الأحد، 30 مايو 2010

قضية التراث .. في "أوديب و شفيقة"



بالتأكيد نحن نقرأ التراث بطريقة خطأ وبأسلوب بعيد كل البعد عن طبيعة الفهم والوعي بماهية التراث كمادة خام يمكن من خلالها "صنع مادة درامية هادفة" من الناحية المضمونية ومن الناحية التشكيلية والصورة المسرحية. الماهية والمضمون والصورة المسرحية كلاهما نتاج إما وعي بالمادة التراثية وجذور "الوطن الغائب" وتوظيف هذه الماهية لخلق صورة متناغمة مع هذا المضمون لطرح جديد ورؤية جديدة تتعارك مع الواقع الجديد ونقده أو قراءته بصورة ساخرة أو هادرة مؤداها طرح السؤال لماذا نطرح الواقع في صورة أو شكل تراثي شعبي مغاير إذا كان الخطاب الدرامي "أعرج" أو "ناقصاً" أو "بلا جديد"؟ كل ما هو تراثي شعبي من الحتمي أن ينطوي علي جديد كخطاب درامي فكري معاصر يواكب الحدث وترجمة أو تفسير أو توضيح أو "مضاجعة" الخطاب مع الصورة لكي يأتي المنتج ذو "الخلطة التراثية" بما هو جديد يتلاحم مع الواقع ونقده سواء كان هذا النقد سياسياً أو نقداً اجتماعياً لكن يبدو ان الفكرة. فكرة المؤلف كانت طاغية وسيطرة علي عقل ووجدان المؤلف دون التفكير في ماهية طرح الفكرة فكانت فكرة وصورة دون ملاحقة الذاكرة الانفعالية بماهية طرح هذه الفكرة وهل هي ملائمة في شكلها من حيث البناء المعماري الدرامي للصورة مع طبيعة الشكل الذي طرحه؟ وكان عليه أن يطرح السؤال لماذا "أوديب وشفيقة" وما العلاقة التاريخية والموضوعية والواقعية والتراثية؟ كيف جاء هذا التلاقي خاصة ماهية وروح التباعد التاريخي والتناسخ مع الواقع والشتات التراثي والرفض الواقعي لموضوعية الطرح؟ هذا "التزاوج الدرامي" فيه قدر كبير من "السذاجة الدرامية" حتي ولو حاول خلق مبررات في الموضوع حول شخصية كل من أوديب وشفيقة "!!". مسرحية "شفيقة ومتولي" وتعرض بقاعة الغد للفرقة القومية للعروض التراثية والعنوان قد يبدو مثيراً ويدعو للتأمل والقلق والتحفز واللهاث لمعرفة ما الموضوع وما الحكاية؟ ما ان تري "السياق الدرامي" والرؤية التشكيلية والسينوغرافية للمخرج تجد نفسك أمام حالة صادمة فما الذي جمع هذا مع ذا. شخصية أوديب شخصية اسطورية من التراث اليوناني القديم وشخصية شفيقة من التراث الشعبي المصري الشفاهي وشتان بينهما وأري ان التلاقي بين الشخصيتين أشبه "بأضغاث الأحلام" المستيقظة في لاوعي الكاتب. كما أري ان الفكرة غازلت المخرج و"تلبسته" بفعل "شيطانة" فلم يرها علي حقيقتها فصدقها "كحقيقة فنية" بالنسبة للكاتب هي "مراهقة درامية" وللمخرج مغامرة لم يحسبها أو تعمد عدم المحاسبة فكان اهتمامه بالصورة المسرحية الآخاذة من خلال "المجملات" و"المكملات" من خلال الأغنية والاستعراضي والأداء الساحر لمجموعة ممثليه وفضاء مسرحي وازياء وألوان وهكذا حاول العرض كما شاهدته خلق مبرر للتلاقي بين أوديب وشفيقة كحدث درامي داخل قاعة العرض حيث "المعلمة نبيهة وابنتها شفيقة ونجيب أفندي والحوار حول التمثيل في الماضي وفي الحاضر وكيف ان التمثيل في الماضي كان جميلاً وله معني وقيمة وبعد لحظة تدخل "دلال" التي كانت تربطها قصة حب قديمة بنجيب أفندي وكانت تشاركه في تقديم العروض المسرحية. تدخل دلال باستعراض راقص وهي في الأصل "حنان" إلي أن تحولت لدلال واحترافها الفن الخليع لمواكبة العصر وفي حوارات لا تقدم ولا تؤخر يقرر الجميع التشخيص وهم بجوار سيدي الحناوي الأحداث تأتي علي مستويين الأول مستوي "أوديب" والثاني مستوي الحدوتة الشعبية لشفيقة وبصرف النظر عن التشخيص كحيلة أو مبرر لتلاحم المستويين ومحاولة خلق علاقة جدلية أو علاقة عاطفية كما فعل المخرج من خلال حركته المسرحية بين أوديب وشفيقة فكيف يحب أوديب شفيقة والعكس من خلال النظرات وما شابه ذلك من مغازلات ثم السذاجة عندما يعود البصر لأوديب ببركة سيدي الحناوي أو سيدي المؤلف ثم اختيار أوديب من يوم خروجه من اليونان ليختار مقام سيدي الحناوي أو سيدي المخرج وتستمر لعبة التشخيص وخلق معادلات غاية في الغرابة والتفسيرات العقيمة الغارقة في "ثوب الاغتراب" رغم ما تضفيه من ضحك وسذاجة فيقوم نجيب أفندي بتشخيص دور "لايوس" أبو أوديب والست دلال دور "جوكاستا" أم أوديب وزوجته فيما بعد وكما قالت الاسطورة ان أوديب سيقتل الوحش ثم يقتل لايوس ويتزوج من أمه ويلعب الشيخ في مقام الحناوي دور الكاهن "نصوب" كرمز لكونه نصاباً وهو الذي يقنع "لايوس وجوكاستا" بأن وليدها وكما تقول الاسطورة انه عندما يكبر سيقتل أباه وعلي الجانب الآخر حدوتة شفيقة وكيف ان العمدة يسعي للزواج منها حتي ولو بالقوة دخولاً في هوة الغربة ودهاليز "التشويش التراثي" نعرف في سياق الأحداث الملفقة ان شقيق العمدة يدخل في روع أخيه العجوز ان زوجته حملت سفاحاً وكانت المولودة فيما بعد هي وكأن في هذا تلاقياً بين حدوتة أوديب وشفيقة لنسمع مع نهاية العرض أوديب يقول من أنا؟ وتقول شفيقة أنا أبقي مين؟ أوديب والأسطورة المعروفة والصراع علي كرسي العرش وشفيقة وصراع العمدة للفوز بها ومحاولة الكاتب أحمد الأبلج "لوي ذراع" الحدوتة الشعبية ومسخها وطردها من سياقها ونسيجها والجري وراء عنوان قد يبدو له انه مدهش لكنه أطاح بالأسطورة وبالحدوتة الشعبية المصرية!! ماذا فعل المخرج عاصم رأفت في هذا الزخم؟ رغم عصيان الكاتب تجاه الأسطورة وضرب الحدوتة الشعبية في مقتل إلا أن المخرج خلق حالة من البهجة بالأغنية والاستعراض والحركة الجميلة البسيطة في إطار ما هو مسموح والتجول بين الحكايتين غير ان الاستعراض الأول "الموالدي" لم يكن "موالدياً" وكانت تشكيلاته بعيدة عن هذا الجو.. كان لابد ان يدرك د. هاني أبوجعفر مصمم الاستعراضات ماهية طابع الذكر علي عكس ديكورات وملابس فادي فوكيه التي كانت معبرة عن جو الحدثين الإغريقي والشعبي كذلك أشعار سامح العلي وألحان علاء غنيم كلمات وألحان تعايشت مع الحدثين بوعي في التعبير بالكلمة والجملة اللحنية. التمثيل: رغم كل التحفظات علي النص إلا أن العرض قدم أكثر من موهبة حقيقية وأعاد اكتشاف أكثر من ممثل راسخ فمثلاً نجح المخرج في تصدير موهبتين حقيقيتين للمسرح الأول عادل رأفت في دور أوديب وهو ممثل مجتهد اهتم بجماليات الأداء والتفاصيل الصغيرة سواء في التعبير بالوجه أو الصوت أو الجسد. كذلك رضوي شريف في شخصية شفيقة وإحساسها الواعي المحمل بفهم الشخصية. أما الكبار فقد نجح عاصم رأفت في إعادة عايدة فهمي الراسخة وتذكرنا بممثلة المسرح النادرة في كل شيء في الثبات والأداء والإدراك. هي ممثلة مسرح من الطراز النادر كذلك مصطفي طلبة صاحب الأداء السهل الممتنع يأخذك بأدائه ورسوخه ويقف معهما ناهد رشدي وهي عاشقة للمسرح بكل تفاصيله ومن المفاجآت أيضاً أداء شادي أسعد في شخصيتي الشيخ أمشير والكاهن نصوب. فهم ووعي وأدراك وتعبير شاركهم في تحقيق الصورة ورسم ملامح الأداء أحمد أبوعميرة وأمين عامر ومحمد عبدالفتاح. كلمة أخيرة : لابد من تشكيل لجنة من علماء التراث الشعبي المصري والعربي والبحث الدائم في تراثينا بما يحقق الهدف المنشود منه لتحقيق عاملين هامين الأول الحفاظ علي التراث من التشويه أو التصرف في هياكله وعظامه وتفاصيله واستخدامه كمادة خام لنصوص مسرحية جديدة تتوحد مع الواقع الجديد بكل تفاصيله السياسية والاجتماعية وأري كما يري معي الكثرون أهمية عودة المسرح الشعبي الذي يصب في الوجدان الجمعي للوطنين العربي الكبير والوطن الأم مصر لمواجهة أيضاً طوفان العولمة ذات الأنياب التي تنهش كل يوم الجسد العربي علي مرأي ومسمع من الجميع لعل وعسي.


الجمهورية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق