السبت، 13 مارس 2010

زياد رحبانى صانع البهجة


فى الصورة زياد رحباني بريشة وليد طاهر
يستعصى زياد رحبانى على اللقب أو الوصف البسيط، فهو ظاهرة انفجرت موسيقيا وفنيا وسياسيا قبل أكثر من ربع قرن، وما زال قادرا على إثارة الدهشة والجدل والحماس، أو الرفض الكامل أيضا. فى التأليف الموسيقى والعزف والتوزيع والمسرح والشعر والتمثيل المسرحى والسينمائى والبرامج الإذاعية وهندسة الصوت والمواقف السياسية الصريحة والثائرة. فى كل هذه المجالات ترك الرجل آثارا واضحة، وأشعل فى كل أرض عبرها معارك من النوع الثقيل، وغادر فيها معجبين مفتونين بإبداعه ومواقفه، وخصوما أصابتهم سخريته وصلابته فى الإعلان عن آرائه.
الرحباني الصغير صاعداً
فى أول أيام عام 1956 استقبل العريسان الشابان فيروز وعاصى رحبانى طفلهما الأول زياد، بعد شهور من الزواج، وشهر العسل فى مصر. فى سنواته الأولى أظهر الطفل زياد موهبة غير عادية فى الموسيقى، وأصبح عازفا غير عادى للبيانو. وسوف يعزف بعد ذلك بمهارة المحترفين على الدرامز، (مقطوعة الجو حاليا من ألبوم جوزيف صقر «بما إنـّو») والأكورديون (كل مقطوعات الألبوم الموسيقى الفريد «بالأفراح») والبزق، وربما على آلات أخرى. قدم زياد المراهق نفسه بمجموعة شعرية بعنوان «صديقى الله»، لكنه سرعان ما اختار الموسيقى مهنة وقدرا، رغم أن الشاعر داخله يطل أحيانا ليدهش الجمهور بذائقة غريبة متمردة، فى لغة من قاموس الكلام العادى. كان زياد فى السابعة عشرة عندما قدم أولى ألحانه لفيروز، أغنية «سألونى الناس» من كلمات العم منصور رحبانى. وظهرت الأغنية فى مسرحية فيروز الرائعة «المحطة»، وفيها أيضا أطل زياد للمرة الأولى على جمهور الرحبانية ممثلا لدور صغير أمام السيدة، أتبعه بدور فى مسرحية «ميس الريم»، التى حملت ميلاد المؤلف الموسيقى الشاب، فقد كتب زياد المقدمة الموسيقية التى يعرفها المصريون من كثرة إذاعتها دون تنويه، لكنهم لا يعرفون أنها لزياد. وكانت مقدمة لبرنامج تليفزيونى استمر سنوات هو «حكاوى القهاوى». كانت الثمانينيات سنوات الإنتاج الموسيقى الغزير لزياد، فقدم مع فرقته عدة حفلات كان أسلوبها بمثابة المفاجأة لجمهور بيروت المتابع لسيرة الرحبانى الصغير. كان زياد يقدم فى هذه السنوات موسيقى تمزج بين الجاز وإرهاصات لاتينية ومقطوعات خفيفة، يجمع بينها التجديد والتجريب. وتعبر عن هذه الفترة من إنتاجه ألبومات «هدوء نسبى»، و«موسيقى حية من بيروت»، و«أبو على» وغيرها.
زياد بعيدًا عن فيروز
على خلفية العمل المسرحى المزدحم، كان زياد يواصل تجاربه الموسيقية مع دائرة مفضلة من الموسيقيين والمطربين، مثل المطرب الراحل جوزيف صقر، الذى شاركه مغامرات المسرح أيضا، وقدم معه ألبوم «بما إنو». والمطربة سلمى صاحبة الألبوم الجميل «مونودوز»، بالإضافة إلى آخرين مثل سامى حواط، الصوت الذى شارك زياد الغناء فى ألبوم «أنا مش كافر»، الصادر نهاية الثمانينيات. التجارب التى كان زياد لا يتوقف عنها أثمرت باقة من الأغنيات التى كان بعضها بمثابة الصدمة للمتلقى العربى التقليدى، على صعيد الكلمة والموقف السياسى والأخلاقى، وفى كل الأحوال كانت تحمل مجهودا جبارا للتطوير والتوغل فى أرض جديدة دائما. أغنية «دورها دور» تمتدح مخدر الحشيش، ويطالب المطرب فيها، سامى حواط، بأن تدور السيجارة حتى ننسى ما يحدث فى لبنان، «ما بدى أصحى». أغنية «just do it» صرخة حسية جريئة بصوت سلمى. أغنية «خلـّصت الكبريتة» وصلة من التوبيخ القاسى للزوج الكذاب الحشاش المخادع، بصوت سلمى. أغنية «كل شى بيموت» فى نفس الألبوم، «مونودوز»، دعوة بشعة للاكتئاب وفقدان الأمل نهائيا فى كل شىء، «يا عم ما الشمس بتموت». وتكتمل الصدمة بالتحذير الذى يكتبه زياد على غلاف الألبوم، بعدم الاستماع إلى الأغنية، التى كررها فى نهاية الألبوم بتوزيع آخر، وبـ«إصرار عجبيب» كما كتب.
الأغنية السياسية.. فى مدح الزعيم الوطنى
فى منتصف الثمانينيات فاجأ زياد الجميع بألبوم «أنا مش كافر»، الذى يشبه عنقودا فنيا من مواهب وابتكارات زياد، كاتب الأغنية والملحن والمناضل السياسى والمطرب والعازف ومهندس الصوت أيضا. موهبته الفريدة جعلته فى هذا الألبوم يقف على منصة الثقة المطلقة، ولا يتردد فى التجريب الذى لا تخلو منه أغنية واحدة من المقطوعات الثمانى. حتى افتتاحية الشريط بصوت زياد كانت موجعة: «هايدا الشريط حقه 20 ليرة، واللى يبيعه أغلى من هيك بيكون حرامى، واللى يبيعه أرخص من هيك برضو بيكون حرامى، بس حرامى غير شكل، لأنه شريط غير شكل». يقصد زياد أن هناك «توظيفا سياسيا» لسرقة الشريط، ليس فقط من جانب الخصوم، بل ربما من جانب الأنصار، فالشريط فى النهاية كان «إعلانا سياسيا». هل توجد صراحة إلى هذا الحد؟. لكن ما يلى من أغنيات كان اختراعا على كل صعيد. الأغنيات تبدأ بهجائية الافتتاح «أنا مش كافر»، ضد كل من «يصلى الأحد أو الجمعة، وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة»، وتنتهى بصلاة إلى شهداء الجنوب اللبنانى زمن الاحتلال الإسرائيلى. كان الشريط أيضا تجربة لا تنسى فى تحويل مواقف سياسية واقتصادية إلى أغنية جميلة، لا يمل منها المستمع، مثل «الله يساعد»، التى ترقى إلى مستوى البيان السياسى على طريقة المانفيستو الشيوعى، مع رفيقتيها «شو عدا ما بدا»، وشو ها الإيام». لم تصل الأغنية السياسية فى الوطن العربى إلى ما حققه زياد فى الكلمة البسيطة والعمق غير العادى فى الوقت نفسه مع اللحن الجذاب، بالإضافة إلى ما يتميز به من دقة متناهية فى التنفيذ والتسجيل والتوزيع والميكساج. وهذا ما لم يتوافر ربما لتجارب الغناء السياسى الأخرى، مثل الشيخ إمام فى مصر، أو مارسيل خليفة فى لبنان. ووصلت شجاعة زياد فى التعبير السياسى الخشن إلى درجة الهجوم اليومى على خصوم سياسيين مسلحين، دون أن يطرف له جفن، فقد هاجم أحزابا تملك ميليشيات للقتل فى لبنان الممزق بالحرب الأهلية، وانتقد السوريين الذى كانوا موجودين فى لبنان فى أغنية من عبارة واحدة: ياللا كشّوا بره!. ووصل به التفانى فى خدمة موقفه السياسى إلى تخصيص أغنية ضد الرئيس السورى الراحل، ساخرة ومحرضة وقاسية، تبدأ باعتذار عن عدم وجود «زعيم وطنى تقليدى يمكن إهداء الأغنية له»، ثم بمشاهد صوتية لاقتحام الجنود السوريين لبيوت اللبنانيين. زياد لا يخاف، خلاصة مخيفة لمن يعرف أن لبنان هو دائما ساحة محتملة للعقاب ثم للثأر، ولم يكن اغتيال الحريرى، المدجج بكل أسلحة الكشف عن الأسلحة، آخر أشكال الحوار السياسى الدامى فى لبنان الأخضر.
من أقرب مكان فى عالم زياد، من عالمه الموسيقى، هذه إطلالة تحاول رسم ملامح الملحن زياد، وتطوره، واكتشافاته التى لا تنتهى، مع التركيز على 4 أعمال موسيقية له.


الشروق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق