بعد الانتهاء من صلاة المغرب، أمس الأول، ظل الحاج أحمد جالسا فى مكانه بالصف الأول من المصلين فى مسجد السيدة زينب.ينتظم الحاج أحمد، المحامى، فى الحضور إلى مسجد السيدة أيام كل ثلاثاء للاشتراك فى حلقات الذكر «الحضرة» التى تنظمها الطريقة الصوفية الخليلية، والتى تتكون من تلاوة القرآن وذكر الأوراد التى تشيد بعظمة النبى وآل البيت ثم «الشيخ صالح أبى خليل» من بعده. أحيانا يقسم الحاج أحمد الأيام بين مسجدى الحسين والسيدة، فالاثنين والأربعاء والجمعة فى الحسين، والأحد والثلاثاء والخميس فى السيدة. لا يذكر الرجل الستينى عدد السنوات التى انخرط خلالها فى هذا الطقس اليومى من كثرة عددها. «يوم الاثنين فى الحسين منعونا نعمل الحضرة، قلنا يمكن ما تكونش ممنوعة هنا»، يؤكد الحاج أحمد أن موظفى مسجد الحسين أغلقوا النور وطردوا المصلين بعد صلاة العشاء مباشرة، أمس الأول. بعد الدرس الدينى القصير من إمام المسجد، بدأ المؤذن فى تلاوة آيات من سورة آل عمران. صوته العذب يفرض سكونا وصمتا خاشعا على الحاضرين، لا يقطعه إلا بعض صيحات الاستحسان «علشان السيدة المشيرة العظيمة الطاهرة السيدة زينب».يستعد الحاضرون لصلاة العشاء، فى حين يظهر بين المصلين أحد «مجاذيب السيدة». كان يهذى بصوت عال بعبارات غير مفهومة أنهاها بإعلانه قرارا قاطعا «إحنا حنبات فى المسجد طول الليل النهاردة. مش حاقول حاجة تانية». فور انتهاء صلاة العشاء، اتجه الحاج أحمد مع أغلب المصلين إلى باب ضريح السيدة زينب. التف حول المقام عشرات «المحبين» ينغمون الأوراد الصوفية. «جدها خير الأنام، ومن بها حقا توسل قضت حاجته».رائحة المسك تختلط بعبير الورد البلدى الأحمر الذى يهوى محبو السيدة وضعه بجوار ضريحها. فى الحجرة الملاصقة للمقام يصطف العشرات فى صفين متوازيين، استعدادا لإقامة حلقة ذكر تنظمها طريقة «دلائل الخيرات» الصوفية.الشيخ صلاح، خليفة الطريقة دلائل الخيرات، ينظر إلى الواقفين أمامه فى حيرة شديدة. «بعضهم لا يعرف قرار إلغاء الحضرة»، يقول الشيخ صلاح إنه سيحاول أن يوزع «النفحات» من طعام وأموال يتبرع بها رواد الطريقة على الفقراء الحاضرين بحلقة الذكر ثم يطلب منهم الرحيل.يبدو على الشيخ صلاح الحزن الشديد على قرار إلغاء الحضرة، وإن كان يرفض التعليق عليه سوى بكلمات معدودة «طاعة أولى الأمر واجبة». فجأة، دخل إلى الضريح اثنان من أمناء الشرطة وبعض موظفى المسجد «ياللا يا حضرات، اطلعوا من هنا. دا قرار من وزارة الأوقاف».لا تلاقى صيحاتهم سوى التجاهل التام، ويستكمل المحبون التمسح بالضريح وقراءة القرآن والأوراد والتوسل. أمام هذا التجاهل، يذهب أحد أمناء الشرطة لقطع الإضاءة عن الضريح لإجبار الرواد على الرحيل.يقول أحد موظفى المسجد، اشترط عدم ذكر اسمه، إنه غير سعيد باضطراره لتنفيذ القرار الذى وصله صباح الاثنين الماضى، إلا أن موقعه الوظيفى لا يعطيه حق النقاش أو الرفض.أخرج الموظف دفتر الحضور والانصراف، مظهرا «إشارة رسمية» مكتوبة بخط اليد من مكتب «معالى السيد وزير الأوقاف وإدارة الشئون الدينية بالوزارة». تنص الإشارة على منع كل الحضرات والموالد داخل المسجد، واعتبار أى تصاريح سابقة بإقامة حضرات داخل المسجد لاغية، «وعلى أئمة المساجد تنفيذ التعليمات لحين صدور تعليمات جديدة». مشادات عابرة بين أمناء الشرطة وزائرى الضريح تنتهى دون مشاكل. خرج الرواد من الضريح وتولى الموظفون إغلاقه بالقفل. التف أتباع الطريقة الخليلية حول الحاج أحمد، وبدأ نقاش غاضب. «هو مش الوزير اللى منع الحضرة؟ إحنا حنعملها غصب عنه. لأن الإذن للحضرة من النبى مش منه». استكمل أمناء الشرطة طرد المصلين إلى خارج المسجد كله، فى حين وقفت مجموعة من الطريقة الحامدية الشاذلية أمام باب الضريح تتلوا أورادها فى تحد واضح.أشار الحاج أحمد إلى زميله قائلا: «دا دكتور أسنان، وأنا محام، وأخويا لواء فى الشرطة، وفينا مستشارون وناس مهمة فى البلد. إحنا مش حنسكت». الحاج أحمد قال: إنه سيتصل فور خروجه من المسجد بصديقه المستشار فى إحدى محاكم القاهرة «وأحد عاشقى آل بيت النبى»، وأن الوزير أو غيره لن يقدروا على منع أحد من الصلاة والذكر. يقول الحاج أحمد: «كل الناس هنا ما لهاش علاقة بالسياسة، وما حدش فاهم القرار ده سببه إيه». فى التاسعة مساء كان المسجد قد أصبح خاليا إلا من نفر قليل يتلون القرآن ويصلون بعيدا عن الضريح، بعد أن كان يضج الأسبوع الماضى فى نفس الموعد بأهازيج مريدى أكثر من 60 طريقة صوفية تزور «الحرم الزينبى».«المجذوب» الذى أصدر قرار المبيت داخل المسجد، فقد اتجه سريعا إلى أحد الموظفين المسئولين عن إخلاء الضريح ولطمه على وجهه بقوة ثم فر هاربا.
الشروق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق