المصدر : الشروق
إلى كل من حكمت بسجنهم ظلما طوال عملى قاضيا.. ومن أمرت بحبسهم ظلما عندما كنت وكيل نيابة، لأرواح من ماتوا منهم وللأحياء أتقدم بخالص أسفى وإقرارى بالذنب طالبا العفو والصفح الجميل، وعذرى إليهم أننى حاكمتهم دون أن يكون الفتح العلمى العظيم قد تحقق بالاكتشاف المذهل لنظرية المسئولية الجنائية للعفريت! وأما أصل الحكاية ــ لمن لا يعلم ــ أن متهما ببلد عربى شقيق نسب إليه الحصول على رشاوى بالملايين وعندما سئل عن ذلك اتهم العفريت بأنه حرضه بناء على تحفيز من إنسى، وأنه تحت التحريض وقعت الجريمة، وإلى هنا والقصة عادية وقد عاينت مثلها مئات المرات، فأكثر المتهمين المعترفين بالجرائم كانوا لما يقرون بارتكابها وأسألهم عن الدافع يقولون عبارات على شاكلة (أن الشيطان شاطر أو أن الشيطان أغواهم)، وكنت ــ تحت وطأة جهلى المخزى ــ لا أثبت عادة هذا الكلام فى محضر التحقيق أو الجلسة لأنه لا يفيد المتهم فى شىء.. والمرات القليلة التى صمم بعضهم على حكاية الشيطان وراح يروى قصصا كنت أتخذ نفس الإجراء الذى يتخذه كل محقق وهو إحالة المتهم إلى مستشفى الأمراض العقلية وفى بعض المرات كانت نتيجة الملاحظة تشير إلى أن المتهم مصاب بآفة عقلية كضروب من الهلاوس وما أشبه، وفى مرات أخرى كانت الملاحظة تشير إلى أن المتهم سليم العقل وأن ما يقوله محض ادعاء للإفلات من المسئولية، وفى مرة ادعى أحدهم ذلك وصمم فأمرت بحبسه وعرضه على الطب النفسى، وفى الليل ذهبت لأفتش السجن ولما لقيته سألته عن الشيطان الذى تجسد له وحرضه على هتك عرض طفل فراح يبكى ويبدى أسفه وقال لقد ظلمت الضحية وظلمت إبليس أيضا! وملت وقتها إلى تصديق ظلمه لإبليس لأن الغلام كان يتيما وهو متولى تربيته ولم أكن أعرف وقتها هل يقبل إبليس التحريض على هذا النوع الدنىء من الجرائم أم لا! وهو أمر يدل لا على جهلى وحدى بل على جهل بعض المتهمين بأبسط حقوقهم (الشرعية) فى الدفاع! أما فى البلد العربى الشقيق فقد نحا الأمر منحى آخر تماما، اذ تم استدعاء الراقى (الشرعى!!!) الذى تولى إحضار العفريت وراح يستجوبه وإذا بالمفاجأة المذهلة وهى إقرار العفريت بأنه المحرض على الجريمة وأن المتهم وقع ضحيته!! وهو ما يعنى حسب التعبير المصرى الطارىء خفيف الظل أن (العفريت يشيل الليلة)! عندما قرأت الواقعة لأول مرة رحت أضحك وأتصل بأصدقائى لأبلغهم بالحكاية الغريبة العجيبة، وكنت فى البداية هائجا محتجا، ورحت أكلم نفسى وأضحك ثم يصيبنى الوجوم واليأس. ثم رحت أعمل تفكيرى وأعيد قراءة الأمر، ورويدا رويدا رحت أستحسنه، ثم استقر عندى أنه نوع من الإبداع العربى يضاف إلى سجلنا العلمى التليد، ولو عاد (جستاف لوبون) أو غيره لأضافوا لأمجاد العرب العلمية وفضل العرب على العلم هذه النظرية الجنائية العظيمة. خلال دراستى الجامعية ولليوم هناك نظريات عقيمة تدرس للطلبة عن سبب الجريمة، ويحتار علم الإجرام فى رصد سبب الظاهرة الإجرامية، فهناك نظرية الإيطالى (لومبروزو) وهى نظرية غبية تربط الجريمة بميل فطرى للمجرم، ويغلو الرجل حتى إنه يورد ملامح لوجه المجرم وبنيته الجسدية، وهناك نظريات تربط الجريمة بالبيئة الإجرامية، وهناك نظريات مختلطة تجمع هذا وذاك، إلى آخر الجدل الذى كنا نظنه علما حتى جاءت النظرية (العفريتية) لتبين الجهل المزرى لعلماء الإجرام! وهكذا تبين أننى وغيرى رحنا ضحية الإيمان بالغرب وعلوم الغرب فظلمنا أنفسنا وظلمنا المتهمين. وقد ظلمت وحدى عشرات الألوف وربما أكثر ففى الجلسة الواحدة كنت أحاكم مائتين إلى خمسمائة متهم، وكنت بالقطع أصدر أحكاما بناء على النظريات العلمية ــ حسب ظنى وقتها ــ وما من متهم تكلم عن الشيطان إلا تجاهلته فإن صمم شككت فى أنه يدعى الجنون! ولقد سرح بى الخيال، ورحت أحلق بعيدا فى أجواء نظرية العفريت الجنائية المذهلة وأتساءل، ترى هل نعتبر العفريت فاعلا أصليا أم مجرد شريك بالتحريض ومن المعلوم أن المحرض هو شريك ما لم يتواجد على مسرح الجريمة ويكون له دور رئيسى فيها حسب أقرب النظريات السائدة إلى التطبيق العملى! وما مكان وجود العفريت المحرض وهل يظل ملازما للمجرم وقت الجريمة مشجعا ومحفزا وهو هنا فاعل أصلى حسب أوثق النظريات الجنائية! وعلى فرض اعتراف العفريت وإنكار المتهم هل يؤخذ بأقوال المتهم الإنسى أم الجنى؟ وهل يجوز اللجوء إلى سماع الشهود! وعلى فرض أن العفريت قد استشهد بالجن بينما استشهد الإنسى بالإنس فإلى أى الشهود يطمئن القاضى؟ وهل للقاضى حرية إدانة العفريت وحده على فرض أنه ثبت أن تأثيره كان قويا جدا حتى أنه سحر المتهم وسلب إرادته وهناك نظرية علمية اسمها الفاعل المعنوى تعتبر المجرم هنا مجرد أداة فى يد من سيطر عليه؟ والأمر جد خطير لأن تطبيق النظرية يمكن أن يفلت سارق البيضة كما يمكن أن يفلت سارقو الأوطان من العقاب! ثم ما هو العقاب الواجب تطبيقه على العفريت؟ ألا يستدعى الأمر أن يقوم الراقى (الشرعى) بتوقيع عقوبة جنائية؟ أليس من الواجب على المجالس التشريعية بيان عقوبات العفاريت لطبيعتهم الخاصة لأنه يصعب إيداعهم السجن عادى لسهولة إمكان هرب العفريت بل لابد من إعادته مثلا إلى زجاجة ووضعها فى مكان محدد عليه حراسة حتى لا تنكسر الزجاجة ويخرج العفريت ماردا مدوى الصوت قائلا (شبيك لبيك) لمن يكسر الزجاجة ويفلته من العقاب! إننى أدعو الباحثين فى علوم الإجرام والعقاب والبحوث الجنائية إلى التجاوب مع النظرية، فهى مجد وفخر عربى جديد. وهى وأمثالها فى القيمة أجدى نفعا مما تقوم به أمم غيرنا من اضاعة الوقت فى أمور تافهة كعلوم الفضاء والبحث عن الماء على سطح المريخ أو زحل وإمكان الزراعة هناك، أو جلب الماء إلى الأرض، أو أمور بتفاهة وعدم جدوى علم الذرة أو الكمبيوتر الى نهاية ما يشقى البشر ويضيع وقتهم سدى، ولو لجأنا إلى العفاريت وتم التعاون معها لحلت كل مشكلات الإنسان ونعم بالأمن والسكينة دون عناء فما هو إلا أن يحضر الراقى الشرعى ويكلف العفريت وفى لمح البصر تحل مشكلاتنا.
الخميس، 18 نوفمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق