ولكني قبل أن أسارع بالتخلص منها، استرعى انتباهي أنها عبارة عن ملحق خاص بشم النسيم مكون من ثلاث صفحات تصدره مجلة سياحية شهرية تدعوك للحجز في أحد المنتجعات المصرية. غ
ير أن الشيء المذهل أنني لم أجد منتجعا واحدا باللغة العربية من الغردقة إلى شرم الشيخ إلى العين السخنة إلى الفنادق العائمة ومن الساحل الشمالي إلى رأس سدر إلى الإسكندرية وغيرها.
والملاحظ أن الأسماء جميعها إنجليزية كُتبت باللغة العربية على النحو التالي: صن رايز هوليدايز، فيستيفال ريفييرا، بورتو مارينا، سبرينتي هايتس ريزورت، قرية أربيان نايتس الفيوم. وحتى عندما عثرت على اسم عربي وهو فندق سلطان وجدته مقرونا بكلمة (باي) أى خليج بالإنجليزية. ماسقته هنا مجرد نموذج لأسماء قرى ومنتجعات وفنادق سياحية عديدة على سبيل المثال لا الحصر.
ولنا أن نتساءل لماذا تسمى قرية سياحية في الفيوم مثلا أربيان نايتس بدلا من ليالي عربية؟ وهل معنى "أماكن سياحية" أنها قاصرة على استقبال الأجانب أو لايصح استخدام العربية فيها؟ أم أنها عقدة الخواجة؟ حقيقة لا أستطيع إدراك الحكمة في التخلي عن لغتنا بمحض إرادتنا واستعمال لغات أخرى بدلا منها. إذا كان البعض يعتقد أن استخدام الكلمات الإنجليزية قد يجتذب السياح فهو خاطئ، الأجانب والسائحون يأتون إلى أسوان وأبو سنبل والأقصر والغردقة والإسكندرية ومرسى مطروح وبور سعيد وغيرها من سنوات طويلة دون أن نغير أسماءها. كذلك شواطئ الإسكندرية ذات الأسماء العربية الجميلة كالمنتزة والمعمورة والمندرة والشاطبي والعجمي وسيدي عبد الرحمن ظلت تجتذب المصريين والأجانب لسنوات دون أن تغير أسماءها. لابد أن نتوقف ونتساءل عن سبب هذه الظاهرة الدخيلة التي تفشت في السنوات الأخيرة وهي اللجوء لاستخدام الكلمات الإنجليزية بدلا من العربية. الأمر لايقتصر على الأماكن السياحية بل تعدى ذلك إلى أسماء المتاجر والمنتجات والإعلانات الصحفية والتليفزيونية، ناهيك عن استخدام أسماء إنجليزية للقنوات والبرامج التليفزيونية الحكومية، وكأنه أصبح من العيب استخدام العربية. بل إن البعض يناديك الآن بلفظ "مستر" بدلا من أستاذ،
وعندما تسأل عن فلان يقولون لك إنه في "ميتينج" وكأن كلمة "اجتماع" أصبحت غير صالحة للاستعمال. ما الذي حدث؟ أهي العولمة؟ أم أننا أصبحنا نخجل من أنفسنا؟ هل هو التقليد الأعمى أم هو عدم ثقة في النفس؟ لماذا نقلد غيرنا ونتخلى عن لغتنا ولهجاتنا؟
وقد لاحظت أن الأمر لايقتصر فقط على استبدال الإنجليزية بالعربية بل امتد هذا التقليد الأعمى لنمط الكتابة الصحفية، خاصة الصحافة الإليكترونية ونشرات الأخبار. فبدأت الكلمات والتعبيرات الواردة تأخذ طريقها لتغير من النمط المصري التقليدي وأصبحنا نسمع كلمات كاحتفالية بدلا من احتفال، وفعاليات بدلا من أنشطة، وموفد بدلا من مندوب أو مراسل، واستخبارات بدلا من مخابرات، ناهيك عن خلط بعض الصحفيين المصريين حديثا بين الياء المقصورة والمنقوصة والاكتفاء باستخدام الصفة دون الموصوف كأن تقول الرباعية بدلا من اللجنة الرباعية أو أن الفريق الفلاني فاز برباعية نظيفة بدلا من القول إنه فاز بأربعة أهداف، واستخدام الأرقام الغربية "الرومانية" بدلا من الأرقام العربية بدعوى أن الأرقام العربية إنما هي أرقام هندية في الأساس، والنتيجة أننا نرى الآن أخطاء حسابية لاحصر لها على المواقع الصحفية بالإنترنت.
يضاف هذا كله إلى الإسفاف الذي تشهده كلمات الأغاني وبعض الحوارات في الأعمال التليفزيونية والسينمائية التي تطل علينا بين الحين والآخر بكلمات عجيبة لامعنى لها يستخدمها بعض، ولا أقول كل الشباب. إن اللغة ياسادة هي هوية الإنسان، فإذا فقدناها فقدنا هويتنا. الصين أصبحت قوية لأنها تعتز بهويتها وبلغتها، واليابان من قبلها، وهاهي أوروبا تتّحد رغم اختلاف لغاتها من خلال الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي والعملة الموحدة اليورو. أما نحن فنسعى طواعية للتخلى عن العربية الجميلة التي تجعلك تتواصل بسهولة في أي بلد عربي، وهي التي توحدنا. عندما أنظر إلى التعليقات والآراء على بعض المقالات على الإنترنت أشعر بالأسى والخوف. الأسى على أيام طفولتنا حينما كنا نكتب رسائل لأصدقائنا بلغة عربية فصيحة فيها استهلال وصلب موضوع ونهاية. والخوف على الأجيال القادمة من خلال التدهور اللغوي الرهيب الذي أشاهده على الإنترنت. ولك أن تتساءل كيف لتلك الأجيال القادمة أن تقرأ المصحف الشريف أو الأدب أو الشعر العربي الجميل؟ بل كيف لها أن تقرأ تاريخها وتتعرف على تراثها وتحافظ عليه؟ لقد أعجبني الأستاذ فاروق شوشة حين قال في برنامج تليفزيوني إن قضية اللغة قضية أمن قومي. إنها بالفعل كذلك. ولابد أن ندرك أن هناك من ينخر في تلك اللغة لأهنداف بعيدة المدى ربما لاندركها اليوم. فعندما تفقد لغتك تفقد جزءا من كيانك وهويتك وبالتالي لن تصبح أنت هو أنت. أتذكر أننا عندما كنا في الإذاعة في أوائل الثمانينات كان لدينا برنامج اسمه "تعال نتحدث العربية" وكان معدّه الزميل العزيز الأستاذ محمود أبو ميه يجري حوارات باللغة العربية الفصحى مع الشباب الذين يلتقي بهم ولابد أن يردوا هم عليه أيضا بعربية فصحى. فإذا ما أخطأ أحدهم كان يصححه هو بظرف معهود. أين هذا الآن مما نسمعه ونشاهده حاليا؟ إنني لست ضد استخدام اللغات الأجنبية، بل على العكس أدعو الجميع إلى تعلم مختلف اللغات فهذا أمر مطلوب ومهم لمعرفة العالم من حولنا ولتبادل الثقافة والتراث الإنساني ولكن بشرط أن نحافظ على لغتنا التي تعد من أكثر لغات العالم ثراء وأجملها. مرة أخرى، وكما سبق لي القول في هذا المقام، هناك رسالة بالغة الأهمية تقع على كاهل وزارات الإعلام والتعليم والثقافة وأيضا على كاهل مجمع اللغة العربية للحفاظ على هويتنا. وإنني أهيب بمجمع اللغة العربية بشكل خاص أن يكون له دور أكثر نشاطا في الحياة العامة وعدم الاكتفاء بالأبحاث داخل المجمع. أتمنى أن ينظر إلى الشارع ويضطلع على مايدور على الإنترنت والتليفزيون ويقرأ الصحافة الحالية لكي يتفاعل مع مايجري ويدلي بدلوه في تصحيح الخطأ والارتقاء بالذوق العام والحفاظ على لغة القرآن.
محمد عبد الكريم - ايجيبتى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق