فى المدرسة الثانوية تعرف الشاعر سيد حجاب على أستاذ مادة الفنون الذى تحول إلى مشرف على النشطات الرياضية، وحين علم المدرس ببدايات حجاب الشعرية نصحه قائلا "متكتبش عن نفسك حتى لا يتحول الشعر إلى صنعة، اكتب عن الناس، فى كل واحد منهم عشرات القصائد التى تحتاج إلى شاعر لكتابتها"، منذ ذلك الحين قرر حجاب أن اللغة العربية الفصحى المقدسة لن تحتمل التعبير عن كل ذلك الزخم البشرى، فقرر كتابة شعر باللهجة العامية، وقد عرض حجاب لتجربته تلك فى الاحتفالية التى أقيمت له أمس الخميس بالمجلس الأعلى للثقافة.
وفيها قال حجاب إنه مرَّ شديد الصعوبة أن يرى الشاعر تجربته أو يتحدث عنها، فهو يعيشها بصورة أكبر ما تكون عادة، قائلا إنه انتمى لجيل الستينيات الذى نشأ فى مرحلة الحرب العالمية الثانية، وشهد انهيار الإمبراطورية البريطانية، وصعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية، وظهور الاتحاد السوفيتى، وكان جيل الستينيات يتميز بالتمرد والغضب، ليس فقط فى مصر بل فى دول العالم أجمع، ففى الاتحاد السوفيتى كانت الانتفاضات تشتعل فى براغ، وتلك التى أدت فى نهاية الأمر إلى انهيار المعسكر الشيوعى فى سنوات لاحقه، وأتت الإمبراطورية البريطانية المنهارة تشتعل بسجال فكرى لمثقفى الغضب الإنجليز من أمثلة هيرلد بنتر، وفى أمريكا كان الشباب الأمريكى ساخطا على الحرب فى فيتنام، وفى الصين خلقت المسيرة العظمى ثورة فى المسرح الصينى، وكان نصيب مصر من تلك الثورة الشبابية جيل الستينيات.
وأضاف حجاب أن الحكومة الاشتراكية وقتها كانت تتعامل مع الثقافة على أنها خدمة أساسية يجب توفيرها لجميع المواطنين، فظهرت المعاهد الفنية، وفرق الفنون الشعبية، وقصور الثقافة، وصاحب ذلك ازدهار أدبى، ومحاولة للتجديد خاصة فى الشعر، وفى السبعينيات من القرن الماضى كانت تجربة التمرد الشعرى قد اكتملت، بواسطة شعراء عظام من أمثال صلاح جاهين وفؤاد حداد وصلاح عبد الصبور، وكانت أعمال ثلاثتهم من أوائل الدواوين التى اقتنيتها فى حياتى من الأعمال الشعرية المجددة.
وقد كانت الحياة فى وسط القاهرة مغايرة تماما لمنطقة المطرية بلد الصيادين التى أتيت منها، حيث الألوان والأصوات هناك تصنع علامات الدهشة الأولى، فما زلت أذكر الأشرعة الممتدة، وأصوات الأمواج فى ارتطامها بالمراكب، وصوت الكروان، وصوت البائعات الحسناوات فى ندائهن على بضاعتهن بدلال، والمنظر المهيب لغروب الشمس، والحدائق فى كل مكان، وأرض المطرية البيضاء من فعل القواقع المهشمة، كل ذلك ساعد فى تحديد ذائقتى الشعرية دون إرادة منى.
وأضاف الشاعر أن والده كان شاعراً كذلك "أعيته كثرة العيال فزهد الشعر"، وقد درس والده فى الأزهر وكان يحفظ المعلقات، ويملك مكتبة كبيرة، وكانت لعبته المفضلة مع أولاده هى اختبار قدرتهم على حفظ الشعر الجاهلى، وكان حجاب يضطر إلى ارتجال الشعر فى حال نسيانه للقصيدة، وحين علم والده ببدايته الشعرية أعطاه دروسا فى علم العروض من كتاب كان يدرس فى جامعات الأزهر وحمل عنوان "الكافى".
وأشار حجاب إلى مساهمة المناهج التعليمية فى تنمية القدرات الفكرية لدى الطلاب، فقد كانت تطرح أفعال الشخصيات الإنسانية العظيمة دون مباشرة، وكان ذلك يساعد الطلاب على فهم قدرة الإنسان فى إعادة تشكيل الوجود، وقد ساعد ذلك حجاب فى الخروج بفكرة عن العدالة الاجتماعية والتحرر والتقدم، التى كانت مطروحة لدى البشر العاديين وقتها.
بعدها ذكر الشاعر تقلبه بين التيارات الدينية والأيديولوجية المختلفة، ومحاولاته فى فترة مبكرة من حياته المزج بين الإسلام والاشتراكية، وكرهه للمركسية بعد قراءته لرواية صادرة عن سلسلة تشرف عليها المخابرات الأمريكية، هدفها إظهار مساوئ الاتحاد السوفيتى، وإيمانه بالمركسية فى وقت لاحق من حياته.
وأوضح الشاعر أن أولى قصائده نشرت بمجلة الرسالة، بعدها استضافه البرنامج الثقافى فى الإذاعة للحديث عن قصائده التى كتبها بصيغة السوناتا، وكانت تلك صيغة لم يسبق استخدمها إلا فى أشعار صلاح عبد الصبور، بعدها انضم إلى حركات النضال السياسى التى كانت تنتمى إلى التيارات اليسارية وقتها، لكنه سرعان ما اكتشف أنه أقرب إلى الفوضويين منه إلى المناضلين المركسيين، فترك العمل السياسى.
وعكس ما هو معروف عن جيل الستينيات من تعرضه لنكسة إنسانية فى مواجهة النكسة العسكرية فى 67، أكد حجاب أن النكسة أحدثت أثراً معاكساً فى نفسه، وكون هو ومجموعة من المبدعين قافلة، كانت تجوب أنحاء مصر لإلقاء القصائد الوطنية وإشعال الحماس فى النفوس.
بعدها انتقل الشاعر إلى مرحلة جديدة، وأسس مجلة جاليرى 78، وهدف بها إلى التأكيد على أن الثقافة كانت ولا تزال الحائط الصد لامتصاص النبرة الانهزامية التى بدأت تعلو وقتها، وفى تلك الأثناء بدأت رحلة الشاعر مع الشعر الشعبى، الذى كان ينظر إليه أغلب المثقفين باستعلاء، إلا أن حجاب كان يرى فيه شعراً صادقاً وحقيقياً، بعيدا عن كل تنظيرات المثقفين.
اليوم السابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق