الجمعة، 4 سبتمبر 2009

عمـر بن عبدالعزيز ‏..‏ خامس الخلفاء الراشدين


في حلوان جاء مولده عام‏61‏ هـ أيام كانت مرتعا وملعبا وجنة وهواء عليلا طيبا وينابيع شفاء‏..‏ أيام كانت حلوان عاصمة في زمن آل مروان هروبا من طاعون البلاء‏..‏ أيام كانت حلوان شجرا وثمرا وحدائق غناء ونخيلا وأعنابا وقصرا منيفا لحاكم البلاد‏..‏ أيام كانت حلوان ملاذ الأمان لعمر بن عبدالعزيز بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف‏...‏ و‏..‏تبقي حلوان من بعده قرونا جنة الرحمن التي نلحق بها في زماننا نلهو أطفالا بين ربوعها وتغمرنا ينابيعها ونبيت فيها منتجعا للصحة والجمال‏..‏ حتي‏..‏ حتي سكن الطير وتحجر الشجر وانسدت الرئات واختنقت الحديقة اليابانية وانكفأ تمثال بوذا علي وجهه حزنا علي ما أصاب ملجأ الخلفاء ومدينة الشفاء بعدما زحفت المصانع والمداخن والتلوث والسناج والهباب‏,‏ وكانت نقطة البداية الرعناء انتقال مصانع الحرير لصاحبها اللوزي من دمياط إلي حلوان‏,‏ وبعدها أتاها نذير الموات مع الحديد والصلب والصهر والطرق وذرات كربون وغبار أسمنت معلقة في الفضاء وأسياخ الأفران ودرن الرئات‏..‏في زمانه وزمان حلوان رمح الأمير الصغير في حدائق قصر والده لتسوقه قدماه إلي حظائر الخيل فيثب بينها لاهيا يمسح علي رؤوسها ويدور من حولها ويتأرجح مع أذيالها فإذا بجواد ملول يترفع عن اللعب مع الصغار يزيحه بركلة تلقيه أرضا بعدما شجت جبينه فيحمل لوالده والدم يغطي وجهه الباكي البريء‏,‏ وقبل أن يغشي الأب الأسي علي ابنه طافت بخاطره ذكري ألقت علي وجهه راحة كبري ليزف لزوجته سبب البشري‏:‏ أبشري يا أم عاصم لقد تحققت نبوءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ابننا الحبيب بهذه الدماء‏..‏ وكانت بداية النبوءة عندما كان ابن الخطاب يطوف ليلا في طرقات المدينة لعل هناك جائعا أو مريضا أو مقهورا في حاجة لمعونة‏,‏ وعندما أرهقه الطواف لاذ بحائط دار فقيرة فترامي لأذنيه حوار بين أم وابنتها حول اللبن الشحيح الذي جاد به ضرع عنزتهما العجفاء‏,‏ وكانت الأم تدعو ابنتها لتخلط اللبن بالماء ليفي ثمنه بحاجاتهما‏:‏ يا بنية امزقي اللبن بالماء‏..‏ وتجيبها الابنة‏:‏ كيف أمزق وأمير المؤمنين نهي عنه‏!..‏فتعود الأم‏:‏ إن أمير المؤمنين لا يرانا الآن‏..‏ امزقي‏..‏ وتجيبها الابنة‏:‏ إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا‏..‏ و‏..‏ عاد أمير المؤمنين لداره ليدعو عاصم ابنه موجها نصيحته‏:‏ اذهب فتزوج الابنة فما أراها إلا مباركة ولعلها تلد رجلا يسود العرب‏..‏ وتزوج عاصم الفتاة لتلد له ليلي وكنيتها أم عاصم التي تزوجت بدورها عبدالعزيز بن مروان لتلد له عمر بن عبدالعزيز‏,‏ وتكتمل النبوءة عندما يري أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رؤيا نهض منها ليسأل قبل أن يأتي الحفيد بأربعين عاما‏:‏ من هذا الأشج من بني أمية؟ ومن ولد يسمي عمر يسير بسيرة عمر ويملأ الدنيا عدلا؟‏!!..‏ و‏..‏ تركل الفرس جبين الموعود فيشج ليتذكر والده نبوءة الجد فيهتف غبطة‏:‏ إن تكن أشج بني أمية‏,‏ إنك إذن لسعيد‏!!‏ابن الرفاهية والنعيم جميل الطلعة أبيض البشرة نحيل القوام مسدل الشعر علي الأكتاف‏,‏ من كان إذا سار هب عبق المسك يعلن قدومه‏,‏ ويطبع بخاتمه فيفوح موضعه العنبر‏,‏ ويشتري الثوب الثمين ليرتديه مرة واحدة‏,‏ وفي اليوم الواحد يغير حلتين‏,‏ ويسبل إزاره حتي يكاد يتعثر بذيله الهفهاف‏,‏ وربما دخل نعله فيه فيشقه فلا يخلع النعل‏,‏ ويسقط أحد شقي ردائه عن منكبه فلا يرفعه‏,‏ ويمشي مشية متأنقة متبخترة يحسده عليها الطاووس سميت باسمه المشية العمرية التي أصبحت من آيات الأناقة لدي الرجال والنساء ــ تلك المشية التي لم يستطع تركها بعد زهده حتي يقول لغلامه مزاحم‏:‏ ذكرني إذا ما رأيتني أمشي بها لأقومها‏..‏ لكنه لم يكن يستطيع إلا الرجوع إليها بلا عمد ــوكان ركبه في السفر أربعين جملا تحمل متاعه من الكتب وأفخر الثياب وأطيب الطعام والشراب‏..‏ ركب يغادر مصر إلي المدينة بالغلام ليدرس بها ويتفقه وهي يومئذ منارة للعلم ومجتمع يموج بالنبوغ الإنساني في فنون الشعر والعزف والغناء‏,‏ ويستجيب لرغبة والده في أن يدرس إلي واحد من كبار فقهائها صالح بن كيسان‏,‏ وحدث أن تأخر عمر عن صلاة إحدي الفرائض مع المصلين بمسجد الرسول فسأله بن كيسان عن سبب تأخره فأجاب الغلام في صدق‏:‏ كانت مرجلتي ــ ماشطتي ــ تمشط شعري فقال أستاذه في عتاب‏:‏ أو تقدم تصفيف شعرك علي الصلاة؟‏!!..‏ ولأن الأب عبدالعزيز بن مروان حاكم مصر قد أوصي بن كيسان بالكتابة الدائمة له عن آخر أخبار ولده فأرسل إليه بهذه الواقعة ليأتي أمر عبدالعزيز للابن عمر بأن يحلق شعره جميعه‏!..‏في شباب عمر كشف نزوعه الفني عن موهبة أصيلة في الغناء والتلحين‏,‏ ولو احترف عمر صاحب الصوت العذب الشجي لبذ بصوته أساطين الغناء‏,‏ ولو مضي في التلحين لنافس أقطابه‏,‏ ويسبق الموهبتين لدي عمر بن عبدالعزيز ولعه بالشعر‏,‏ يقبل عليه حافظا متذوقا ناقدا‏,‏وهو الذي وضع لحنا آسرا للأبيات التي تغني بها ابن سريج عميد الغناء بالحجاز‏:‏عـــلق القــلب سـعـــادا عـادت القـلب‏,‏ فعـاداكــلمـا عـــوتب فـيهـــــا أو نهي عنها تمــاديوهو مشغوف بسعدي قد عصي فيها وزاداورغم استمتاعه باللحن الأصيل وصوته الندي الشجي لم يرخ عمر العنان لموهبته واستمتاعه‏,‏ فقد كان صوت التقي يعلو بداخله دوما ليظل ينصح ابن سريج لله در هذا الصوت لو كان بالقرآن‏..‏ ويتولي عمر إمارة المدينة في عهد الوليد بن عبدالملك لتغدو من عاداته تفقد أحوال الرعية تحت جنح الليل كما كان يصنع جده عمر بن الخطاب‏,‏ وعرف من خلال جولاته ليالي أنس خلف الأبواب المغلقة داخل البيوت فلم يعرض لأصحابها وقال للشرطة من حوله‏:‏ ما ضمت عليه البيوت فلا شأن لكم به‏..‏ وحرج عليهم أن ينتهكوا حرمة بيت أو يفضحوا أهله‏..‏وكان أن اشتهرت في المدينة جارية لها أجمل الأصوات فجاء أحد أثرياء العراق لشرائها فوجدها عند القاضي الذي سأله عن سبب تحمل كل تلك المشقة إليها؟ فقال لأنها تغني فتجيد الغناء‏..‏ ولما لم يكن القاضي علي علم بموهبتها طلب منها الغناء فغنت فانتشي واستخفه الطرب حتي جثا علي ركبتيه زاحفا ككبش يريد الذبح في الحج فداء لها طالبا منها ألا تكف عن الغناء ولتفعل به ما تشاء‏..‏ وكان طبيعيا أن قام بصرف طالب الشراء الذي ذهب إلي عمر أمير المدينة ليروي له ما كان من أمر القاضي فقال عمر‏:‏ قاتله الله لقد استعبده الطرب وقام بعزله من منصبه‏,‏ فلما علم القاضي بعقابه قال‏:‏ لو سمعها عمر لقال ما لم يقله وربما ما قلته أنا‏..‏ فلما بلغ ذلك عمر أرسل إلي القاضي والجارية‏,‏ فسأله عما قاله فعاد يردده مؤكدا‏:‏ كل نسائي طالقات إن لم يحدث هذا‏..‏فأمر عمر الجارية بالغناء فأتي شدوها‏:‏كأن لم يكن بين الحجون إلي الصفاأنيس ولم يسمر بمكة ساحربلي‏,‏ نحن كنا أهلها فأبادناصروف الليالي والجدود العواثرفطرب عمر واستعادها مرات وقد فاضت دموعه وعذر القاضي وأعاده إلي منصبه‏...‏ وأيا تذهب مواهب عمر وتحلق فإن لفضائله ولدينه الكلمة الأخيرة‏,‏ فمع ولعه بالشعر نراه يعزف عزوفا نبيلا عن كل ما فيه من إسفاف حتي إنه عندما يغدو واليا للمدينة يخرج منها عمر بن أبي ربيعة لما كان يزخر به شعره من مجون واستخفاف بالحرمات‏,‏ وربما ترسب في أعماق عمر ما كان من تعرض ابن ربيعة لفاطمة بنت عبدالملك بن مروان قبل زواجه منها‏,‏ حيث كان يدور من حولها في موسم الحج معجبا ولا يذكر اسمها خوفا من أبيها الخليفة فلما ارتحلت قال فيها‏:‏كدت يوم الرحيل أقضي حياتيليتني مت قبل يوم الرحيللا أطيق الكلام من شدة الخوفودمعي يسيل كل مسيل‏!‏وتمر الأيام ولا يدخل علي عمر بن عبدالعزيز في خلافته إلا الفقهاء والعلماء والزهاد وأصحاب الحاجات‏,‏ ويقف الشعراء ببابه ولا يأذن لهم‏,‏ وقدم جرير فأطال الوقوف بالباب وعمر لا يأذن له حتي شفع له عالم زاهد فأذن له لينشد قصيدة طويلة جاء فيها‏:‏إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنامن الخليفة ما نرجو من المطرهذي الأرامل قد قضيت حاجتهافمن لحاجة هذا الأرمل الذكر؟فأشفق عمر علي جرير وسأله حاجته فقال‏:‏ ما عودتني عليه الخلفاء من قبلك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ وما ذلك؟‏..‏ قال‏:‏ أربعة آلاف دينار وتوابعها من الحملان والمطايا والكسوة قال‏:‏ أربعة آلاف؟‏!!‏ إنها لتكفي حاجة أربعمائة بيت من بيوت المسلمين وأعطاه من ماله الخاص أربعة دنانير‏!!‏في الخامسة والعشرين أولاه الخليفة الوليد بن عبدالملك إمارة المدينة ومكة والطائف لتكون أولي حسناته فيها عقده مجلسا للشوري من عشرة من كبار الفقهاء أصحاب العلم والمعرفة لا أصحاب المال والنسب‏,‏ وبعدها لم يقطع أبدا بأمر إلا بعد مشورة العشرة‏,‏ ويقبل علي الإصلاح بإطلاق السجناء من أصحاب الآراء المعارضة بمنهاج‏:‏ متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا‏..‏ ويعين للقضاء العالم الورع أبوبكر بن حزم متوجا قراره بدستور يقضي بأنه لا ينبغي للمرء أن يكون قاضيا حتي تكون فيه خمس خصال‏:‏ أن يكون عالما مستشيرا لأهل العلم‏,‏ ملقيا للطمع‏,‏ منصفا للخصم‏,‏ مقتديا بالأئمة‏....‏وأراد الخليفة أمير المؤمنين الوليد في دمشق إعادة تعمير المدينة فدعا عمر مجلس شوراه ليقرأ عليهم كتاب الوليد الذي أمره فيه أن يدخل في المسجد حجرات أزواج الرسول‏,‏ وأن يشتري ما حول المسجد من مبان ليهدمها ويضمها إلي مساحة المسجد ليكون مربعا مائتي ذراع في مائتي ذراع‏..‏ ويرسل عمر للوليد ينقل إليه أن الناس يؤثرون إبقاء حجرات أمهات المؤمنين كما تركها الرسول فيرد الوليد أن يفعل ما أمره به‏,‏ فباع أصحاب المباني المجاورة للمسجد مبانيهم وأخذوا أثمانها وكانوا يبكون كلما رأوا الهدم‏,‏ وأرسل الوليد إلي ملك الروم يخبره بتعمير المسجد النبوي طالبا منه إمدادا بمعماريين مهرة‏,‏فأرسل إليه بمائة منهم‏,‏ ومعهم حمل أربعين بعيرا من الفسيفساء ليزين بها أرض المسجد‏,‏ ومائة ألف مثقال من الذهب هدية من ملك الروم إلي ملك المسلمين لتوسيع المسجد النبوي‏..‏ ويذهب الوليد بعدها للحج فلما أتي المدينة لم يجد الاستقبال كما توقع فالناس تغشاهم كآبة لأنه أمر بتوسيع المسجد النبوي من ناحية القبلة وسائر نواحيه وأمر بضم حجرات أمهات المؤمنين إليه‏..‏ ولولا شوري عمر لأذعن الناس في رأيه للأمر صاغرين كما كانوا علي عهد أبيه عبدالملك الذي ما كان يسمح لأحد بأن يراجعه‏,‏ ولقد أنذر الناس أن يقطع رقبة من يقول له اتق الله‏..‏ عمر في رأيه قد زلزل هيبة الملك حتي تجرأ مجلس شوراه علي نكران ما صنعه بالمسجد النبوي الشريف بمواجهته بقولهم‏:‏ أنت تجعل بنيان المسجد عاليا شاهقا باذخا‏,‏ولكن الحجرات قصيرة السقوف‏,‏ وسقوفها من جريد النخل‏,‏ وحيطانها من اللبن‏,‏ وتركها علي حالها كان أولي‏,‏ لينظر الحجاج إلي بيوت النبي عليه الصلاة والسلام فيعتبروا ويكون ذلك أدعي للزهد في الدنيا‏..‏ و‏..‏ ويوغر الحجاج بن يوسف الثقفي ــ عدو عمر التليد ــ صدر الوليد ليعزل ابن عمه عمر ليولي مكانه عثمان بن حيان للمدينة وخالد بن عبدالله القسري لمكة وذلك بترشيح من الحجاج ليعلق عمر علي ذلك بقوله‏:‏ الحجاج علي العراق‏,‏ وأخوه محمد باليمن‏,‏ وخالد القسري بمكة‏,‏ وقرة بن شريك علي مصر‏,‏ و الوليد بالشام‏!!‏ امتلأت بلاد الله جورا وظلما‏!!..‏وأدرك عمر أن الوليد عندما استدعاه بحجة أن يكون وزيرا بجانبه في دمشق إنما عزله ليبقيه تحت رقابته وعيون الحجاج الطاغية الذي بلغ في سجونه بالعراق وقتها مائة ألف سجين‏,‏ والذي لن تنسي المدينة المنورة أنه سماها الخبيثة‏,‏ والرسول سماها الطيبة‏,‏ ولأنه حين حكم المدينة أخافها‏,‏ وحين رحل عنها أهانها‏,‏ وفي الحديث الشريف‏:‏ من أخاف المدينة أخافه الله‏..‏ وهو الذي دخل المدينة غازيا بعد أن ذبح عبدالله بن الزبير وأرسل برأسه لعبدالملك وختم أيدي من بقي فيها من الصحابة بالرصاص وكان فيهم أنس بن مالك‏,‏ ودمر بجيوشه البيت الحرام‏.‏ويهتف أحد العلماء‏:‏ ليت أهل العراق يثورون عليه ويقتلونه‏!‏ فيقول عمر‏:‏ إن للحجاج عقوبة من الله‏,‏ فلا تتعجلوا عقوبة الله بالسيف‏...‏ ويأتي بريد العراق بخبر موت الحجاج وإذ سمع عمر النبأ سجد لله شكرا وصلي ركعتين‏..‏ ويقبل أهل الشام يعزون الوليد في الحجاج فتخلف عمر فسخط عليه الوليد ليلومه‏:‏ مامنعك يا عمر أن تعزيني في الحجاج كما عزاني الناس؟ ورأي عمر أن يصطنع الحيلة في الرد علي من في وجهه نية الفتك‏:‏ إنما الحجاج منا أهل بيت ونحن نعزي به ولا نعزي فاستراح الوليد قائلا‏:‏ صدقت‏!!‏وتأتيه الخلافة بكتاب سليمان أمير المؤمنين‏:‏ من عبدالله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبدالعزيز‏,‏ إني وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبدالملك‏,‏ فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم‏..‏ ويدخل عمر المسجد فإذا هو غاص بحشود الوافدين فرآها فرصة للخلاص من المنصب الكبير قبل أن يتشبث بكاهله‏,‏ فصعد المنبر وخطب في الناس‏:‏ أما بعد‏,‏ فقد ابتليت بهذا الأمر علي غير رأي مني فيه‏,‏ وعلي غير مشورة من المسلمين‏,‏ وإني أخلع بيعة من بايعني‏,‏ فاختاروا لأنفسكم‏..‏ولم يكد يفرغ حتي اهتز المسجد بدمدمة الاعتراض‏:‏ بل إياك نختار يا أمير المؤمنين‏..‏ ويكتب المؤرخون عبارة هي الخلاصة لمفهوم خلافته‏:‏ بويع عمر بن عبدالعزيز فقعد للناس علي الأرض‏..‏ بمعني الخضوع المطلق لحقوق الناس الذين يلي الخليفة أمرهم ويحمل مسئولية مصائرهم فإنه بمكانه هذا يكون بين أيديهم وليسوا هم الذين بين يديه‏..‏ قعد علي الأرض زاهدا في فراش الملك إلي الحصير ليهدم كل ما للسلطة من بذخ واستعلاء ولينزلها عن عرش الصلف والكبرياء إلي أرض البساطة والرحمة‏..‏ويناديه رجل‏:‏ يا خليفة الله في الأرض فيرد عمر‏:‏ صه‏..‏ إني لما ولدت اختار لي أهلي اسما فسموني عمر فلو ناديتني‏:‏ يا عمر أجبتك‏,‏ فلما كبرت اخترت لنفسي كنية أبي الحفص‏,‏ فلو ناديتني‏:‏ يا أبا الحفص أجبتك‏,‏ فلما وليتموني أموركم سميتموني أمير المؤمنين فلو ناديتني‏:‏ يا أمير المؤمنين أجبتك‏..‏ وأما خليفة الله في الأرض فلست كذلك ولكن خلفاء الله في الأرض داوود النبي عليه السلام فقد قال تبارك وتعالي يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض‏.‏ربيب الملك وحفيد المجد وابن القصور الناعمة والمباهج الغامرة لم يستغرق انقلابه الروحي الهائل المفاجئ سنين ولا شهورا بل جاء ابن اللحظة التي اختير فيها أميرا للمؤمنين‏..‏ ولم يكن وراء الانقلاب يأس من غاية أرهقت طموحه‏,‏ ولا هزيمة في الحياة راح يلتمس عوضا عنها‏,‏ ولا رد فعل لإفراط في شهوات النفس‏,‏ ولا نوبة تقي دفعت به إلي صوامع العابدين‏,‏ ولا نزعة تشاؤم تري العدم وراء الأشياء فتلوذ بصيحة اللامبالاة‏:‏ الكل باطل‏..‏ تنازل عن كل شيء‏..‏ عن ثروته حتي ولي الخلافة وكانت أربعين ألف دينار سنويا‏,‏ وأرضه التي يملكها وجواريه وقصوره وماله وثيابه حتي فص الخاتم في يده رده إلي بيت المال قائلا عنه‏:‏ أعطانيه الوليد من غير حقه‏..‏وبقيت له قطعة أرض صغيرة اشتراها بحر ماله لا تعطي أكثر من مائتي دينار في العام لحاكم أعظم وأكبر وأغني إمبراطوريات عصره يعيش بها هو وأسرته طوال العام وعرضه‏..‏ ويسرج شمعة من المال العام يقضي علي نورها حوائج المسلمين فإذا فرغ أطفأها ليقضي حوائجه علي سراجه‏...‏ يرفض الجزية علي الذين أسلموا من أهل البلاد المفتوحة ويخففها عن غير المسلمين مطلقا صيحته‏:‏ إنما بعث محمد هاديا لا جابيا‏..‏ يصدر أوامره الصارمة الحازمة إلي الولاة في كل الأمصار‏:‏ لا تهدموا كنيسة‏,‏ ولا تزيلوا معبدا‏..‏ يمنع التعذيب للحصول علي الاعتراف قائلا‏:‏ لأن ألقي الله بمعاصيهم خير من أن ألقاه بدمائهم‏!..‏يكتب لكل عماله في البلاد‏:‏ لابد لكل رجل من مسكن يأوي إليه‏,‏ وخادم يكفيه‏,‏ وفرس يجاهد عليه‏,‏ وأثاث في بيته‏,‏ فإذا كان غارما‏(‏ مدينا‏)‏ فاقضوا عنه ما عليه‏..‏ وهو الذي اشتهي التفاح فأتاه هدية فرده فلما قالوا له‏:‏ النبي قبل الهدية أجاب‏:‏ هي له هدية ولنا رشوة‏..‏ وهو الذي ردد قول الرسول عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا تنظروا إلي صيام أحد ولا صلاته‏,‏ ولكن انظروا إلي صدق حديثه إذا حدث وأمانته إذا اؤتمن‏,‏ وإلي ورعه‏..‏ وهو الذي قال‏:‏ يهدم الإسلام زلة عالم‏,‏ وجدال منافق في القرآن‏,‏ وأئمة مضلون‏,‏ وهو الذي أمر بجمع الأحاديث والسنة بعدما رأي اختفاء بعض الأحاديث الصحاح واندثارها بموت حفاظها وشيوع بعض الأحاديث المنحولة‏,‏ وشجع آل البيت علي تدوينها وإظهارها قائلا‏:‏ إن أوثق الأحاديث هي ما رواه زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام ويرسل عمر إلي علماء التدوين يذكرهم بالحديث الشريف الذي اختفي‏:‏ عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة‏..‏وهو الذي أبطل سب آل البيت علي المنابر‏..‏ و‏..‏يمنع الحراس السير بين يديه وأن يقوموا له حين يطلع عليهم‏,‏ ويكتب إلي والي مصر‏:‏ بلغني أن بمصر إبلا نقالات يحمل علي البعير منها ألف رطل‏,‏ فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل علي البعير أكثر من ستمائة رطل‏..‏ وتفيض الأموال وينصلح الحال ويدور المنادون في كل مكان في الحضر والبادية لينادوا في الناس‏:‏ أيها الغارمون‏(‏ المدينون‏)‏؟ أين من يريدون الزواج؟ أين المساكين؟ أين اليتامي؟ ويخرج الأغنياء بزكاة أموالهم فلا يجدون فقيرا يأخذها‏,‏ وحتي المولود له راتبه وعطاؤه بمجرد ولادته وليس بعد فطامه حتي لا تتعجل الأمهات فطام الرضع فيتعثر نموهم وتخور قواهم‏,‏ وكفل عمر علي حساب الدولة لكل مريض خادما ولكل أعمي من يقوده‏..‏ وحتي الخوارج جادلهم بالتي هي أحسن ليقول له رسولهم‏:‏ أشهد أنك علي حق وأنني بريء ممن خالفك‏..‏ و‏..‏ تشاركه زوجه فاطمة التقشف الذي فرضه علي نفسه وبيته وترتعد أوصالها من الجوع والصقيع قائلة‏:‏ ياليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين‏..‏فوالله ما رأينا سرورا قد أدخلته علينا‏!!..‏ وإذا ما كانت الشهور التسعة والعشرون التي عاشها عمر بن عبدالعزيز خليفة تعتبر بالنسبة للتاريخ الإنساني كله بمثابة لحظة فإنها اللحظة التي أعطت للإنسانية ما تستطيع الإرادة أن تحققه من عدل إذا ما جعلت الله رقيبا‏..‏خشي بنو أمية أن يترك عمر الأمر شوري بعده فيخرج الملك من أيديهم فدسوا له السم الزعاف ليفيق من نوبات الألم يلتمس مرأي أقرب الناس إليه ليهونوا عليه‏,‏ فسأل عن ابنه عبدالملك فوجده يحتضر‏,‏ وعن أخيه سهل ومولاه مزاحم فعلم أنهما انتقلا إلي رحمة الله‏..‏ فمن يعينه بعدهم علي ما ابتلاه الله به؟‏!!!..‏ فاضت عيناه بالدمع إشفاقا علي نفسه من ثقل الأمانة التي يحملها والتي عرضت علي السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها‏..‏ راح يسابق المنية في إنجاز ما يستطيع إنجازه‏,‏ فحياته علي جناح طائر ولن يلبث بين الناس إلا قليلا وعليه أن يملأ اللحظة العابرة بجهاد أعوام ثقال‏..‏ وأرسل للأغنياء لرعاية الفقراء حتي يأتي خراج البلاد البعيدة فتثاقلوا عنه بل وطالبوا لأنفسهم بمزيد من الأموال‏,‏ والفقراء ياعمر يلحون شاكين‏..‏وتغدو ابتهالاته‏:‏ اللهم اقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط‏,‏ ويرسل في طلب عبدالله بن أبي زكريا الشيخ المستجاب الدعاء يسأله في إلحاح أن ادعو الله أن يميتني‏,‏ ويشتري قطعة أرض بدير سمعان تكون لجسده مثوي فينصحه الأصفياء إذهب إلي المدينة فإن أدركك الموت بها دفنت مع الرسول وصاحبيه فيأتي رده حاسما‏:‏ ومن أنا لأكون أهلا لهذا المقام‏..‏ ويشتد المرض وتتحول ملايين أمته إلي أطفال يوشك اليتم أن يدركهم حين يفقدون الأب الراعي الحنون الذي تفوح سيرته العطرة خارج أمته كالعبير حتي إمبراطور الروم يرسل كبير أساقفته‏,‏ وكان بالطب خبيرا‏,‏ راجيا منه صنع المستحيل لإنقاذ الخليفة العادل والقديس الجليل‏..‏ لكن السم كان قد سري في بدن ينتظر النداء بلهفة مشتاق‏,‏ فنادي علي زوجته الوفية وأولاده الاثني عشر بنتا وولدا جاءوه في ثياب خشنة وقد زايلت وجوههم الشاحبة نضرة النعيم من سنين‏..‏جلسوا يحيطون به فيعانقهم بنظراته الحانية يغالب دموعه فتغلبه فيواريها وراء كلمات يودع بها أعز الأحباب‏:‏ إن أباكم قد خير بين أمرين‏..‏ أن تستغنوا ويدخل النار أو تفتقروا ويدخل الجنة‏,‏ فاختار الجنة وآثر أن يترككم بين يدي الرحمن وهو يتولي الصالحين‏..‏ وبينما هم ينصرفون من المشهد الجليل لمحوه يحرك كفيه إشارة ترحيب لاستقبال ضيوفه القادمين‏..‏ ملائكة جاءت تصحب خامس الخلفاء الراشدين‏:‏ أبوبكر وعمر وعثمان وعلي و‏..‏عمر بن عبدالعزيز‏..‏ ملائكة الرحمة تواكبه في رحلة الفردوس‏..‏ ويسمعه الذين خارج غرفته يردد الآية الكريمة تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا‏,‏ والعاقبة للمتقين‏..‏ ومال رأسه فوق وسادة حشوها ليف مغمضا عينين لم تغمضا عن حق لله ولا حق للناس‏..‏ وعاد المسافر إلي داره‏..‏ عاد مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏..‏و‏..‏وكانت أخبار صلاحه قد ترامت للرعاة في رؤوس الجبال البعيدة فكانوا يتساءلون منذ ولي عمر‏:‏ من هذا العبد الصالح الذي قام علي رأس الناس؟ فقيل لهم‏:‏ وما أعلمكم به؟ قالوا‏:‏ علمنا من سالف الزمان أنه إذا قام علي رأس الناس خليفة عدل كفت الذئاب عن شياهنا‏..‏ وعادت الذئاب تشرع الأنياب وشكا الرعاة في الوديان الفسيحة وعلي رؤوس الجبال البعيدة سطوة الافتراس بلا رحمة بعد أن ظلت نحو عامين ونصف وما من ذئب واحد يفتك بشاة واحدة‏..‏ فعلم الرعاة أن إمام العدل مات‏!..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق