تعرض المبدأ الراسخ فى المالية العامة المعاصرة، الذى يؤكد وحدة الموازنة العامة وأنه لا يجوز تخصيص إيراد (محدد كضريبة إضافية على السجائر مثلا) لنفقة محددة (كأن نقول سنوجه ضريبة السجائر الإضافية لإقامة مستشفى) - تعرض لانتهاكات متكررة فى الأعوام الأخيرة. وكلنا يذكر أن وزارة الاستثمار كانت قد أعلنت منذ عامين ونصف أنها ستخصص جزءا من عوائد بيع الأصول العامة، التى يفترض أن تؤول للخزانة، لإقامة مشاريع خدمية ملحة، وكان أول تطبيق لذلك إنشاء كوبرى قليوب الجديد، لكن لأن محمود محيى الدين، أستاذ نقود وبنوك (وكان مستشارا لغالى سابقا) ويعلم تماما أن ذلك لا يجوز، قدم الأمر على أنه تطوع من شركة تابعة بإقامة الكوبرى لخدمة المنطقة وفك الاختناقات الناجمة عن كثافة حركة المرور من وإلى القاهرة هناك.
تلى ذلك حديث وزراء كثيرين عن فرض رسم كذا أو ضريبة كذا أو زيادة كذا من أجل هدف أو غرض محدد، دون مراعاة أن ذلك لا يجوز دستوريا ولا قانونيا طبقا لعدم جواز تخصيص إيراد لنفقة - كما اشرنا أعلاه - كما أنه فى النهاية سيحمّل مجموعات من المواطنين (المستهلكين) دون غيرهم طوال الوقت عبء تمويل إنفاق عام.
وحين نسأل مسؤولين بمن فيهم مسؤولو المالية عن أمور كتلك، يقولون إن المقصود من تلك الاقتراحات أن الرسم أو الضريبة التى يتم التفكير فيها ستدخل الخزانة العامة فتزيد مواردها بما يسمح بزيادة الاعتماد للجهة التى قيل إنه تم جمع الرسوم من أجلها. إن تلك حيل لا تجوز فالأصل أن تتم تعبئة الموارد العامة بأقصى كفاءة ممكنة وبناء أولويات إنفاق صحيحة تخدم المجتمع والنمو الاقتصادى بأقصى عدالة ممكنة، لكن استمرار ثقافة التحايل سيحول الموازنة العامة إلى موازنات فرعية..
والإيرادات السيادية إلى إيرادات محلية، كتلك التى يتم فيها فرض رسم معين لغرض معين، كما أن هذه الثقافة المشوشة ستقود إلى أن الوزير القوى القادر على تمرير الرسم أو الضريبة التى يقترحها لاستغلال الحصيلة فى مشاريع تخص وزارته هو الذى سينجز فى حين يصعب على وزراء آخرين عمل ذلك حتى ولو كانت وزارتهم أكثر احتياجا للموارد.
إننى ممن لا يتحمسون للعبة أن تقرر الحكومة حدا للعلاوة ثم يجىء الرئيس ليرفعه، وأراها «مصطباوية» ولا تليق بالدولة المصرية، ومع ذلك أشير إلى أن الرئيس لم يوجه إلى فرض ضرائب إضافية حين طلب من الحكومة زيادة العلاوة السنوية ولم يقل مثلا للحكومة ارفعوا أسعار السجائر لتمولوا العلاوة، بل إنه أوصى باستمرار الحفاظ على التوازن المالى، أى عدم زيادة عجز الموازنة..
والمعنى الوحيد لذلك هو أنه يطالب الحكومة بالعمل على إعادة هيكلة الإنفاق العام وتدبير الموارد المطلوبة للعلاوة من خلال ترشيد الإنفاق فى الجوانب غير الضرورية وتقليل الفاقد الضريبى والتهرب أى كأنه يقول لها: اعملوا ما عليكم أولا قبل التفكير فى رسوم أو موارد أخرى.
المخيف أن محاولات خرق مبدأ عدم جواز تخصيص إيراد لنفقة تزايدت مع تولى الدكتور يوسف بطرس وزارة المالية، وهى تعكس فى جانب منها متاعب الجهات مع المالية بسبب تشدد الوزير غالى أو ربما أحيانا تعنته..
وترتب على هذه العلاقة المتوترة مع المالية بروز ظاهرة بالغة الخطورة مؤخرا، هى لجوء المؤسسات العامة والهيئات والشركات إلى حيل محاسبية لتقليل ما يتم دفعه للموازنة العامة من فوائض، بحجة «ما هو اللى بيروح هناك ما بيجيش ولما بنعوز علشان الاستثمارات أو التشغيل أو كذا ما بيدوناش».. وهكذا، إذن يطول التفكك كل شىء فى مصر بهدوء أحيانا وفى صخب أحياناً أخرى والنتيجة واحدة: فوضى شاملة.
اقرأ أيضا :
* زكريا عزمى يسأل وزير المالية: هل خالفت الدستور؟ .. غالى : بالقانون ... اضغط هنا
المصري اليوم - مصباح قطب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق