حالة العجز.. كانت أفكاري في غرفة العناية المركزة كلها تتمحور حول تفاهة البني آدم الذي يملأ الدنيا صخبًا وضجيجًا، ويخوض معارك وصراعات، ثم يقع مسطوحا علي فراش لا حول له ولا قوة، حتي نفسه لا يمكنه التحكم فيها.. مرتبط بجهاز إذا توقف الجهاز انتهي الإنسان.. شعرت وقتها أن الأقوي في الإنسان هو أفكاره، وليست قواه الجسدية التي يملكها، حتي وهو في أشد لحظاته ضعفا، لكني ورغم أنني كنت أفكر، فإنني كنت من الضعف لدرجة أني في حالة استسلام تام، وقد يكون هذا رحمة من الله بالمريض أن يفقده الإحساس بالندم مثلا علي ما فعله من أخطاء، فالله لا يريد أن يضيف علي عذاب مرضه عذاب قلبه ونفسه وضميره. بعد أن اجتزت محنة المرض شعرت أن تغيرات كثيرة حدثت بداخلي. مواقف كثيرة اختلفت، لكن أكثر ما تغير، هو شعوري بأنني أصبحت أكثر شجاعة، فقد قابلت الموت.. كانت خطوة واحدة هي الفاصلة بيني وبينه، ومن حسن حظي أو من سوء حظي كانت الخطوة للنجاة لا للوفاة.. فماذا بعد مواجهة الموت؟! الخوف من الموت هو الهاجس الأكبر الذي يخافه الجميع.. يكرهون أن تنتهي حياتهم ويتمردون عليه، ولا يصدقون أنه قد يكون قريبًا منهم، وأعتقد أن هذا الخوف هو السبب في نشأة الأديان والفلسفة، فالدين نشأ عن فكرة العجز عن تفسير مسألة الموت والتلاشي. بالفعل كنت أخاف من الموت.. من حالة العدم والصمت الأخرس الكامل الشامل.. هذه التجربة جعلتني أكثر شجاعة ومستعدًا لمواجهة الموت في أي لحظة، وأكثر شجاعة في مواجهة مواقف الحياة والتعامل معها، فإذا كنت واجهت الموت فما بالنا بباقي المشاكل التافهة. أصبحت لا أهتم بعمل موازنات وحسابات قبل اتخاذ موقف، بل أقيمها بعد الموقف نفسه، فما أريد قوله أقوله، وما أستهوي فعله أنفذه فورا، فقد أصبحت الحسبة بعدية وليست قبلية.ربما كانت الضجة التي أثارها البعض حول هجومي علي عمرو بن العاص نتاجًا لهذه الشجاعة، فقد أصبحت لا أهاب أحدا.. عدت طفلا من جديد، والأطفال لا يخافون من إبداء آرائهم، وهذه نتيجة إيجابية لتجربة المرض، فقد وضعتني علي طبيعة الأشياء وعلي أرض الحقيقة.. لا شيء يخيفني إلي درجة التقييد، فالمرض تجربة ضعف إنساني قد تنتج شخصا أقوي، وقد طبقت هذه التجربة علي نفسي.علي الرغم من أن أسامة أنور عكاشة تحدث معنا عن تجربة مرضه فإنه قال إنه لم يفكر في الكتابة عنها، لأنه يشعر أن الكتابة عنها هو نوع من الاتجار بها، لأن ملايين الناس تمرض كل يوم، مضيفا: هي تجربة خاصة والحالات الإنسانية لا تتشابه.. أنا شخصيا تعرضت في طفولتي لمرض التيفوئيد، ونجوت منه بأعجوبة، كما تعرضت لحصوات في الكلي، فتجربة مرضي لا تستأهل التسجيل ماعدا عملية القلب المفتوح، والتي كنت سأكتب عنها، فقط لأنني تمنيت لو كانت هذه العملية موجودة عندما ماتت والدتي عن عمر 28 سنة بمرض الحمي الروماتيزمية في القلب، فلو كانت هذه الجراحة موجودة وقتها، لكان عمرها قد طال، ولما كنت تيتمت وأنا في السابعة من عمري.لم يفاجأ أسامة أنور عكاشة أو يندهش عام 1999 عندما أجري رسم القلب في مستشفي القوات المسلحة عندما قال له الطبيب إنه يعاني خللاً في كهرباء القلب ناتجًا عن انسداد في الشرايين، فقد كان يدخن 120 سيجارة يوميا ويشرب القهوة علي مدار اليوم وعلي مدار 4 سنوات ظل يعالج بالأدوية، وخلالها كان يكتب الجزء الخامس من ليالي الحلمية والجزء الثاني من أبو العلا البشري، بينما عرض مسلسل «لما التعلب فات» وهو في أمريكا.عندما بدأ يهيئ نفسه لجراحة القلب المفتوح، وقبل سفره حدثه جمال الغيطاني وعمار الشريعي، واللذان أجريا نفس الجراحة في كليفلاند، ونصحاه بالسفر فورا، وعدم إجراء الجراحة في مصر، فقد قال له الشريعي: «إذا كانت هناك حقنة يمكن أن تأخذها خارج مصر، فلا تأخذها هنا». استمرت الجراحة 7 ساعات، وكان يرافقه صديق واحد فقط، فقد رفض أن يرافقه أحد من عائلته، وبعد انتهاء فترة المرض أقلع عن التدخين تماما لمدة عامين، لكنه عاد إليها بسبب وفاة ثلاثة من أقرب أصدقائه إلي قلبه في عام واحد، وهم محمد شعلان والمخرج محمد شاكر والسيناريست محسن زايد، وعن هذه التجربة قال عكاشة: عدت إلي التدخين بشراهة، وعدت إليها رغم أنني كنت كارها لها، فقد كانت صدمات موت الثلاثة متلاحقة وقاسية جدا.. شعرت أنني لست أفضل منهم، والحياة والموت سيان، بل بالعكس كنت أفضل أن أذهب إليهم.. كانت لدي ميول انتحارية، وتحت تأثير هذا الاكتئاب عدت للتدخين وتعبت وأجريت قسطرة في القلب ودعامة. عندما دخلت غرفة العمليات مرة أخري شعرت أنني أعاقب وأنني أستأهل ما يجري لي، وكنت ساخطًا علي نفسي جدا.. كرهت غرفة العمليات وكرهت المستشفيات والأجهزة، وكل هذه الأشياء التافهة التي تقرر مصيري، بينما أنا مجرد جثة ممدة علي منضدة العمليات، والأهم من كل ذلك أنني كرهت التدخين ولم أعد إليه إلي الآن.تعلمت درسًا جديدًا بعد أن أعطاني الله فرصة ثانية، فالحياة جميلة وستستمر طالما أنني أعيشها وأستمتع بها، ولن أفكر في موعد انتهائها، فلتنتهي في أي وقت، لكن طالما أنا علي قيدها، فلأستمتع بها كما هي، وهذا أشبه ما يكون بمقولة الشاعر أحمد رامي في ترجمته رباعيات الخيام عندما قال: «غدا بظهر الغيب واليوم لي».لا أدري ماذا سيحدث غدا.. لا أدري سوي أنني في هذه اللحظة أنا هنا، وهو ما جعلني أكثر رغبة في الاستمتاع، وأكثر إقبالا علي الحياة، وهو ما كثف حكمة كنت قد كتبتها أكثر من مرة: «أن تندم علي ما فعلت خير من أن تتحسر علي ما لم تفعل»، فالندم نتيجة تجربة، أما الحسرة فنتيجة عجز والعجز مرض.

الدستور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق