الجمعة، 13 أغسطس 2010

تفكير آخر في الحالة المصرية

لفت نظري واحد من الأصدقاء إلي أن ما يبدو من سهولة في إقامة الاتحاد الأوروبي لا يرجع فقط إلي أن هذه الدول ذات طبيعة رأسمالية ومن ثم فإن السوق هي التي تتخذ الكثير من القرارات اليومية
بينما تدور عجلة العرض والطلب علي السلع والبضائع والخدمات والأموال‏;‏ كما أنه لا يرجع إلي وجود التحدي الخارجي الذي كان ممثلا في الاتحاد السوفيتي في وقت من الأوقات أو إلي الفوضي التي سادت البلقان بعد انهياره‏;‏ وإنما يرجع إلي أن السياسة الجادة بمعني إدارة حياة الناس وتنظيمها لم تعد تقوم بها الحكومات المركزية‏,‏ وإنما تتم عن طريق نظم الحكم المحلية التي تدير حياة الناس حسب احتياجاتهم ومواردهم‏.‏ ولذا‏,‏ ولا يزال حديث صديقي مستمرا‏,‏ لم تعد هناك صعوبة في تحقيق درجة الاتحاد التي تمت لأن ما نراه من قادة يوجد لديهم الوقت والقدرة علي التلاقي مع زملائهم بهذا القدر من التكرارية كل عام بينما تتخذ القرارات الحقيقية في مكان آخر‏.‏ الحديث بالتأكيد فيه قدر غير قليل من المبالغة‏,‏ فلم تكن تجربة الاتحاد الأوروبي أبدا سهلة‏,‏ كما أن القرارات التي تتخذ علي المستوي الاتحادي لم تكن أبدا سلسة‏,‏ وهناك دائما تلك العلاقة المتشابكة بين المستويات الإقليمية والقومية والمحلية بحيث يكون الفصل السياسي فيه قدر غير قليل من التعسف‏.‏ ومع ذلك يظل للفكرة قدر من القيمة لأنه مع تعقد الحياة وتنوعها حسب أقاليم مصر المختلفة فإن ظروف التنمية والتعليم والصحة وغيرها من الخدمات لم تعد متماثلة‏,‏ كما أن إدارة شعب يبلغ عدد سكانه‏84‏ مليون نسمة تختلف كثيرا عن إدارة دولة يوجد فيها ربع هذا العدد‏.‏ وببساطة شديدة فإنه بات مستحيلا إدارة كل ذلك من القاهرة‏,‏ ومن خلال حكومة مركزية تمسك بيدها كل الخيوط والقرارات والموارد‏,‏ لأنها ببساطة لا تعرف الواقع علي الأرض‏,‏ وإذا عرفته فإن معرفتها سوف تكون مشوهة وعاجزة عن التجاوب مع متطلبات القرار‏.‏أثناء وجودي أخيرا في الولايات المتحدة وجدت أمامي تجربة تستحق التفكير‏,‏ وليس التقليد أو المحاكاة‏.‏ تكتسب المجالس المحلية في الولايات المتحدة الأمريكية أهميتها من اعتبارات ثلاثة رئيسية‏:‏ الأول‏,‏ أنها تستطيع تقديم الخدمات العامة للمواطنين بشكل أسهل وأكثر فعالية‏,‏ حيث تكون أدري بالظروف الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها‏.‏ وثانيها‏,‏ أنها تمثل وسيلة لتفريخ عناصر قيادية يمكن أن تؤهل بعد ذلك لتولي مناصب رئيسية في الدولة‏,‏ وقد سبق للعديد من المسئولين الرفيعي المستوي سواء في الولايات المتحدة أو خارجها أن وصلوا إلي مناصبهم الرفيعة بعدما أثبتوا نجاحا ملموسا في العمل داخل المجالس المحلية‏.‏ والثالث‏,‏ أنها تمثل مؤشرا مهما للاستحقاقات السياسية المختلفة‏,‏ إذ إن الانتخابات التي تجري لاختيار أعضاء هذه المجالس تعتبر بمثابة استطلاع رأي يمكن من خلاله تقييم قوة أي حزب أو تنظيم سياسي قبل الدخول في الاستحقاقات السياسية الأكبر‏.‏وتتبني الولايات المتحدة الأمريكية نظاما لامركزيا يوسع إلي حد كبير من هامش الحرية والاستقلال الممنوح للإدارات المحلية في إدارة شئونها‏,‏ حيث تقوم الأخيرة بتشكيل مجموعة من الأجهزة والهيئات التنفيذية التي تساعدها علي تأدية المهام المنوطة بها‏.‏ وتضم الحكومات المحلية الجزء الأكبر من موظفي الجهاز الإداري بالدولة‏,‏ فمن بين‏500‏ الف موظف رسمي منتخب في الولايات المتحدة‏,‏ يوجد‏8500‏ موظف علي المستوي القومي‏,‏ فيما يعمل الباقون في الحكومات المحلية‏.‏ وتمثل الولاية أولي درجات الهرم الإداري في الولايات المتحدة‏,‏ وتختلف فيما بينها حسب المساحة والسكان والموارد السياسية والاقتصادية التي تمتلكها‏,‏ وتقوم بتأدية أنشطة متعددة بدءا من بناء الطرق والمرافق مرورا بتدعيم العملية التعليمية والضمان الاجتماعي وانتهاء بالرعاية الصحية‏.‏وتأتي المقاطعات في المرتبة الثانية بعد الولايات‏,‏ حيث تتكون كل ولاية من عدد من المقاطعات التي تضم مدينتين أو أكثر أو عددا من القري‏,‏ ويتشكل الهيكل الإداري في المقاطعة من مسئولين تنفيذيين‏,‏ إلي جانب لجنة أو مجلس لتنسيق العمل وإدارة شئون المقاطعة‏.‏ وتتلخص الصلاحيات التي تحظي بها المقاطعات في فرض تطبيق أنظمة البناء‏,‏ والمساعدة علي تنفيذ القانون‏,‏ والإشراف علي الطرق والمرافق العامة‏,‏ والرعاية الاجتماعية‏,‏ إلي جانب فرض الضرائب‏,‏ وتوفير بعض المساعدات لذوي الدخل المنخفض‏,‏ وتنفيذ الأنظمة البيئية‏,‏ وتحقيق أكبر قدر من الرفاهية للأطفال‏,‏ إلي جانب معالجة مياه الصرف‏,‏ وإزالة النفايات‏,‏ وتوفير خدمات إطفاء الحرائق والإنقاذ‏,‏ والرقابة علي الحيوانات‏.‏ ويتراوح حجم المقاطعة بين‏100‏ كيلو متر مربع و‏200‏ ألف كيلومتر مربع‏.‏وتأتي البلديات في نهاية السلم الإداري‏,‏ حيث تنحصر المهام المنوطة بها في تقديم الخدمات للمواطنين‏,‏ خصوصا في مجالات النظافة‏,‏ وهو ما يمكن الاستدلال عليه من الخطوة التي اتخذتها بلدية نيويورك علي سبيل المثال في أول أغسطس الحالي‏,‏ عندما قررت تخصيص‏500‏ ألف دولار لزيادة الوعي بـ حشرة الفراش الماصة للدماء‏,‏ إلي جانب تشغيل‏100‏ محطة شحن كهربائي لدفع السائقين إلي شراء سيارات تعمل بالطاقة الكهربائية‏.‏ كما أقرت البلدية نفسها بأغلبية ساحقة مشروع قانون يحظر التدخين في أماكن العمل فضلا عن الحانات والملاهي الليلية والمطاعم‏,‏ وقد انضمت بهذا القانون إلي ولايتي كاليفورنيا وديلاوير اللتين تتبنيان السياسة نفسها‏.‏ كذلك تتجه مدينة فيلادلفيا إلي تقليل حجم الانبعاثات الصادرة من المنشآت التابعة لها والسيارات بنسبة‏20%,‏ ولتدعيم هذه الخطوة قامت وزارة النقل الأمريكية بتقديم منحة قدرها‏17‏ مليون دولار لتوسيع الممرات الخاصة بالدراجات والمشاة‏.‏ كما قررت المدينة تركيب‏500‏ سلة نفايات تعمل بالطاقة الشمسية‏,‏ وتوفير عبوات لتدوير القمامة‏.‏وتتقاطع صلاحيات الحكومات المحلية مع الحكومة الفيدرالية في أمرين‏:‏ الضرائب والميزانية‏,‏ حيث تفرض ضرائب فيدرالية علي كل مواطن أو مهاجر ترتبط بإجمالي الدخل الذي يحصل عليه فضلا عن حجم عائلته‏,‏ كما تفرض ضريبة خاصة بالولاية علي المواطن الذي يقطنها‏,‏ ترتبط بنسبة الضريبة التي تفرضها عليه الحكومة الفيدرالية‏.‏ وإلي جانب هذه الأنواع الشائعة لإدارة الحكم المحلي في الولايات المتحدة‏,‏ توجد أنماط أخري الغرض من تأسيسها تقديم الخدمات بشكل أفضل إلي المواطنين‏,‏ مثل دوائر الحماية الطبيعية‏,‏ ومناطق سلطات النقل‏.‏ ويعتمد أكثر من ثلثي الكيانات الحكومية في الولايات المتحدة علي ما يسمي بـ حكومات الدوائر التي تركز نشاطها علي مجال واحد مثل المياه‏,‏ أو القمامة‏,‏ أو أجهزة الإطفاء والإنقاذ‏,‏ أو رعاية الأطفال‏,‏ أو الضمان الاجتماعي أو غيرها‏.‏وفي مصر باتت قضية اللامركزية ومنح هامش من الحرية للإدارات المحلية تحظي بأهمية خاصة‏,‏ باعتبارها قسما مهما من عملية التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تشهدها البلاد في الفترة الحالية‏,‏ فضلا عن تزايد الدعوة إلي تبنيها علي أساس أنها الوسيلة المثلي للتعامل مع المشكلات الحياتية التي تظهر علي الساحة بشكل يومي‏,‏ لاسيما أنها يمكن أن تنتج تداعيات اجتماعية عديدة‏,‏ أهمها أنها تساعد علي تقليص الفجوة القائمة بين الإدارة والمواطنين‏,‏ وتزايد ثقة الجمهور في إمكانية الحصول علي الخدمات المعيشية بشكل أكثر فعالية‏.‏ كما أن تطبيق اللامركزية يمكن أن يسهم في الارتقاء بأوضاع المجتمعات المحلية نتيجة قرب هذه المجتمعات من مواطنيها ودرايتها بالظروف المعيشية الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها‏.‏ وفوق ذلك‏,‏ فإن تطبيق هذه السياسة في مصر يكرس من فكرة الخصوصية التنموية للمجتمع المحلي التي باتت تحظي بالأولوية علي الصيغ الكلاسيكية للتنمية الشاملة‏.‏إن الهدف الأساسي من ذلك هو تقليص هيمنة الأجهزة المركزية علي شئون المحليات التي يكون مواطنوها أدري بأحوالها‏,‏ من خلال منح الأجهزة الإدارية الخاصة بهذه المجتمعات الصلاحيات الكافية التي يمكن من خلالها تفعيل أدائها علي المستوي المحلي‏,‏ إلي جانب توفير استقلال مالي لها بشكل يوسع من نطاق حرية العمل المتاح أمامها‏.‏ وبالطبع فإن تفعيل نشاط المحليات يمكن أن يؤدي إلي تقليص التداعيات السلبية التي بدأت تنتشر في مصر مثل غياب الرقابة وضعف السيطرة علي الأسواق الأمر الذي يؤدي إلي ارتفاع أسعار العديد من السلع الرئيسية‏,‏ كما يمكن أن يساعد علي التعامل بإيجابية مع المشكلات التي تطرأ علي الساحة بين الحين والآخر‏,‏ مثل أزمة النظافة التي واجهتها مصر في أواخر عام‏2009,‏ حيث وصل الناتج اليومي للمخلفات الصلبة إلي‏43‏ ألفا و‏835‏ طنا علي مستوي الدولة كلها‏,‏ وهو ما أحدث أزمة خلال هذه الفترة‏.‏وبالتأكيد فإن هناك فارقا كبيرا بين الولايات المتحدة ومصر‏,‏ فالأولي دولة فيدرالية من الطراز الأول‏,‏ والثانية هي دولة مركزية موحدة من الطراز الأول‏;‏ والتراث السياسي المصري كله لديه رفض عام لما يبدو كما لو كان تفكيكا للدولة‏;‏ وأخيرا فإن هناك اتجاها في التفكير السياسي المصري الحالي يري أن اللامركزية قد تكون سببا في انتشار الفساد‏.‏ ولكن القضية لم تعد قضية اختيار بين بديلين فقط‏,‏ وإنما بين بدائل عدة تصل إلي صيغة عملية تلائم المناطق المختلفة في مصر‏.‏ وبشكل من الأشكال فإن بعضا من هذا يحدث في مصر حال وجود محافظ قوي كما جري في تجربة عادل لبيب في قنا‏,‏ وعبد السلام المحجوب في الإسكندرية‏,‏ وتجربة سمير فرج في الأقصر حيث نجح هؤلاء لأنهم استنادا إلي شخصياتهم نجحوا في خلق أشكال من اللامركزية التي حققت نتائج مثيرة في محافظات كانت شائكة وتوشك علي الانهيار‏.‏ مثل ذلك علي أي حال يحتاج نقاشا واسعا علي مستوي الأحزاب والحكومة والإعلام والرأي العام‏.‏ تتبني الولايات المتحدة الأمريكية نظاما لامركزيا يوسع إلي حد كبير من هامش الحرية والاستقلال الممنوح للإدارات المحلية في إدارة شئونها‏,‏ حيث تقوم الأخيرة بتشكيل مجموعة من الأجهزة والهيئات التنفيذية التي تساعدها علي تأدية المهام المنوطة بها في مصر باتت قضية اللامركزية ومنح هامش من الحرية للإدارات المحلية تحظي بأهمية خاصة‏,‏ باعتبارها قسما مهما من عملية التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تشهدها البلاد في الفترة الحالية‏,‏ فضلا عن تزايد الدعوة إلي تبنيها علي أساس أنها الوسيلة المثلي للتعامل مع المشكلات الحياتية

الاهرام المسائي - د .عبد المنعم سعيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق