قبل نحو شهرين كشفت الدكتورة ميرفت التلاوي وزيرة الشئون الاجتماعية السابقة، عبر تصريحات صحفية وأحاديث تليفزيونية فضائية، عن خطط كانت قد أخذت في تنفيذها، لاستثمار مائتي مليار جنيه من أموال التأمينات بشراء شركات ناجحة تضخ أرباحها في أموال التأمينات بهدف ضم نحو سبعة ملايين فقير في مصر إلي التضامن الاجتماعي، لكن رؤساء الحكومة المتعاقبين، أجبروها علي بيع تلك الشركات، وعلي المضاربة بأموال التأمينات في البورصة، بما شكل مخالفة قانونية ودستورية، لاستيلاء الحكومة علي أموال التأمينات الخاصة المملوكة للأفراد، وتحويلها إلي مال عام تملكه الدولة. وما لم تقله الدكتورة التلاوي أن الدولة تفعل ذلك، وهي تجري كالرهوان نحو بيع وخصخصة كل شيء، وفي المقدمة منها الشركات والمشروعات الناجحة، التي يقوم تنفيذيو الحكومة بتسخيرها لتبرير بيعها برخص التراب، ليتبين لها بعد فوات الأوان خطأ ما أقدمت عليه، وليس ما يجري في شركات عمر أفندي، من تنصل المشتري من الالتزام بشروط العقد الهزيل الذي اشتري بموجبه تلك الشركات سوي دليل واحد بين أدلة كثيرة تؤكد عشوائية قرارات الخصخصة، فضلاً عن عدم شفافيتها، ما لم تقله التلاوي أيضاً أنه تمت إقالتها، برغم الاستقالات المتكررة التي قدمتها، لكي تسلم أموال التأمينات، التي تبلغ أربعمائة مليار جنيه ويستفيد منها نحو 18 مليون مشترك، إلي وزارة المالية لسد العجز في موازنة الدولة والمغامرة بها في البورصات العالمية والمحلية، وإلغاء الوزارة تماماً لتحل محلها وزارة التضامن التي تمارس نشاط وزارة أخري بجانبها هي التموين، وبعد أن وصف المسئولون الحكوميون الإجراءات، والمشروعات والخطط التي وضعتها الوزيرة المحترمة ميرفت التلاوي لزيادة أعداد ومستحقات المستفيدين من اشتراكات التأمينات، لتتلاءم مع الزيادة المستمرة في الأسعار وتكاليف المعيشة، بأنها اشتراكية! تذكرت تلك الواقعة، وأنا أتابع بإعجاب المعركة الشرسة التي قادها الرئيس الأمريكي أوباما علي امتداد نحو عام بعد انتخابه، لتمرير قانون إصلاح نظام الرعاية الصحية، الذي أجازه الكونجرس قبل أيام، بأغلبية ضئيلة، بلغت 219 صوتاً مقابل 212 بينهم 34 عضواً من الحزب الديمقراطي نفسه، وكل أعضاء الحزب الجمهوري، لتمتد مظلة الرعاية الصحية إلي نحو 32 مليوناً من المهاجرين والفقراء ليصبح نحو 95٪ من الأمريكيين متمتعين بغطاء طبي، وتبلغ التكلفة الإجمالية لتنفيذ هذا النظام واحدا واثنين من عشرة تريليونات دولار، ويلزم هذا القانون شركات التأمين بتغطية تكليف أي مرض، كما ينشئ صندوقاً حكومياً للتأمين الصحي بتكلفة تبلغ 940 مليار دولار، وتسعي الحكومة إلي توفير ميزانية نظام الرعاية الصحية الجديد، بفرض ضرائب جديدة علي من يتجاوز دخله السنوي من الأفراد خمسمائة ألف دولار، وللأزواج ممن يتجاوز دخلهم السنوي أكثر من مليون دولار، وفرض ضرائب علي الشركات وصناع الأجهزة الطبية، وأصحاب العمل، وشركات الأدوية، في نفس الوقت الذي الحماية للأدوية التي تستخدم تكنولوجيا مرتفعة، لعلاج الأمراض المستعصية ومنها السرطان. وبموافقة الكونجرس علي قانون نظام الرعاية الصحية، الذي كان يعارضه اليمين الأمريكي في الحزب الجمهوري وخارجه، واليمين في صفوف الحزب الديمقراطي، وجماعات المصالح، التي تمثلت في شركات التأمين واتحادات الأطباء، الذين يرفضون أي دور للدولة في مجال الخدمات، ويصفون القانون بأنه توجه نحو الاشتراكية؛ بهذه الموافقة يكون الرئيس الأمريكي قد أنجز أولي وعوده الانتخابية علي المستوي الداخلي، بعد أن عجز معظم الرؤساء الأمريكيين عن تمريره منذ عام 1912 لتصبح الرعاية الصحية، في الولايات المتحدة الأمريكية، معقل الرأسمالية العالمية، حقاً وليست امتيازاً، كما قالت نانسي بيلوسي رئيسة البرلمان الأمريكي عقب تصويت مجلس النواب علي النظام الجديد، وهو التصويت الذي وصفه أوباما بأن الكونجرس يعلن به، أن عمال الولايات المتحدة وعائلاتهم والشركات الصغيرة يستحقون الأمان، وأنه في أمريكا يجب ألا يهدد مرض أو حادث الأحلام التي عملوا علي تحقيقها، وأن التصويت ليس نصراً لأي حزب بل هو نصر للشعب الأمريكي وانتصار للعقلانية. هذا يحدث في الولايات المتحدة الرأسمالية، فماذا يحدث في مصر العشوائية؟ لا تتعدي ميزانية الصحة في الموازنة العامة للدولة 1٪ وتتدهور الخدمات الصحية في القطاع الصحي الحكومي إلي أدني مستوي، ويتعرض المواطنون لأشكال من القهر والإذلال للحصول علي حق العلاج علي نفقة الدولة، التي تسعي الحكومة بطرق ملتوية لإلغائه، فضلاً عن النقص الهائل في الطواقم الطبية والتمريض المؤهلة حتي في المستشفيات الخاصة، فضلاً عن الارتفاع الجنوني في أسعار الدواء، والتحايل بجميع السبل لخصخصة هيئة التأمين الصحي، مرة بقرار وزاري بتحويلها إلي شركة قابضة، طعنت المحكمة الدستورية في عدم دستوريته وأوقفت تنفيذه، ومرة أخري بمشروع قانون غامض للتأمين الصحي، عارضه نقيب الأطباء ولجنة الصحة في مجلس الشعب، ثم صمتت الحكومة علي مناقشته في المجلس، لتسرع بتمرير قانون أسوأ منه هو التأمينات والمعاشات، الذي يعارضه المنتفعون والخبراء، لما به من اعتداء جديد علي حقوق أصحاب المعاشات والمؤمن عليهم، كما أن دعوي أمام المحاكم لملاحقته قضائياً من المتضررين من مشروع القانون الجديد الذي تصر الحكومة علي تمريره برغم ذلك قبل انتهاء الدورة البرلمانية الحالية. أصبح الحل السهل أمام الحكومة للتغلب علي أزماتها المالية هو الاستيلاء علي حقوق الفقراء، فالدعم يجري تحويله من عيني إلي نقدي، والإنفاق علي الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والإسكان الشعبي يتراجع لنسب مخجلة، تحت حمي البيع والخصخصة السائدة، وتحت زعم تطبيق اقتصاديات السوق، التي دفعت الدولة إلي تدليل زائد وخارج علي القانون للمستثمرين، ورفض دائم لفرض ضرائب تصاعدية علي أنشطتهم، وما الإضرابات العمالية المتصاعدة وشبه اليومية سوي مؤشر واحد متكرر لعدم قدرة الدولة علي التعامل بحسم مع هؤلاء المستثمرين وإلزامهم بحقوق العمال التي تعهدوا بالحفاظ عليها! أمريكا الرأسمالية تعطي دوراً كبيراً للحكومة الفيدرالية في رعاية المتاجرين والفقراء، فمتي تدرك الحكومة المصرية أن ما تقوم به لا علاقة له باقتصاديات السوق ولا بالتنمية، فلترفع يدها عن الطمع الدائم في أموال الفقراء وحقوقهم، إذا كانت حقاً راغبة في الاستقرار!
الوفد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق