بأداء رائع لـ "صبا مبارك" والمفاجأة لـ "زينة"
في عالم السينما ثمة أسماء تدفعك دفعاً الي مشاهدة أعمالها دون تفكير، وتدخل السينما وأنت مدفوعاً بقوة إيمانك بإبداع اصحابها، وخلال علاقتي بالسينما ومتابعتها كان هناك مخرجان لا تستطيع مقاومة فكرة تأجيل مشاهدة أفلامهما يوما واحدا، وهما "صلاح أبو سيف" و"عاطف الطيب" وفي السنوات الاخيرة وبعد رحيلهما كانت سعادتي الكبري بظهور اسم "محمد أمين" كمخرج له بصمته المميزة، وكانت النقطة الإيجابية الاخري بالنسبة لمحمد أمين هي كونه كاتب سيناريو اعماله، لذلك فأنا اري أن محمد أمين ينضم الي قلعة مخرجي الواقعية المميزين جداً في السينما المصرية، وهما صلاح ابو سيف وعاطف الطيب وتجارب "محمد أمين" السابقة وبالأخص التي اخرجها وكتب لها السيناريو تضعه في مكانة متفردة في عالم السينما المصرية، وخاصة أن مقدرته علي تصوير الواقع ومشاكله وعرضها بكل قوة وبدون خوف تعد سمة من الصعب تواجدها في السينمائيين الجدد، ولقد كان فيلم محمد أمين الأول "فيلم ثقافي" بطاقة تعارف جيدة جداً جعلته يتجاوز سنوات عديدة من المفروض أن يقضيها في عالم السينما قبل تقديم فيلم بهذا المستوي في تناول القضايا وتشريحها والإلمام بكل تفاصيلها، واستكمل طرح افكاره والتأكيد عليها بعد ذلك من خلال فيلم "ليلة سقوط بغداد". وفي تجربته الأخيرة "بنتين من مصر" أنت أمام تجربة مميزة جداً لفيلم يعرف فيه محمد أمين عالم البنات وتفاصيله أكثر من الكثيرات، لذلك احتوي السيناريو رؤية من الصعب طرحها من خلال رجل، واستطاع من خلال تلك الأطروحة فتح الباب علي مصراعيه امام ما تعانيه مصر بأحاسيس فنان قد يبدو في تناوله محبطاً ولكن في الحقيقة هي محاولات مبدع يعرف قيمة فيلمه في مناقشة تلك القضايا.. وبمقدار ما أضحكني تفصيلة بطلة الفيلم التي تؤرخ لحياتها وانجازاتها من خلال شراء قمصان نوم تكتب عليها تواريخ الشراء، بمقدار ما كانت تلك المشاهد مؤلمة ومؤكدة علي مأساة العنوسة في مصر بأسلوب اختصر كل الخطب الرنانة في مشاهد سينمائية غاية في النعومة والجمال. من خلال مشكلة التأخر في كل شيء الزواج، العمل، تحقيق الأحلام، الخروج من عباءات الآراء المتخلفة والرجعية، نسج محمد أمين فكرة فيلمه بعيون بنتين من مصر، الاولي قامت بدورها "زينة" والثانية "صبا مبارك".. وفي هذا الفيلم الذي يعد اكتشافا لزينة كممثلة أعتقد أنها لم تقدم بهذا الاسلوب من قبل، فلأول مرة أري أن زينة تمثل، وهذا الاداء اعتقد ان وراءه مجهودا مضنيا للغاية من محمد أمين كمخرج الذي قرر التصدي لكل قضايا المسكوت عنه في مصر بنفس اسلوبه السابق في "فيلم ثقافي" وإن كان في هذا الفيلم أكثر شراسة، والغريب ان مجرد الكلام عن ان الفيلم يقترب من القضايا السرية في مصر من عنوسة واحباط جنسي، وشذوذ وحفايا الهجرة الشرعية، جعلت البعض يمتطي حصانه الخشبي وسيفه وكأنه داخل معركة الشرف الكبري بدون رؤية اسلوب الطرح الذي اعتاد محمد أمين تقديمه في اعماله وهو الافصاح بكل وضوح عن المشكلة مهما كانت جرأتها ثم معالجتها بشكل غاية في الشفافية وبعيداً عن الابتذال وكأنه يزن كل مشهد بميزان من ذهب وهذا ما اكده مشهد ذهاب زينة مع خطيبها المتشكك في عذرية كل البنات الي طبيبة النساء لتثبت له براءتها وحالة الاحباط والانكسار النفسي امام تلك التجربة القاسية علي البنات، ولقد كان موفقاً في طرحه بدرجة تبهرك للاقتراب من حوار غاية في الجرأة بأسلوب واع وليس المقصود منه الاثارة، وبنفس هذا القدر من الوعي الاجتماعي والنفسي لما حدث في المجتمع من تشوه. نجد أن هذا الخطيب لا يستطيع تجاوز تلك المخاوف المريضة، ويترك "زينة" لأنه غير مقتنع بأخلاق البنات. ولقد اختزل محمد أمين في شخصية "زينة" شريحة كبيرة من مجتمع البنات، المميزات جداً في عملهن واخلاقهن، واحلامهن التي لا تتعدي الرغبة في الزواج وانجاب الاطفال، ويظل هذا الحلم يراودها ليل نهار، وبالطبع لا يتحقق في ظل هذا المجتمع الأجوف اجتماعيا والذي تنهشه البطالة، اما الشخصية الثانية "صبا" فهي الجزء الآخر من البنات صاحبات الشخصية المميزة جداً والطموحة والتي تنال نصيبها من الاحباط، فلا تستطيع انجاز رسالة الماجستير في الوقت المناسب، ومن خلالها نري ابعاداً اخري في المجتمع، بداية من الشاب المحبط المستسلم لإحباطه والذي أدي دوره "أحمد وفيق" بأداء مميز جداً، في حدود الشخصية المرسومة له، ورغم ان العلاقة بينهما لم تتجاوز اللقاء اليومي عبر الانترنت، إلا أن محمد أمين استطاع أن يرسم لها خطوطاً عميقة في السيناريو والحوار لتصبح بمثابة طلقة الرصاص في وجه المتسببين في ضياع تلك الطاقة الشبابية، وهناك قضية اخري طرحت من خلالها مآسي شباب الخريجين الذين قرروا تجاوز مرحلة البطالة وسافروا الي الصحراء لاستصلاحها وما حدث لهم من مصاعب حاولوا تجاوزها ولكن للأسف أن المجتمع المصري بكل ما فيه من فساد جعل قلة من رجال الأعمال المرتشين يهربون بملياراته الي الخارج ثم يستقبلون بعد ذلك استقبال الفاتحين، هذا المجتمع المتمثل في قوانينه التي تكيل بمكيالين وعدالته العرجاء تحاول القضاء علي هذا الشاب المكافح وغيره لعجزه عن سداد اقساط للبنوك، فلا يجد سوي الهروب الي الخارج مجهضاً حلمه في المقاومة في بلده وفي نفس الوقت اجهاض حلم خطيبته "صبا" في حياة اسرية بسيطة، ومن خلال الشخصيات المحيطة بـ "صبا" يستعرض محمد أمين قضية البطالة والهجرة الشرعية بشخصية الأخ الذي قرر رمي نفسه في البحر والموافقة الضمنية علي الغرق لكي ينجو بنفسه من الاستمرار في طابور الشباب الذي جعلته الحكومة مجرد "ست بيت"، وجهزتهم لأن يفقدوا المعني الحقيقي للرجولة من تحمل للمسئولية. ولعل مشهد غرق السفينة وما تبعه من بحث "صبا" و"زينة" بين الجثث عن الأخ من أكثر المشاهد المؤلمة والفاضحة في نفس الوقت لحالة الزيف التي نعيشها حتي الآن. ولعل اختيار أن ينجو الأخ ولا يموت ولكن يصبح قعيداً علي كرسي متحرك ما هو الا استمرار للتأكيد أننا مازلنا نعيش المأساة التي حتي لا نستطيع النجاة منها ولو بالهرب بالموت.. أنت في هذا الفيلم تري صورتك الحقيقية التي قد تحاول اخفاءها حتي عن نفسك، صورة لا تعرف التمييز بين رجل وامرأة لأنها تعبير عن المصري بكل احباطاته، ولعل ان اصابة "زينة" بأورام في الرحم وخوفها من الموت بالسرطان تم اكتشاف انها اورام حميدة كان بها الكثير من الرمز لمجتمع مشرف علي الموت ولكن هناك من يحاول جاهداً لإنقاذه.. وأنت امام موسيقي تصويرية مميزة لـ "رعد خلف" الذي يعد بمثابة اكتشاف جديد له، ويبقي في النهاية أن محمد أمين مخرج وكاتب سيناريو له اسلوبه الخاص به والذي يضيف للسينما دائما. ورغم أن "بنتين من مصر" جاء في زمن الاسفاف والافلام التي بلا مضمون والمعتمدة علي الافيهات والمشاهد الجنسية الفاضحة وغير الموظفة درامياً والتي لا يخرج الهدف منها عن مداعبة الشباك، الا ان فيلم محمد أمين به من مغريات المشاهدة ما يدعوك لرؤيته فيكفي انه الواقع بكل ما فيه من خلال صورة سينمائية مبهرة.
الوفد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق