قضت مها وقتا طويلا مع صديقتها داخل السوبر ماركت الكبير بضاحية المعادى، خرجت منه بعربتين مملؤتين بأكياس الطعام الذى تحتاجه أسرتها والذى تحتاجه هى نفسها، فقد قررت السيدة أن تختم عشرينياتها بالامتناع عن أكل اللحوم والدجاج والبيض والألبان وتصبح «نباتية». تشير مها إلى الأكياس فى العربة قائلة: «اشتريت لهم كل ما يريدونه، وعلى فكرة كل هذه اللحمة والبرجر والدجاج للبيت.. ليس لى فيهم نصيب»، فالنباتى ليس هو الشخص الذى لا يأكل اللحوم فقط، فالبعض يكتفى بعدم أكل اللحوم الحمراء وهم شبه النباتيين، أما النباتى الكامل مثل مها فهو لا يأكل اللحوم الحمراء ولا البيضاء ولا الأسماك ولا الألبان ولا البيض ولا عسل النحل! وما بين النوعين، هناك النباتى ــ لاكتو أى أنه يأكل مثل النباتى الكامل فيما عدا الألبان ومنتجاتها، والنباتى ــ بويو الذى يستثنى من نظام أكله الدواجن، وهناك كذلك من يستثنى الأسماك. وفى عائلة مها يسميها والدها «فقرية» بدلا من «نباتية»، وهى دعابة يظهر لها أصل فى الثقافة المصرية، فلأسباب غير مفهومة ارتبطت اللحوم البقرية بالثراء واكتسبت قيمة جعلتها دليلا على الكرم إذا حضر الضيف ورمزا للابتهاج فى المناسبات، رغم أن المصرى ــ منذ القدم ــ هو فلاح يربى الماشية والأبقار لمساعدته فى الحقل وأكل لحومها. بينما قدس بعض الحيوانات، أعد أطباقا من اللحوم الحمراء التى سمى بائعها «حات» ومنه اسم «حاتى» الذى نطلقه اليوم على «الكبابجى». ولا توجد إحصائيات عن أعداد النباتيين، لا لدى المطاعم الكبرى فى مصر من واقع زبائنها ولا لدى الأجهزة الحكومية، التى لم تظهر بعد اهتماما بمعرفة النسبة، لكن ينعكس ارتفاع أعداداهم من زيادة العرض على أغذية النباتيين. من ناحية أخرى، زاد نصيب الفرد فى مصر من استهلاك اللحوم الحمراء، إذ وصل عام 2007 إلى 16 كيلوجراما فى السنة وفقا لتقرير الأمانة العامة لمجلس الوزراء العام الماضى، فالمصريون يدفعون الحكومة لفتح باب استيراد اللحوم من بلاد مختلفة لطرح بديل عن اللحم المحلى، الذى خرج سعره عن سيطرتها، بينما كان ذلك يجرى كانت مها وغيرها من النباتيين يبحثون عن أكل نباتى خالٍ من اللحوم، وهو ما يجعل العيش كنباتى أمرا صعبا. قررت أن أمتنع فى أحد مكاتب الاستشارات القانونية، استعد الزملاء لتجهيز «أوردر» الغذاء وقرر كل منهم طلبه من الطعام، أما هيثم محمد فلم تكن أمامه خيارات كثيرة، فقد قرر قبل 4 سنوات استبعاد اللحوم من قائمة طعامه ماعدا الأسماك، وهو القرار، الذى لم تفلح اغراءات الطعام أو مناقشات الزملاء فى إثنائه عنه. «صرت نباتيا رفضا لطريقة تربية الحيوانات ومعاملتها القاسية، من ناحية أخرى تأثير استهلاك اللحوم على البيئة»، يقول هيثم ذلك موضحا: «إقبال البشر على أكل اللحوم دفعهم إلى تربية المزيد منها على حساب مساحات الأشجار التى تحولت إلى مراعى أو مزارع لإنتاج علف المواشى، فضلا عن أن هذه الحيوانات نفسها تنتج 17 فى المائة من إنبعاثات غاز الميثان الضار بالبيئة». يبدو الشاب ملما تماما بالجانب البيئى لنظام التغذية النباتى، فقد اطلع بشكل مكثف على ذلك قبل اتخاذ قراره بالتحول إلى نباتى.مثله فعل أشرف عمران الذى ركز اهتمامه على المشروعية الدينية للإمتناع عن أكل اللحوم، لدرجة إصداره فتوى من دار الإفتاء تجيز اتباع النظام الغذائى النباتى. ويروى المهندس الشاب عن هذا القرار: «لم يكن الأمر مستبعدا لدى أسرتى، فأنا منذ صغرى لا أميل إلى أكل اللحوم، ولا أحب أن أرى حيوانا يذبح حتى أنه بعد عيد الأضحى كنت لا آكل لحما أو بيضا ولا أحب حتى رؤيتهما»، وهكذا منذ 10 شهورا أعلن أشرف عن كونه نباتيا.غير أن هذه القراءات والدأب لم تمنع أسرة هيثم من استغراب قراره بالامتناع عن أكل اللحوم»، وهو يحكى: «كان تعليقهم (مش انت اللى هتصلح الكون!).. لكن الأكل فى النهاية نوع من الحرية الشخصية، وبشكل ما نجحت فى تحويل شقيقتى للأكل النباتى، وشقيقى الصغير على الطريق نفسه». آية مصطفى امتنعت هى الأخرى عن أكل اللحوم منذ عام 2007، وهى نباتية خالصة منذ عامين لأسباب صحية وروحانية فى المقام الأول والأخير، وتشرح: «أحسست بأننى عندما أدخل جسمى لحم حيوان أو لبنة أو بيضة فإننى اكتسب ثقلا جسمانيا وروحانيا، وكأن هذا اللحم عبء على كإنسان يرغب فى التحليق والانفصال عن الأرض، لا أكل لحم كائناتها!» لم تتقبل عائلة آية القرار غير المعتاد بالتحول للأكل النباتى، خاصة أن تبريره بدا لهم غريبا فدخلوا فى مناقشات محفوظة ــ كما تسميها الشابة النباتية التى لم تتأثر بالاستغراب والاستنكار للفكرة، وما تزال تتطلع على فوائد نمط الحياة النباتى: «مؤخرا قرأت كثيرا عن Macrobiotics وهو باختصار نظام نباتى يسمح بأكل السمك كل فترة، ويحث على على أكل الحبوب الكاملة بدلا عن القمح الأبيض، وبدأت فى اتباع هذا النظام».وفيما تبدو كلمة «نباتى» أكثر انتشارا فى مصر عن ذى قبل، لا ينكر أشرف وجود من قرروا التحول إلى نباتيين من باب «تقليد الغرب» حتى تحول الأمر إلى ما يشبه «الموضة»، ويتفق معه هيثم الذى يرى أن البعض تبنى النمط النباتى من باب اكتساب مظهرا متحضرا. الحياة بأطباق خضراء بعد أن صار أشرف نباتيا، تساءل: «كم شخصا مثله فى مصر؟» اتخذوا هذا القرار، فأنشىء مجموعة على موقع فيس بوك أسماها «جمعية المصريين النباتيين» للبحث عن إجابة متوقعا أن عددهم قليل جدا، وصدقت توقعاته كما يقول: «غالبية أعضاء الجروب إما أصدقائى أو أقاربى ودخلوا الجروب من باب المجاملة لى، أو من الأجانب، وبعض الأفراد دخلوا للاستفسار عن الأكل النباتى من باب حب الاستطلاع أو بغرض انتقاده!»يحاول النباتيون فى مصر التعارف، وكان الإنترنت الوسيلة الأسهل والأكثر فعالية لذلك، فعلى موقع فيس بوك الاجتماعى هناك عدة مجموعات تجمعهم، ألا وهى «النباتيون فى مصر» و«وحدة النباتيين المصريين» و«المسيرة النباتية المصرية»، ولا تحظى هذه المجموعات بالشعبية انعكاسا لقلة أعداد النباتيين فى الواقع، مع ذلك تظل نشطة بأعضائها الذين يتبادلون النقاشات حول كيفية نشر ثقافة الأكل النباتى، وأحيانا تنظم لقاءات يجتمع فيها البعض للتعارف حول أطباق الخضراوات. إلا أن مؤسس جروب «جمعية المصريين النباتيين» لم يحضر أى من هذه اللقاءات، وفى تقديره أنها «جيدة إذا كانت للتعارف أو للحديث عن نمط الأكل النباتى»، رافضا فكرة استخدام تجمعات النباتيين للدعاية لنمط حياتهم وخلق مزيد من الإقبال عليه، ففى رأيه أن «استثناء الإنسان لأكلات معينة من قائمة غذائه هو أمر غير عادى، فالطبيعى هو أن يأكل الشخص اللحوم». وعلى جروب «مسيرة النباتيين المصريين» دخلت مديحة فى مناقشة طويلة مع الأعضاء حول الأماكن التى يمكن أن تجد فيها أكلا نباتيا وبدت مستعدة لتجهيزه بالمنزل، ولا تقصد هنا الأكل «الصيامى» الذى يظهر فى كثير من المطاعم الكبرى والمتوسطة فى موسم صيام الأقباط، إنما المنتجات التى يجرى تحضيرها أو استهلاكها فى المنزل، مثل لبن الصويا ومنتجاته والبرجر والفرانكفورتر النباتى. وهى منتجات تباع فى سلاسل السوبر الماركت العالمية مثل كارفور وهايبر وان وألفا ماركت، فضلا عن محل Bio Shop للأكل الصحى والأورجانيك، كما يطلب بعض النباتيين هذه الأغذية من مطاعم محددة أشهرها مطعم Gaya الكورى فى المعادى. وتتوافر هذه المنتجات بشكل أكبر فى منطقتى الزمالك ودجلة المعادى، حيث يتركز سكن الأجانب الذين يمثلون نسبة كبيرة من طالبى هذه المنتجات إلى جانب بعض المصريين من النباتيين بشكل كامل. ومع عدم انتشارها، تتميز غالبية هذه المنتجات بأسعار معقولة، فعلى سبيل المثال الجبن النباتى (توفو) متوسط سعره 5 جنيهات فقط، فى الوقت نفسه هناك الكثير من الأغذية النباتية محلية الصنع خاصة تلك التى تظهر فى مواسم صوم الأقباط وأشهرها منتجات مصانع «أهف». وإذا كان البحث عن أكل منزلى يتفق مع النظام الغذائى النباتى أمرا يحتاج إلى سؤال وبحث فالالتزام بالأكل النباتى يعد أكثر بساطة، على الأقل لدى أشرف الذى يذكر: «فى أى مطعم أرتاده يمكننى أن أطلب أكلا دون لحم، وأستطيع حتى أن أذكر لهم أننى نباتى، وهم يتفهمون ذلك». تزايد أعداد النباتيين جعل بعض المطاعم يقدم أطباقا نباتية أو صحية، لكن فى تقدير هيثم «طعمها ليس لذيذا، بالإضافة لكونها غالية السعر»، وهو بشكل عام يحب الأكل المنزلى، أما آية فصارت لا تأكل خارج المنزل تقريبا: «وإذا حكمت الظروف، فطلبى يكون طبق سلاطة وهو طلب متوافر فى كل المطاعم». تعود مها إلى منزلها وبعد أن تنتهى من رص مشترواتها فى الثلاجة، تفتح الانترنت تحمل صورة لطبق خضروات بألوان زاهية وتضعها على خلفية الجهاز، وتستغرق فى البحث عن وصفات طعام نباتى. مجمد أو مستورد أو مخلوط بالصويا: اللحم فى زمن الغلاءتدخل سهام السوبر ماركت الكبير وتخرج محملة بحقائب بلاستيكية امتلىء معظمها بالمجمدات، بعد أن قضت وقتا طويلا فى طابور قسم اللحوم، وفى حقائبها حملت سهام كبدة وسجق ولحم مفروم وبرجر، وغادرت المحل تاركة العشرات ما يزالون فى انتظار المزيد من اللحوم. تقول السيدة فى فخر: «الحمد لله اشتريت كل العروض!» وتنفق الأسرة المصرية 28% على اللحوم فى المتوسط من اجمالى إنفاقها السنوى على الطعام والشراب، وفقا لتقرير حديث لمركز دعم المعلومات التابع لمجلس الوزراء. لكن خلال الأشهر الأخيرة تراجعت مبيعات اللحوم الحمراء بنسبة 65% نتيجة ارتفاع الأسعار الذى وصل إلى 65 جنيها للكيلو فى كثير من المناطق، ما تسبب فى إغلاق 30 بالمائة من محلات الجزارة، وفقا لإحصائيات شعبة القصابين بالغرفة التجارية. ولم يبتعد المصريون عن اللحم إلا «للشديد القوى»، كما تسمى سهام الأسعار الحالية. ودائما فى الأوقات التى يرتفع فيها سعر اللحم يبحث الآكلون عن بديل، يكون فى شكل جديد للحم ربما «سجق» أو «لحم مفروم» أو «كفتة» أو أى غذاء يمكن أن يدخل فى تكوينه اللحوم، خاصة أن شراء هذه الوجبات ليس مكلفا فى ظل دخول الكثير من الأنواع المستوردة، حتى لو كانت هذه السلع هى أكثر الواردات مخالفة للمواصفات، بحسب الهيئة العامة للرقابة على الصادرات.وتعرف هذه المعلومة السيدة التى تطهى لأسرة من ثلاثة أطفال ونجحت فى شراء جميع العروض على اللحوم، فتذكر سهام: «أعرف أن كل هذه اللحوم المصنعة خطر على أولادى، وقد تصيب ابنتى بأمراض خطيرة! لكن فى النهاية انتهى زمن التغذية! هذا أكل للاستمتاع، يعنى ساندويتشات هامبرجر لن تفيد أبنائى، لكنها تسعدهم». ونتيجة للارتفاع المستمر فى أسعار اللحوم تحول النمط الاستهلاكى إلى اللحوم البيضاء خلال السنوات العشر من 1995 إلى 2005، ليشكل اللحم الأحمر نسبة 1 بالمائة فقط من نسبة السعرات الحرارية التى يحصل عليها الفرد فى مصر، كما يذكر تقريرا لمجلس الوزراء. وقبل عدة أشهر لاقت دعوة جمعية حماية المستهلك لشراء العجول وذبحها أهليا استحسانا كبيرا، إذ تشترى الجمعية المواشى من المزارع وتذبحها وتبيعها طازجة بسعر التكلفة. فى المقابل، لم تنجح فكرة خلط فول الصويا باللحوم فى اجتذاب ربات البيوت، فقد استخدمها الناس فى التسعينيات ثم تراجع الإقبال عليها ليقتصر استخدامها على المطاعم والمصانع. لكن على مدار الأعوام الماضية برز لحم الجمال كحل لارتفاع أسعار لحوم الماشية، ويشترك الحاج على مع أخويه فى شراء جمل من سوق برقاش كما يقول: «كل عدة أشهر أنزل سوق برقاش فى الجيزة واختار جملا أتقاسم سعره مع إخوتى، نذبحه وندخر لحمه». وهو حل اقتصادى فى نظر الرجل، إذ يؤمن له لحما طيب الطعم بعيدا عن الارتفاع المستمر لأسعار لحوم الماشية. «لحوم الجمال أيضا سعرها يزيد»، كما يضيف الحاج على الذى يلحظ هذه الزيادة كل مرة يزور فيها السوق: «لكنها على أى حال أقل بكثير من أسعار اللحوم الحمراء». ووفقا لتقارير محلية فإن استهلاك لحوم الجمال زاد العام الماضى بنسبة 30 بالمائة عن السابق. ما قد لا يعرفه كثيرون هو أن البنائين من المصريين القدماء كانت تصرف لهم وجبة من اللحم أو السمك مع خضراوات وفواكه وبيرة! بل وضع اللحم وضلوع البقر والكلاوى مع المصرى القديم فى مقبرته، اعتقادا من الفراعنة باحتياجه له ولعدة أطعمة بعد الموت.
الشروق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق