الجمعة، 25 يونيو 2010

"‬بنتين من مصر‮" .. ‬محمد أمين‮ ‬يدخل عالم المسكوت عنه



بأداء رائع لـ‮ "‬صبا مبارك‮" ‬والمفاجأة لـ‮ "‬زينة‮"‬
في‮ ‬عالم السينما ثمة أسماء تدفعك دفعاً‮ ‬الي مشاهدة أعمالها دون تفكير،‮ ‬وتدخل السينما وأنت مدفوعاً‮ ‬بقوة إيمانك بإبداع اصحابها،‮ ‬وخلال علاقتي‮ ‬بالسينما ومتابعتها كان هناك مخرجان لا تستطيع مقاومة فكرة تأجيل مشاهدة أفلامهما‮ ‬يوما واحدا،‮ ‬وهما‮ "‬صلاح أبو سيف‮" ‬و"عاطف الطيب‮" ‬وفي‮ ‬السنوات الاخيرة وبعد رحيلهما كانت سعادتي‮ ‬الكبري بظهور اسم‮ "‬محمد أمين‮" ‬كمخرج له بصمته المميزة،‮ ‬وكانت النقطة الإيجابية الاخري بالنسبة لمحمد أمين هي‮ ‬كونه كاتب سيناريو اعماله،‮ ‬لذلك فأنا اري أن محمد أمين‮ ‬ينضم الي قلعة مخرجي‮ ‬الواقعية المميزين جداً‮ ‬في‮ ‬السينما المصرية،‮ ‬وهما صلاح ابو سيف وعاطف الطيب وتجارب‮ "‬محمد أمين‮" ‬السابقة وبالأخص التي‮ ‬اخرجها وكتب لها السيناريو تضعه في‮ ‬مكانة متفردة في‮ ‬عالم السينما المصرية،‮ ‬وخاصة أن مقدرته علي تصوير الواقع ومشاكله وعرضها بكل قوة وبدون خوف تعد سمة من الصعب تواجدها في‮ ‬السينمائيين الجدد،‮ ‬ولقد كان فيلم محمد أمين الأول‮ "‬فيلم ثقافي‮" ‬بطاقة تعارف جيدة جداً‮ ‬جعلته‮ ‬يتجاوز سنوات عديدة من المفروض أن‮ ‬يقضيها في‮ ‬عالم السينما قبل تقديم فيلم بهذا المستوي في‮ ‬تناول القضايا وتشريحها والإلمام بكل تفاصيلها،‮ ‬واستكمل طرح افكاره والتأكيد عليها بعد ذلك من خلال فيلم‮ "‬ليلة سقوط بغداد‮".‬ وفي‮ ‬تجربته الأخيرة‮ "‬بنتين من مصر‮" ‬أنت أمام تجربة مميزة جداً‮ ‬لفيلم‮ ‬يعرف فيه محمد أمين عالم البنات وتفاصيله أكثر من الكثيرات،‮ ‬لذلك احتوي السيناريو رؤية من الصعب طرحها من خلال رجل،‮ ‬واستطاع من خلال تلك الأطروحة فتح الباب علي مصراعيه امام ما تعانيه مصر بأحاسيس فنان قد‮ ‬يبدو في‮ ‬تناوله محبطاً‮ ‬ولكن في‮ ‬الحقيقة هي‮ ‬محاولات مبدع‮ ‬يعرف قيمة فيلمه في‮ ‬مناقشة تلك القضايا‮.. ‬وبمقدار ما أضحكني‮ ‬تفصيلة بطلة الفيلم التي‮ ‬تؤرخ لحياتها وانجازاتها من خلال شراء قمصان نوم تكتب عليها تواريخ الشراء،‮ ‬بمقدار ما كانت تلك المشاهد مؤلمة ومؤكدة علي مأساة العنوسة في‮ ‬مصر بأسلوب اختصر كل الخطب الرنانة في‮ ‬مشاهد سينمائية‮ ‬غاية في‮ ‬النعومة والجمال‮.‬ من خلال مشكلة التأخر في‮ ‬كل شيء الزواج،‮ ‬العمل،‮ ‬تحقيق الأحلام،‮ ‬الخروج من عباءات الآراء المتخلفة والرجعية،‮ ‬نسج محمد أمين فكرة فيلمه بعيون بنتين من مصر،‮ ‬الاولي قامت بدورها‮ "‬زينة‮" ‬والثانية‮ "‬صبا مبارك‮".. ‬وفي‮ ‬هذا الفيلم الذي‮ ‬يعد اكتشافا لزينة كممثلة أعتقد أنها لم تقدم بهذا الاسلوب من قبل،‮ ‬فلأول مرة أري أن زينة تمثل،‮ ‬وهذا الاداء اعتقد ان وراءه مجهودا مضنيا للغاية من محمد أمين كمخرج الذي‮ ‬قرر التصدي‮ ‬لكل قضايا المسكوت عنه في‮ ‬مصر بنفس اسلوبه السابق في‮ "‬فيلم ثقافي‮" ‬وإن كان في‮ ‬هذا الفيلم أكثر شراسة،‮ ‬والغريب ان مجرد الكلام عن ان الفيلم‮ ‬يقترب من القضايا السرية في‮ ‬مصر من عنوسة واحباط جنسي،‮ ‬وشذوذ وحفايا الهجرة الشرعية،‮ ‬جعلت البعض‮ ‬يمتطي‮ ‬حصانه الخشبي‮ ‬وسيفه وكأنه داخل معركة الشرف الكبري بدون رؤية اسلوب الطرح الذي‮ ‬اعتاد محمد أمين تقديمه في‮ ‬اعماله وهو الافصاح بكل وضوح عن المشكلة مهما كانت جرأتها ثم معالجتها بشكل‮ ‬غاية في‮ ‬الشفافية وبعيداً‮ ‬عن الابتذال وكأنه‮ ‬يزن كل مشهد بميزان من ذهب وهذا ما اكده مشهد ذهاب زينة مع خطيبها المتشكك في‮ ‬عذرية كل البنات الي طبيبة النساء لتثبت له براءتها وحالة الاحباط والانكسار النفسي‮ ‬امام تلك التجربة القاسية علي البنات،‮ ‬ولقد كان موفقاً‮ ‬في‮ ‬طرحه بدرجة تبهرك للاقتراب من حوار‮ ‬غاية في‮ ‬الجرأة بأسلوب واع وليس المقصود منه الاثارة،‮ ‬وبنفس هذا القدر من الوعي‮ ‬الاجتماعي‮ ‬والنفسي‮ ‬لما حدث في‮ ‬المجتمع من تشوه‮. ‬نجد أن هذا الخطيب لا‮ ‬يستطيع تجاوز تلك المخاوف المريضة،‮ ‬ويترك‮ "‬زينة‮" ‬لأنه‮ ‬غير مقتنع بأخلاق البنات‮.‬ ولقد اختزل محمد أمين في‮ ‬شخصية‮ "‬زينة‮" ‬شريحة كبيرة من مجتمع البنات،‮ ‬المميزات جداً‮ ‬في‮ ‬عملهن واخلاقهن،‮ ‬واحلامهن التي‮ ‬لا تتعدي الرغبة في‮ ‬الزواج وانجاب الاطفال،‮ ‬ويظل هذا الحلم‮ ‬يراودها ليل نهار،‮ ‬وبالطبع لا‮ ‬يتحقق في‮ ‬ظل هذا المجتمع الأجوف اجتماعيا والذي‮ ‬تنهشه البطالة،‮ ‬اما الشخصية الثانية‮ "‬صبا‮" ‬فهي‮ ‬الجزء الآخر من البنات صاحبات الشخصية المميزة جداً‮ ‬والطموحة والتي‮ ‬تنال نصيبها من الاحباط،‮ ‬فلا تستطيع انجاز رسالة الماجستير في‮ ‬الوقت المناسب،‮ ‬ومن خلالها نري‮ ‬ابعاداً‮ ‬اخري في‮ ‬المجتمع،‮ ‬بداية من الشاب المحبط المستسلم لإحباطه والذي‮ ‬أدي دوره‮ "‬أحمد وفيق‮" ‬بأداء مميز جداً،‮ ‬في‮ ‬حدود الشخصية المرسومة له،‮ ‬ورغم ان العلاقة بينهما لم تتجاوز اللقاء اليومي‮ ‬عبر الانترنت،‮ ‬إلا أن محمد أمين استطاع أن‮ ‬يرسم لها خطوطاً‮ ‬عميقة في‮ ‬السيناريو والحوار لتصبح بمثابة طلقة الرصاص في‮ ‬وجه المتسببين في‮ ‬ضياع تلك الطاقة الشبابية،‮ ‬وهناك قضية اخري طرحت من خلالها مآسي‮ ‬شباب الخريجين الذين قرروا تجاوز مرحلة البطالة وسافروا الي الصحراء لاستصلاحها وما حدث لهم من مصاعب حاولوا تجاوزها ولكن للأسف أن المجتمع المصري‮ ‬بكل ما فيه من فساد جعل قلة من رجال الأعمال المرتشين‮ ‬يهربون بملياراته الي الخارج ثم‮ ‬يستقبلون بعد ذلك استقبال الفاتحين،‮ ‬هذا المجتمع المتمثل في‮ ‬قوانينه التي‮ ‬تكيل بمكيالين وعدالته العرجاء تحاول القضاء علي هذا الشاب المكافح وغيره لعجزه عن سداد اقساط للبنوك،‮ ‬فلا‮ ‬يجد سوي الهروب الي الخارج مجهضاً‮ ‬حلمه في‮ ‬المقاومة في‮ ‬بلده وفي‮ ‬نفس الوقت اجهاض حلم خطيبته‮ "‬صبا‮" ‬في‮ ‬حياة اسرية بسيطة،‮ ‬ومن خلال الشخصيات المحيطة بـ‮ "‬صبا‮" ‬يستعرض محمد أمين قضية البطالة والهجرة الشرعية بشخصية الأخ الذي‮ ‬قرر رمي‮ ‬نفسه في‮ ‬البحر والموافقة الضمنية علي الغرق لكي‮ ‬ينجو بنفسه من الاستمرار في‮ ‬طابور الشباب الذي‮ ‬جعلته الحكومة مجرد‮ "‬ست بيت‮"‬،‮ ‬وجهزتهم لأن‮ ‬يفقدوا المعني‮ ‬الحقيقي‮ ‬للرجولة من تحمل للمسئولية‮.‬ ولعل مشهد‮ ‬غرق السفينة وما تبعه من بحث‮ "‬صبا‮" ‬و"زينة‮" ‬بين الجثث عن الأخ من أكثر المشاهد المؤلمة والفاضحة في‮ ‬نفس الوقت لحالة الزيف التي‮ ‬نعيشها حتي‮ ‬الآن‮.‬ ولعل اختيار أن‮ ‬ينجو الأخ ولا‮ ‬يموت ولكن‮ ‬يصبح قعيداً‮ ‬علي كرسي‮ ‬متحرك ما هو الا استمرار للتأكيد أننا مازلنا نعيش المأساة التي‮ ‬حتي‮ ‬لا نستطيع النجاة منها ولو بالهرب بالموت‮.. ‬أنت في‮ ‬هذا الفيلم تري صورتك الحقيقية التي‮ ‬قد تحاول اخفاءها حتي‮ ‬عن نفسك،‮ ‬صورة لا تعرف التمييز بين رجل وامرأة لأنها تعبير عن المصري‮ ‬بكل احباطاته،‮ ‬ولعل ان اصابة‮ "‬زينة‮" ‬بأورام في‮ ‬الرحم وخوفها من الموت بالسرطان تم اكتشاف انها اورام حميدة كان بها الكثير من الرمز لمجتمع مشرف علي الموت ولكن هناك من‮ ‬يحاول جاهداً‮ ‬لإنقاذه‮.. ‬وأنت امام موسيقي‮ ‬تصويرية مميزة لـ‮ "‬رعد خلف‮" ‬الذي‮ ‬يعد بمثابة اكتشاف جديد له،‮ ‬ويبقي‮ ‬في‮ ‬النهاية أن محمد أمين مخرج وكاتب سيناريو له اسلوبه الخاص به والذي‮ ‬يضيف للسينما دائما‮.‬ ورغم أن‮ "‬بنتين من مصر‮" ‬جاء في‮ ‬زمن الاسفاف والافلام التي‮ ‬بلا مضمون والمعتمدة علي الافيهات والمشاهد الجنسية الفاضحة وغير الموظفة درامياً‮ ‬والتي‮ ‬لا‮ ‬يخرج الهدف منها عن مداعبة الشباك،‮ ‬الا ان فيلم محمد أمين به من مغريات المشاهدة ما‮ ‬يدعوك لرؤيته فيكفي‮ ‬انه الواقع بكل ما فيه من خلال صورة سينمائية مبهرة‮.‬
الوفد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق