رغم أن البعض دأب فى السنوات الأخيرة على توجيه سهام النقد لثورة 23 يوليو 1952 وحملها وحدها مسئولية الركود السياسى الذي عانت منه مصر منذ الإطاحة بالملكية ، إلا أن هناك من انتفض وقدم شهادات توضح أن هذا الحدث كان بمثابة حد فاصل بين حقبتين من التاريخ تغيرت فيهما معالم الأحداث بالعالم .
بل وهناك من ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بالتأكيد أنه رغم وجود بعض الاختلافات بين ثورتي 23 يوليو 1952 و25 يناير 2011 ، إلا أنهما في النهاية يشكلان تعبيرا صادقا عن حلقتين مجيدتين فى تاريخ النضال المتواصل للشعب المصري العظيم .
ولم يقف الأمر عند ما سبق ، فقد أكد البعض أيضا أن ثورات 9 مارس 1919 و23 يوليو 1952 و25 يناير 2011 هي حلقات نضالية متصلة وليست منفصلة وأن ثورة 25 يناير هي محصلة لثورتي 23 يوليو و9 مارس ، بالرغم مما يبدو من اختلاف في أولويات وظروف كل منها ، حيث تصدرت القضية الوطنية وإنهاء الاحتلال البريطاني ثورة 1919 ، بينما جاءت العدالة الاجتماعية على رأس أولويات ثورة 52 والحرية والديمقراطية على قمة مطالب ثورة 25 يناير .
بل وكانت المفاجأة أيضا هو ما ذكرته وكالة أنباء الشرق الأوسط في تقرير لها في الذكرى الـ 59 لثورة 23 يوليو حول وجود خط مشترك جمع بين الثورات الثلاث ألا وهو الدرجة العالية في الإيمان بالله، فثورة 9 مارس 1919 هى الثورة التى رفعت الهلال مع الصليب دليلا على وحدة نسيج الشعب، وثورة 23 يوليو 52 هى الثورة التى اعتلى قائدها جمال عبد الناصر منبر الجامع الأزهر ليعلن صمود شعبه وجيشه في مواجهة العدوان الثلاثى الذى قامت به بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر عام 1956 وأعلن من فوق منبر الأزهر ''سنحارب ولن نستسلم أبدا''، أما ثورة 25 يناير 2011 فهى الثورة التى أدى فيها الثوار من المسلمين صلاة الجمعة في ميدان التحرير وحولهم إخوانهم من ثوار أقباط مصر ، كما أدى ثوار مصر الأقباط صلاتهم وقداسهم فى ميدان التحرير في حماية إخوانهم من الثوار المسلمين.
ولعل ما تأكد للجميع في ثورتي 23 يوليو و25 يناير من حقيقة أن "الشعب والجيش يد واحدة" يدعم أيضا فرضية أن تلك الثورات هي حلقات نضالية متصلة ، فالأولى كانت ثورة جيش سانده وأيده الشعب ، أما الثانية فهي ثورة شعب احتضنها الجيش ووفر لها الحماية ، بل وكان للجيش في الثورتين الكلمة الأخيرة ، ففي ثورة يوليو عزل الملك وفي الثانية تم إسقاط نظام مبارك.
ورغم أن البعض يصف ما حدث في 23 يوليو بالانقلاب ويضع مسافات واسعة بينه وبين ثورة 25 يناير بزعم أن من قاموا بـ "الانقلاب" أمسكوا بزمام السلطة ، أما ثورة 25 يناير فمن قام بها لم يصل للحكم ، إلا أن هذا الأمر مردود عليه بأن الجيش أقر منذ اللحظات الأولى لثورة 25 يناير مطالبها المشروعة وكان موقفه واضحا بأنه سيقود البلاد لفترة انتقالية وتعهد بحماية الديمقراطية وتسليم البلاد لسلطة مدنية منتخبة.
أيضا فإن التباين في تقييم تجربة 23 يوليو ما بين وصفها بالانقلاب والثورة يصب في صالحها ويؤكد بشكل أو بآخر أنها لم تنته ومستمرة وامتدادها هو ثورة 25 يناير .
ولعل إلقاء الضوء على مبررات وجهتي النظر السابقتين يدعم صحة ما سبق وينفي عن ثورة 23 يوليو أيضا تهمة الركود السياسى الذي عانت منه مصر منذ الإطاحة بالملكية .
فالنسبة لمبررات وجهة النظر الأولى ، فإنها تستند إلى أن ثورة يوليو جرت النكبات علي مصر والعرب ، حيث انتقد الكاتب المصري الكبير الراحل نجيب محفوظ في تصريحات صحفية قرار تأميم قناة السويس ووصفه بأنه قرار متسرع جر علي مصر الخراب كما انتقد سياسة مجانية التعليم ، مشيرا إلى أنها أدت في النهاية إلي انخفاض مستوي التعليم وتخريج جيوش من العاطلين كما انتقد أيضا سياسة التأميم بالنظر إلى أنها أضرت بالقطاع العام ، أما بالنسبة للسياسة الخارجية ، فقد أشار محفوظ إلى أن سياسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مساعدة شعب الجزائر والتدخل في اليمن أدت إلي إضعاف مصر وتبديد مواردها.
كما تعرضت الثورة لهجوم متواصل من فؤاد سراج الدين الذى كان يشغل سكرتير عام حزب الوفد وذلك لإلغائها الحياة الحزبية وتأميم الممتلكات ، بل وهناك أيضا من اتهم الثورة بالانقلاب العسكرى ضد الديمقراطية في عهد الملك فاروق وذلك بالنظر إلى الاعتقالات الواسعة في صفوف معارضيها وخاصة الإخوان المسلمين والشيوعيين .
وبجانب ما سبق ، فهناك من وصف الثورة بأنها أرجوحة شيطانية ، حيث كتب المفكر المصرى اليسارى فؤاد زكريا فى بداية الثمانينات يقول :" إنها أرجوحة شيطانية يتراقص فيها الجميع سكاري بخمر الأفكار الزائفة والقيم المضللة ويثبتون بها علي نحو قاطع طفولية الفكر السياسي بين جميع أطراف اللعبة فى ثورة أعلنت أن هدفها تحرير الفكر وتصحيح مسار القيم" ، كما وصف الإخوان المسلمون الثورة بأنها "رجس من عمل الشيطان" ، وذلك بعد أن ناصبتهم العداء وتنكرت لمساعدتهم لها في بداياتها .
ثورة حقيقية
وفي المقابل ، ترى وجهة النظر الثانية أن القضاء على الإقطاع والاستبداد ومساندة حركات التحرر لعشرات البلدان فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وتأسيس حركة عدم الانحياز هى إنجازات لا يمكن أن تنتج سوى عن تجربة فريدة من نوعها.
فما حدث في 23 يوليو وفقا لتلك الرؤية لم يكن بأي حال من الأحوال انقلابا لأنه لم يكن يستهدف تغيير حكومة بحكومة أخرى وإنما كان ثورة حقيقية تهدف إلى إحداث تغيير جذري في الهيكل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي حيث تحول نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري خلال 3 أيام فقط بعد أن أجبر الملك فاروق على التنازل والرحيل إلى ايطاليا ، كما تخلص المصريون من الإقطاع وتم إقرار لون من ألوان العدالة الاجتماعية فثلاثة أرباع الموجودين الآن في الجامعات المصرية أتيحت لهم الفرصة بفضل التعليم الجامعي المجانى الذى تبنته الثورة كما تحول أغلبية المصريين المعدمين إلى ملاك أراضى بفضل قانون الإصلاح الزراعى. وبالإضافة إلى ما سبق ، فإن الحياة النيابية قبل يوليو 52 كانت تسير من أسوأ لأسوأ فالدستور الذي أفرزته ثورة 1919 تم تعديله عدة مرات ليتيح سلطات أوسع بكثير للقصر ، وكان من نتيجة ذلك أن حزب الأغلبية "الوفد" لم يحكم البلاد منذ دستور 1923 حتى ثورة يوليو سوى ست سنوات ونصف السنة فقط ، ولذا فإن ما قام به تنظيم الضباط الأحرار كان أمرا لا غنى عنه . وفي رده على سؤال "ماذا تسمي ما حدث هل هو حركة مباركة كما يقول الجيش أم أنه كان انقلابا ؟"، أجاب عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين ، قائلا :" انظروا حولكم تجدوا التغيير الذي كنا ننشده أليس ذلك ثورة على الأرض ".
وفي برنامج "العاشرة مساء" على قناة دريم المصرية ، سئل المؤرخ المصري الراحل يونان لبيب رزق "ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يتحرك الجيش يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو " وكان الرد أن حالة مصر وقتها كانت تقتضى التحرك ، فقد كان حتمية تاريخية .
الأرقام دليل البراءة
وفي كتاب له بعنوان "أصول ثورة يوليو " ، ذكر الدكتور جلال يحيي أستاذ التاريخ الحديث المساعد بكلية العلوم الإنسانية في جامعة أسيوط أن الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية فى مصر قبل يوليو 1952 كانت تتطلب الثورة لأن الأوضاع عموما كانت قد "تعفنت" وأصبح ضروريا تغييرها فمن الناحية السياسية كانت الحياة الدستورية فى البلاد لاتحمل من الدستور إلا الإسم فقط بعد استئثار الملك بسلطات واسعة وزاد عدد الأحزاب بإطراد وتنافس رؤساء تلك الأحزاب لإرضاء القصر ماتسبب في عدم استقرار الحكم وجعل البلاد في حاجة للاتحاد وليس الأحزاب.
أما بالنسبة للسياسة الخارجية ، فإنها فشلت تماما في معالجة قضايا الجلاء ووحدة وادي النيل مما جعل هناك ضرورة حتمية للنزول لميدان الكفاح لاستخلاص الحقوق الوطنية من الغاصبين.
والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بحسب الدكتور جلال يحيى أيضا لم تكن أقل سوءا ، فقبل قيام الثورة كان يبلغ تعداد الشعب المصري 21,472 مليون مواطن يعيش 68 % منهم في الريف وكان معدل الدخل الفردي لا يتجاوز 118 دولارا في العام , كما كانت صورة توزيع الدخل القومي تجسيدا لعدم العدالة والظلم الاجتماعي حيث كان 60 % من السكان يحصلون علي 18 % فقط من الدخل , كما أن الانتاج القومي لم يستطع ولمدة 40 عاما بين عام 1913 و 1952 أن يساير الارتفاع البسيط نسبيا في عدد السكان وقتها ، بالإضافة إلى أنه كان هناك نحو 2،309 مليون فلاح يمتلكون 1،230 مليون فدان أي أن 84 % من ملاك الأراضي كانوا يملكون 21 % من الأرض , وعلي الطرف الآخر كان 280 مالكا فقط يمتلكون 583,4 ألف فدان ! ، وبالطبع في ضوء هذا التدهور كان لابد من تغيير جذرى ومن هنا جاءت الثورة.
صحيح أنه كانت هناك أخطاء مثلما يحدث في كافة الثورات والتجارب الإنسانية كتجاهل مجلس قيادة الثورة والرئيس الراحل جمال عبد الناصر لمبدأ أساسي من مباديء الثورة الستة وهو تطبيق الديمقراطية بالإضافة إلى وقوع نكسة يونيو 1967 ، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية الانجازات التى حققتها والتى لم يشهد التاريخ المصرى لها مثيلا كتأميم قناة السويس وبناء السد العالى وتحديد العروبة هوية مصر الأولى كما ألهمت الثورة حركات التحرير فى آسيا وإفريقيا ما دعا الزعيم الإفريقى نيلسون مانديلا إلى وصف عبد الناصر بـ "زعيم زعماء إفريقيا".
وبصفة عامة وأيا كان توصيف ما حدث في 23 يوليو ، فإن هناك عدة أشياء انفردت بها هذه التجربة ومنها أن من قام بها هو تنظيم الضباط الأحرار الذي كان يضم ضباطا من مختلف الاتجاهات السياسية وليس قادة جيوش أو أصحاب رتب كبيرة كما كان يحدث في الانقلابات العسكرية في العالم ، وهذا قد ينفى عنها شبهة الانقلاب .
وهناك أيضا أن الثورة اكتسبت تأييدا شعبيا جارفا من ملايين الفلاحين ومحدودي الدخل الذين كانوا يعيشون حياة تتسم بالمرارة والمعاناة ، كما تميزت بالمرونة وعدم الجمود في سياستها الخارجية ، فبعد رفض أمريكا إمدادها بالسلاح وسحب عرضها في بناء السد العالي ، اتجهت إلى أطراف أخرى من أجل تنفيذ المشروعات القومية الكبرى ، وأخيرا فإنها تبقى الأكثر أهمية في تاريخ مصر المعاصر ، حيث كانت بداية لمشروع قومي عروبي حضاري ومازالت أطروحاتها محل جدل واسع سواء كان ذلك في مصر أو فى الوطن العربي.
اعترافات مثيرة
ولعل إلقاء نظرة على شهادات واعترافات أبرز من شاركوا في صنع هذا الحدث التاريخي كان ضروريا في الذكرى الـ 59 للثورة وذلك لمساعدة الأجيال الجديدة على الاقتراب من حقيقة ما جرى حينها وتقييمها في ضوء الظروف التي عاصرتها وليس بما يحدث في عالم اليوم .
فقد استضاف برنامج "اختراق" الذي يذاع على التليفزيون المصري قبل عام عددا من الضباط الأحرار الذين شاركوا فيها ، حيث أدلى كل منهم بشهادته حول اللحظات الأخيرة التى سبقت قيام الثورة .
والبداية مع الأستاذ أحمد حمروش أحد أبرز مؤرخي الثورة الذي كشف أن الضباط الأحرار تأكدوا أن السراى لديها قائمة بأسماء 12 ضابطا هم المسئولين عن قيادة تحريك الضباط وتقرر اعتقالهم فكان عليهم أن يتحركوا بأقصى سرعة قبل أن ينجح رجال الملك فى الإيقاع بهم فأخذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرارا منفردا بتعجيل موعد التحرك من أغسطس/آب إلى يوليو/تموز 1952 . ومن جانبه ، كشف اللواء جمال حماد أحد الضباط الأحرار عن تكليفه من قبل الرئيس عبد الناصر بكتابة البيان الأول للثورة لأنه أديب وشاعر وكان من المفروض أن يلقيه هو ، لكن تغيرت التعليمات في اللحظة الأخيرة وألقاه أنور السادات بعد تكليف جمال حماد بالتوجه لطريق السويس للتصدي للقوات الإنجليزية التى من المتوقع توجهها للقاهرة.
وفي السياق ذاته ، كشف توفيق عبده إسماعيل وكان من الضباط الأحرار أيضا عن مفاجأتين حدثتا بعد إذاعة البيان الأول ، فقد نزل شعب مصر كله في الشارع في تجمعات غير طبيعية لتأييد الثورة ، أما المفاجأة الثانية فهي أن الضباط الأحرار كانوا يمثلوا 5% من ضباط الجيش وانضم إليهم بعد ذلك بقية الـ 95 % من ضباط الجيش.
وعن مصير الملك السابق فاروق ، قال إبراهيم بغدادى وكان من الضباط الأحرار أيضا إنه لم يكن واضحا في اللحظات الأولى وانقسمت الآراء حوله ما بين مطالبة برحيله أو إعدامه وهو ما اقترحه جمال سالم ولكن رفضه بقية الضباط الأحرار واتفقوا على رحيله من مصر.
وأخيرا ، تحدث خالد محيى الدين أحد أبرز الضباط الأحرار عن الاعتقالات التي تلت قيام الثورة ، قائلا :" إنها أمر طبيعى ما دام يوجد تصادم في الأهداف والمسيرة ، لابد من إجراءات رادعة للحرية للسيطرة على الأمور".
وبالنظر إلى أن الشهادات والاعترافات السابقة تكشف الظروف التي أحاطت بالثورة والتحديات التي واجهتها ورغم اتفاق أو اختلاف البعض معها إلا أن ثورة 23 يوليو 1952 تظل على رأس الأحداث التي يرسمها التاريخ بحروف من نور ليس فقط لأنها كانت ثورة بيضاء لم تسقط خلالها قطرة دم واحدة وإنما أيضا لأنها كانت الشرارة التي انتفضت على إثرها دول العالم الثالث ضد الاستعمار رافعة رايات الحرية والاستقلال .
تفاصيل تجربة 23 يوليو
ولعل إلقاء نظرة أكثر شمولية على مباديء ونتائج ثورة 23 يوليو يدعم أيضا صحة ما سبق ، فثورة يوليو هي ثورة تحرر وطني على الصعيد الداخلى من خلال دعوة المواطن إلى أن يرفع رأسه بعد أن ولى عهد الظلم والاستعباد والذى كانت تجلياته واضحة فى العلاقة التى كانت قائمة بين ملاك الأراضى الزراعية والفلاحين والتى كانت أشبه بعلاقة السيد بالعبد فى ظل نظام إقطاعى مهيمن على مصر فى سنوات ما قبل الثورة كانت تهدر فيه كرامة الإنسان فجاءت الثورة لتسهم فى تحرير المواطن المصرى من هذه الأوضاع.
وثورة يوليو أيضا ثورة استقلال وطنى حيث ركزت على خيار التحرر من الاستعمار التقليدى، فقد كان فى مصر وحدها حوالى 82 ألف جندى بريطانى على أراضيها، كما كانت قاعدة للتحرر الوطنى فى كل من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ورفض الأحلاف الدولية فى زمن صراعات الدول الكبرى وذلك كله دليل على عظمة تلك الثورة.
لقد كان كل شىء فى مصر يطالب بالثورة وينتظرها بدليل تجاوب الشعب المصرى بجميع فئاته معها فقد كانت تحكم البلاد ثلاث سلطات، سلطة القصر وعلى رأسها الملك وسلطة الاحتلال البريطانى التى تلوح بالجلاء من وقت لآخر وسلطة وطنية تمثلها التظاهرات الطلابية والحركات الشعبية.
وفي نفس الوقت ، تزامن مع قيام الثورة مجموعة من الظروف الإقليمية والدولية ساعدتها على القيام بدور فعال على الساحة الدولية منها ظهور العديد من المنظات الدولية على رأسها الأمم المتحدة التى قامت على مبدأ المساواة بين كل الدول ودعا ميثاقها إلى احترام مبدأ تساوى الشعوب وحقها فى تقرير المصير مما اعتبر بداية لبزوغ عصر التحرر الوطنى، كما تزامن قيام الثورة مع تزايد موجة التحرر الوطنى التى خاضتها العديد من شعوب العالم الثالث، وقد دعم كل هذه الظروف عامل مهم هو شخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الطموحة ذات التوجه الاستقلالى والتى مكنته من الظهور كزعيم قومى وسط قادة العالم الثالث نتيجة المعارك السياسية التى خاضها.
وفي ظل هذا المناخ، قامت ثورة يوليو 52 وأعلنت مبادئها الستة التى عبرت عن طموحات ومطالب الشعب والتى كانت من أسباب نجاحها، وهى القضاء على الاستعمار وأعوانه، والقضاء على الإقطاع، والقضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة جيش وطنى قوى، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة.
وبدأت الثورة خطواتها الأولى بعزل الملك عن العرش وتنازله لابنه الطفل أحمد فؤاد، وفى 18 يونيو 1953 ألغت الثورة الملكية وقيام أول جمهورية وتولى اللواء محمد نجيب رئاسة الجمهورية، وحلت الأحزاب السياسية بعد أن عجزت عن المقاومة أمام النظام الجديد.
واتخذت الثورة مجموعة من الإجراءات للقضاء على الإقطاع وإعادة توزيع الأراضى على الفلاحين بإصدار قوانين الإصلاح الزراعى وجعل الحد الأقصى مائتى فدان وتمليك الأراضى للفلاحين ليحصد الفلاح لأول مرة فى حياته ما يقوم بزراعته، وأقامت الثورة مجموعة من المشروعات الزراعية مثل مشروع مديرية التحرير.
كما جسدت الثورة حلم المصريين فى وطن مرفوع الرأس، فوقعت اتفاقية الجلاء فى 20 أكتوبر عام 54 بعد 74 عاما من الاحتلال، وواصلت الثورة تحقيق أهدافها ولذا خاضت معارك كثيرة أهمها معركة تأميم قناة السويس فى 26 يوليو 1956 ردا على قرار المؤامرة الدولية برفض تمويل مشروع السد العالى.
وحرصت الثورة على القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال من خلال قوانين يوليو الاشتراكية عامى 1961، و1964 لتأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد المصرى فى المجالات الصناعية والتجارية والخدمية وإشراك العمال فى مجالس إداراتها، وكانت قرارات التأميم الصادرة هى حجر الزاوية فى تغيير النظام الاقتصادى.
واتجهت الثورة بعد ذلك لتمصير البنوك الأجنبية، وأيضا إقامة قاعدة صناعية ضخمة بإنشاء سلسلة من المصانع العملاقة كمصانع الحديد والصلب والأسمنت والأسمدة والألومنيوم بخلاف المناطق الصناعية بمختلف أنحاء الجمهورية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
واهتمت الثورة بالتعليم ومجانية التعليم وبناء الصروح التعليمية، وفتحت الباب أمام الشعب للمشاركة فى بناء نهضة تعليمية وعلمية غير مسبوقة فى التاريخ المصرى المعاصر، وامتد اهتمامها إلى المجال الثقافى فأنشأت قصور الثقافة والمراكز الثقافية لتحقيق توزيع ديمقراطى وتعويض مناطق طال حرمانها من ثمرات الإبداع، وتم إنشاء أكاديمية الفنون التى تضم المعاهد العليا للمسرح والسنيما والنقد.
وفى مجال الصحة، وفرت ثورة 23 يوليو الرعاية الصحية لأكبر عدد من المواطنين وخاصة الطبقات غير القادرة ووضعت نظام تأمين صحى يتوافق مع احتياجات الطبقة العاملة المصرية، وزادت أعداد المستشفيات.
ونجحت الثورة بشكل سريع فى بناء جيش قوى، أحد أهداف الثورة، بسبب قناعتهم بأهمية جيش مصر حيث تنوعت مصادر السلاح مما انعكس على التدريب وشاركت معظم قيادات الجيش فى دراسات متقدمة فى أكاديمية الاتحاد السوفيتى وباقى دول الكتلة الشرقية.
أما الهدف السادس وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة ، فثورة يوليو وضعت بذرة الحياة الديمقراطية بإصدار دستور 1956 الذى نص على إقامة تنظيم جديد هو الاتحاد القومى ثم حل محله الاتحاد الاشتراكى بعد ست سنوات وبعد نكسة 67 تم إصدار بيان 30 مارس 1968 الذى نص على تحويل مصر إلى مجتمع مفتوح وقبول الرأى والرأى الآخر.
ورغم أن هناك بعض الآراء ترى أن ثورة 1952 تأخرت فى تطبيق مبدأ الديمقراطية إلى الحد الذى جعلهم يصفونها بأنها كانت فى حالة مخاصمة لها ، إلا أن وكالة أنباء الشرق الأوسط نقلت عن مراقبين القول في الذكرى الـ 59 للثورة إن ذلك يرجع إلى سلسلة الحروب التى فرضت عليها بداية من حرب 56 ثم حرب 67 ثم الأزمات المتتالية التى واجهتها الثورة والتى كان العامل الخارجى فيها قويا سواء فيما يتعلق ببناء السد العالى أو الحصول على السلاح من الخارج .
سياسة خارجية طموحة
أما فيما يتعلق بإنجازات الثورة خارجيا ، فقد اتخذت سياسة خارجية طموحة استندت إلى تاريخ مصر وموقعها الجغرافى وحددت ثلاث دوائر للتحرك الخارجى "العالم العربى والإسلامى، والقارة الإفريقية، والدائرة الافرو آسيوية"، فاهتمت الثورة بالقضية الفلسطينية التى كانت فى مقدمة قضايا التحرر الوطنى ولعبت دورا بارزا فى عرض القضية أمام المحافل الدولية وأيدت حقوق الشعب الفلسطينى وحث المجتمع الدولى على القيام بدوره فى حل القضية، وساعدت فى إنشاء حركة فتح ثم منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964.
كما قدمت الثورة الدعم لحركات التحرر الوطنى فى الجزائر، وتونس، والمغرب، واليمن، والعراق، والسودان، وليبيا، والتفت الحركات الوطنية فى العالم العربى حول الثورة المصرية وتجاوبت مع أفكارها.
وانطلاقا من تفاعل الشعوب العربية مع الثورة المصرية من المحيط إلى الخليج فقد تبنت الثورة فكرة القومية العربية وحلم تحقيق الوحدة بين شعوب الوطن العربى.
أما على الصعيد الإفريقى فقد لعبت الثورة دورا حيويا فى تحرير دول القارة من القوى الاستعمارية حيث كانت جميعها خاضعة للاستعمار ماعدا دولتين فقط هما ليبيريا فى الغرب وإثيوبيا فى الشرق، وقد أكد جمال عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" أنه ليس بمقدور مصر أن تقف بعيدا عن الصراع الدائر فى هذه القارة بين 5 ملايين أوروبى و200 مليون إفريقى فى إشارة إلى النظام العنصرى فى جنوب إفريقيا وغيرها من الدول الإفريقية وهو ما حول القاهرة إلى مركز رئيس لحركة التحرر الوطنى فى أفريقيا، فساندت مصر الثورات فى كينيا والكاميون والكونغو وأنجولا وموزمبيق ووقفت مع شعب روديسيا "زيمبابوى حاليا" ، وكان لمصر أيضا دور رئيسى فى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963 وساعدتها على تحقيق أهدافها.
وعلى صعيد دول العالم الثالث، فقد ساهمت مصر فى نشأة حركة التضامن بين قارتى آسيا وأفريقيا حيث عقد مؤتمر باندونج عام 1955 ومن مؤتمر باندونج شاركت مصر فى تأسيس حركة عدم الانحياز وعقد المؤتمر الأول عام 1962.
وبصفة عامة ، فإن أغلب التحليلات ترى أنه رغم كل المتغيرات الإقليمية والدولية ، فإن ثورة 23 يوليو لم تعزل نفسها عن متغيرات العصر ولم تتعمد التأخر في تطبيق الديمقراطية ، بل تواصلت وحاولت تصحيح المسار وجاءت ثورة 25 يناير لتعالج الأخطاء التي وقعت في عهد مبارك تحديدا ، الأمر الذي يبريء بشكل كبير تجربة عبد الناصر والضباط الأحرار من تهمة الركود السياسي الذي عانت منه مصر منذ الإطاحة بالملكية.
وتبقى حقيقة هامة وهي أن انتقاد ثورة 23 يوليو هو أمر مشروع لأن الثورات من مواريث الأمم ومن حقها أن تعيد النظر في دروسها من مرحلة لأخرى ، إلا أن هذا لا يعني المساس بإنجازاتها خاصة إن كانت لا تخطئها العين .
المصدر : محيط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق