السبت، 27 مارس 2010

بدلاً‮ ‬من تدليل المستثمرين و إذلال الفقراء


قبل نحو شهرين كشفت الدكتورة ميرفت التلاوي وزيرة الشئون الاجتماعية السابقة،‮ ‬عبر تصريحات صحفية وأحاديث تليفزيونية فضائية،‮ ‬عن خطط كانت قد أخذت في تنفيذها،‮ ‬لاستثمار مائتي مليار جنيه من أموال التأمينات بشراء شركات ناجحة تضخ أرباحها في أموال التأمينات بهدف ضم نحو سبعة ملايين فقير في مصر إلي التضامن الاجتماعي،‮ ‬لكن رؤساء الحكومة المتعاقبين،‮ ‬أجبروها علي بيع تلك الشركات،‮ ‬وعلي المضاربة بأموال التأمينات في البورصة،‮ ‬بما شكل مخالفة قانونية ودستورية،‮ ‬لاستيلاء الحكومة علي أموال التأمينات الخاصة المملوكة للأفراد،‮ ‬وتحويلها إلي مال عام تملكه الدولة‮. ‬وما لم تقله الدكتورة التلاوي أن الدولة تفعل ذلك،‮ ‬وهي تجري كالرهوان نحو بيع وخصخصة كل شيء،‮ ‬وفي المقدمة منها الشركات والمشروعات الناجحة،‮ ‬التي يقوم تنفيذيو الحكومة بتسخيرها لتبرير بيعها برخص التراب،‮ ‬ليتبين لها بعد فوات الأوان خطأ ما أقدمت عليه،‮ ‬وليس ما يجري في شركات عمر أفندي،‮ ‬من تنصل المشتري من الالتزام بشروط العقد الهزيل الذي اشتري بموجبه تلك الشركات سوي دليل واحد بين أدلة كثيرة تؤكد عشوائية قرارات الخصخصة،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن عدم شفافيتها،‮ ‬ما لم تقله التلاوي أيضاً‮ ‬أنه تمت إقالتها،‮ ‬برغم الاستقالات المتكررة التي قدمتها،‮ ‬لكي تسلم أموال التأمينات،‮ ‬التي تبلغ‮ ‬أربعمائة مليار جنيه ويستفيد منها نحو‮ ‬18‮ ‬مليون مشترك،‮ ‬إلي وزارة المالية لسد العجز في موازنة الدولة والمغامرة بها في البورصات العالمية والمحلية،‮ ‬وإلغاء الوزارة تماماً‮ ‬لتحل محلها وزارة التضامن التي تمارس نشاط وزارة أخري بجانبها هي التموين،‮ ‬وبعد أن وصف المسئولون الحكوميون الإجراءات،‮ ‬والمشروعات والخطط التي وضعتها الوزيرة المحترمة ميرفت التلاوي لزيادة أعداد ومستحقات المستفيدين من اشتراكات التأمينات،‮ ‬لتتلاءم مع الزيادة المستمرة في الأسعار وتكاليف المعيشة،‮ ‬بأنها اشتراكية‮!‬ تذكرت تلك الواقعة،‮ ‬وأنا أتابع بإعجاب المعركة الشرسة التي قادها الرئيس الأمريكي أوباما علي امتداد نحو عام بعد انتخابه،‮ ‬لتمرير قانون إصلاح نظام الرعاية الصحية،‮ ‬الذي أجازه الكونجرس قبل أيام،‮ ‬بأغلبية ضئيلة،‮ ‬بلغت‮ ‬219‮ ‬صوتاً‮ ‬مقابل‮ ‬212‮ ‬بينهم‮ ‬34‮ ‬عضواً‮ ‬من الحزب الديمقراطي نفسه،‮ ‬وكل أعضاء الحزب الجمهوري،‮ ‬لتمتد مظلة الرعاية الصحية إلي نحو‮ ‬32‮ ‬مليوناً‮ ‬من المهاجرين والفقراء ليصبح نحو‮ ‬95٪‮ ‬من الأمريكيين متمتعين بغطاء طبي،‮ ‬وتبلغ‮ ‬التكلفة الإجمالية لتنفيذ هذا النظام واحدا واثنين من عشرة تريليونات دولار،‮ ‬ويلزم هذا القانون شركات التأمين بتغطية تكليف أي مرض،‮ ‬كما ينشئ صندوقاً‮ ‬حكومياً‮ ‬للتأمين الصحي بتكلفة تبلغ‮ ‬940‮ ‬مليار دولار،‮ ‬وتسعي الحكومة إلي توفير ميزانية نظام الرعاية الصحية الجديد،‮ ‬بفرض ضرائب جديدة علي من يتجاوز دخله السنوي من الأفراد خمسمائة ألف دولار،‮ ‬وللأزواج ممن يتجاوز دخلهم السنوي أكثر من مليون دولار،‮ ‬وفرض ضرائب علي الشركات وصناع الأجهزة الطبية،‮ ‬وأصحاب العمل،‮ ‬وشركات الأدوية،‮ ‬في نفس الوقت الذي الحماية للأدوية التي تستخدم تكنولوجيا مرتفعة،‮ ‬لعلاج الأمراض المستعصية ومنها السرطان‮. ‬وبموافقة الكونجرس علي قانون نظام الرعاية الصحية،‮ ‬الذي كان يعارضه اليمين الأمريكي في الحزب الجمهوري وخارجه،‮ ‬واليمين في صفوف الحزب الديمقراطي،‮ ‬وجماعات المصالح،‮ ‬التي تمثلت في شركات التأمين واتحادات الأطباء،‮ ‬الذين يرفضون أي دور للدولة في مجال الخدمات،‮ ‬ويصفون القانون بأنه توجه نحو الاشتراكية؛ بهذه الموافقة يكون الرئيس الأمريكي قد أنجز أولي وعوده الانتخابية علي المستوي الداخلي،‮ ‬بعد أن عجز معظم الرؤساء الأمريكيين عن تمريره منذ عام‮ ‬1912‮ ‬لتصبح الرعاية الصحية،‮ ‬في الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬معقل الرأسمالية العالمية،‮ ‬حقاً‮ ‬وليست امتيازاً،‮ ‬كما قالت نانسي بيلوسي رئيسة البرلمان الأمريكي عقب تصويت مجلس النواب علي النظام الجديد،‮ ‬وهو التصويت الذي وصفه أوباما بأن الكونجرس يعلن به،‮ ‬أن عمال الولايات المتحدة وعائلاتهم والشركات الصغيرة يستحقون الأمان،‮ ‬وأنه في أمريكا يجب ألا يهدد مرض أو حادث الأحلام التي عملوا علي تحقيقها،‮ ‬وأن التصويت ليس نصراً‮ ‬لأي حزب بل هو نصر للشعب الأمريكي وانتصار للعقلانية‮.‬ هذا يحدث في الولايات المتحدة الرأسمالية،‮ ‬فماذا يحدث في مصر العشوائية؟ لا تتعدي ميزانية الصحة في الموازنة العامة للدولة‮ ‬1٪‮ ‬وتتدهور الخدمات الصحية في القطاع الصحي الحكومي إلي أدني مستوي،‮ ‬ويتعرض المواطنون لأشكال من القهر والإذلال للحصول علي حق العلاج علي نفقة الدولة،‮ ‬التي تسعي الحكومة بطرق ملتوية لإلغائه،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن النقص الهائل في الطواقم الطبية والتمريض المؤهلة حتي في المستشفيات الخاصة،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن الارتفاع الجنوني في أسعار الدواء،‮ ‬والتحايل بجميع السبل لخصخصة هيئة التأمين الصحي،‮ ‬مرة بقرار وزاري بتحويلها إلي شركة قابضة،‮ ‬طعنت المحكمة الدستورية في عدم دستوريته وأوقفت تنفيذه،‮ ‬ومرة أخري بمشروع قانون‮ ‬غامض للتأمين الصحي،‮ ‬عارضه نقيب الأطباء ولجنة الصحة في مجلس الشعب،‮ ‬ثم صمتت الحكومة علي مناقشته في المجلس،‮ ‬لتسرع بتمرير قانون أسوأ منه هو التأمينات والمعاشات،‮ ‬الذي يعارضه المنتفعون والخبراء،‮ ‬لما به من اعتداء جديد علي حقوق أصحاب المعاشات والمؤمن عليهم،‮ ‬كما أن دعوي أمام المحاكم لملاحقته قضائياً‮ ‬من المتضررين من مشروع القانون الجديد الذي تصر الحكومة علي تمريره برغم ذلك قبل انتهاء الدورة البرلمانية الحالية‮.‬ أصبح الحل السهل أمام الحكومة للتغلب علي أزماتها المالية هو الاستيلاء علي حقوق الفقراء،‮ ‬فالدعم يجري تحويله من عيني إلي نقدي،‮ ‬والإنفاق علي الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والإسكان الشعبي يتراجع لنسب مخجلة،‮ ‬تحت حمي البيع والخصخصة السائدة،‮ ‬وتحت زعم تطبيق اقتصاديات السوق،‮ ‬التي دفعت الدولة إلي تدليل زائد وخارج علي القانون للمستثمرين،‮ ‬ورفض دائم لفرض ضرائب تصاعدية علي أنشطتهم،‮ ‬وما الإضرابات العمالية المتصاعدة وشبه اليومية سوي مؤشر واحد متكرر لعدم قدرة الدولة علي التعامل بحسم مع هؤلاء المستثمرين وإلزامهم بحقوق العمال التي تعهدوا بالحفاظ عليها‮!‬ أمريكا الرأسمالية تعطي دوراً‮ ‬كبيراً‮ ‬للحكومة الفيدرالية في رعاية المتاجرين والفقراء،‮ ‬فمتي تدرك الحكومة المصرية أن ما تقوم به لا علاقة له باقتصاديات السوق ولا بالتنمية،‮ ‬فلترفع يدها عن الطمع الدائم في أموال الفقراء وحقوقهم،‮ ‬إذا كانت حقاً‮ ‬راغبة في الاستقرار‮!‬
الوفد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق