الآن فقط.. وبعد أن شاهدت الفيلم الأمريكي (The Hurt locker) أو «خزانة الألم» استطيع أن ارجح أنه فاز بأوسكار أفضل فيلم تحديداً لأسباب وطنية في المقام الأول. لا يعني ذلك أن الفيلم رديء فنياً، إنه عمل متقن الصنع فيه عناصر متميزة للغاية وإلا لما حصد أيضاً خمس جوائز أوسكار إضافية بجائزة الأوسكار في التاريخ، وأفضل سيناريو، وأفضل مونتاج، وأفضل مونتاج صوت، وأفضل مكساج صوت، ولكن «خزانة الألم» فيلم محدود وضيق الأفق ومحاصر بحدود موضوعه الذي لا يتجاوز تقديم التحية للجنود الأمريكيين الذين يؤدون واجبهم خارج الوطن، حتي نظرته السياسية للوجود الأمريكي في العراق شديدة السطحية، بغداد بشوارعها ومبانيها وقنابلها وسكانها الذين يتفرجون من النوافذ ليسوا إلا أدوات لتقديم بطولات الجنود الشجعان، ولم يكن يفرق مع صناع الفيلم أن يكون المكان أفغانستان أو حتي «بوركينا فاسو»، إنهم غير مهمومين إلا بشيء واحد: البحث عن أبطال يواجهون الموت ويؤدون الواجب تحت كل الظروف وفي كل الأماكن. من هذه الزاوية الضيقة جداً، التي يدور حولها الفيلم يصبح من الترف أن تطلب من الفيلم موقفاً سياسياً يفسر للمتفرج الأمريكي علي الأقل لماذا ذهب هؤلاء الجنود إلي العراق؟ أو من هم الذين يحاربونهم ويرسلون إليهم القنابل؟ وبالمناسبة فإن هناك أفلاماً أمريكية كثيرة انتجت عن حرب فيتنام لا يعنيها سوي تقديم التحية للجنود سواء كانوا أبطالاً أم ضحايا، كل ذلك مفهوم ولكن ما يبدو غريباً بالنسبة لي أن جائزة عريقة مثل الأوسكار تكتفي بفكرة الاتقان الذي أصبح أمراً بديهياً في أفلام كثيرة جيدة. الموقف الصحيح في رأيي أن تتجاوز الاتقان خاصة في جائزتي أفضل فيلم وأفضل سيناريو إلي آفاق الابتكار والإبداع، ومن هذه الزاوية الواسعة. يبدو «خزانة الألم» فقيراً وهزيلاً ومتواضعاً بالمقارنة بفيلم مثل «أوغاد وصعاليك» للمخرج «كوينتين تارانتينو»، بل «خزانة الألم» شديد التواضع فنياً بالمقارنة بفيلم لم ينافس أصلاً علي جائزة أوسكار أفضل فيلم وهو فيلم «تسعة» للمخرج «روب مارشال»، وحتي لو اعتبرنا الفيلم حاصد الجوائز الست بعد أن رشح لتسع جوائز فيلماً حربياً فإنه بالتأكيد ـ أقل إبداعاً من أفلام حربية أمريكية لا تنسي مثل سفر الرؤيا الآن، و«الفصيلة»، و«سقوط الصقور السوداء».. الخ، الأرجح إذن أن أعضاء الأكاديمية الأمريكية لفنون وعلوم السينما رجحوا البعد الوطني اكتفاء بتوافر الاتقان في عناصر أساسية، أما الإبداع الخاص والابتكار المختلف فلم يكن هذا العام في مقدمة الأولويات. من حيث بناء السيناريو الذي كتبه «مارك بول» لن تجد أيضاً سوي مغامرات متتالية لمجموعة من الجنود المكلفين بإبطال مفعول القنابل والألغام في العراق. ورغم أن هناك أكثر من شخصية، إلا أن أكثر المعلومات عن شخصين فقط هما العريف جيمس وزميله أو قائده الأسمر جي ني سانبورن وهي معلومات تتضاءل بجانب اظهار قدراتهم القتالية وشجاعتهما في مواجهة القنابل والمتفجرات. «جيمس» علي وجه التحديد أضيفت إلي شخصيته ملامح أبطال الأفلام الهوليوودية التجارية، هؤلاء الذين يمارسون الحرب والقتل بمتعة وكأنهم يمارسون اللعب، لقد استعانت به القوات الأمريكية في العراق بعد أن انجز «مهمته في أفغانستان» وهو يعتبر نفسه علي موعد مع التاريخ، يطلقون عليه اسم «المتخصص» ويقترب من القنابل بثقة بل أنه يلقي السماعات عن أذنيه ويطلق الدخان حوله حتي يعمل «بمزاج» وبدون أن يزعجه أحد، «جيمس» - كما يصفه قائده - مثل الرجل المتوحش، ويقول عن نفسه في فخر أنه ابطل مفعول 873 قنبلة، وكنا وقتها في منتصف الفيلم فقط، كما أنه يشارك في معارك بالأسلحة، ويطارد العراقيين في حارات بغداد، ويهزم قائده «سانبورن، في المصارعة أما حياته الخاصة فتنحصر في مطلقته الشابة التي رفضت أن تتركه (!) وطفله الصغير الوليد الذي يعود إليه لفترة وجيزة، ولكنه سرعان ما يشتاق إلي عمله فيعود من جديد مع قوة «دلتا» تأكيدًا لشعار الفيلم وعباراته الأولي المكتوبة بأن الحرب إدمان مثل المخدر، وهنا - مرة أخري - يبدو الفيلم ضيق الأفق لأن الفارق كبير بين أداء الواجب العسكري وبين إدمان الحرب رغم أهوالها. الحقيقة أن الشجاعة بالمنظور الإنساني الشامل ليست في إبطال مفعول قنبلة ولكن في إبطال مفعول الحرب نفسها، ولكن صناع الفيلم - كما قلت - لا يفكرون أبعد من تحت أقدامهم. لن نعرف عن «سانبورن» سوي أن له صديقة، وأنه يرفض الإنجاب منها، وفي نهاية الفيلم سيبدو نادمًا لأنه لو مات لن يترك طفلاً في الحياة، أحيانًا يبدو «سانبورن» منزعجًا من تهوُّر «چيمس» ولكنه سرعان ما يصادقه رغم وجود مشهد غريب يبدو فيه أنه لا يمانع في التخلُّص منه، وهناك شخصيات أخري أكثر سطحية مثل الجندي و«الدربرج» وزميله «أوين» الذي يصاب ويعود إلي أمريكا، والعقيد «دوك» الذي يتم تفجيره بقنبلة بدائية، وكلهم أشباح مقارنة بالبطل الهوليودي «چيمس» الذي يؤدي الواجب بمزاج وفن وصَنْعة وكأنَّه «ميكانيكي» شاطر، ولديه أيضًا حسّ إنساني يجعله يحافظ علي جثة طفل عراقي تم تفخيخ جسده بدلاً من أن يقوم بتفجيره، بل أنه يخرج من معسكره بحثًا عن أسرته في قلب بغداد. أما المكان والشخوص العراقيون فليسوا إلا ديكورات هدفها تقديم المسرح الذي تظهر فوقه بطولات «چيمس» وزملائه من الفريق الذي يحمل اسم «فيكتوري» أي النصر بعد أن كان يحمل اسم «ليبرتي» أي «الحرية». شوارع بغداد تبدو أقرب إلي الأطلال، ورجال المقاومة يختبئون ويهربون مثل الفئران، ولا يترددون في عمل أي شيء بما في ذلك تفخيخ جثة طفل بعد قتله، أو تفخيخ رجل رب عائلة ولديه أربعة أولاد، وهو بالمناسبة الشخص الوحيد الذي فشل «چيمس» في إنقاذه بعد أن انفجرت القنبلة فيه، السيناريو - في الحقيقة - أكثر سطحية من أن تقول أنه يتعمد الإساءة للعراقيين لأنه يتعامل ببساطة مع البطولة بمنطق الفيلم الهوليوودي التقليدي، فكلما كان الأعداء أوغادًا أصبح البطل أكثر بطولة، هذا هو الهدف لا أكثر ولا أقل، صحيح أننا نشاهد رجلاً عراقيا متعلمًا ومثقفًا يحترق شوقًا للقاء رجال الـ«سي آي إيه»، وصحيح أن «چيمس» يتساءل: «لماذا أنا علي هذا الطريق ؟»، وصحيح أن أطفال العراق يودِّعون وحدة نزع المتفجرات بالحجارة، ولكن من الصعب أن تتحدث عن موقف سياسي من الوجود الأمريكي في العراق، إنما هي مجرد إشارة هنا وأخري هناك لاستكمال خلق الجو، ولو كانت الأحداث في أفغانستان مثلاً لما اختلفت الصورة كثيرًا، كل ما يعني كاتب السيناريو الإشادة بهؤلاء الجنود المحترفين الذين يؤدون عملهم بمتعة تعادل متعة المدمن! ولكن هذه الملاحظات المحورية لا ينبغي أن تجعلنا نغفل نجاح المخرجة «كاثرين بيجلو» في توظيف أدواتها لتحقيق الهدف المحدود. المشهد يتم تغطيته من كل الزوايا المختلفة مع اضطراب الصورة ابتعادًا واقترابًا لإعطاء جو اللقطات الإخبارية المصورة، هناك توظيف جيد لجميع أحجام اللقطات خاصة اللقطة المكبرة جدًا التي استخدمت لرصد العيون في لحظات خاصة، هناك أيضًا لقطات أضفت علي المشهد العام حيوية واضحة مثل حركة قطة تعرج أو ماعز يهرب أو رصاصة فارغة تسقط علي الرمل بالحركة البطيئة أو طائرة ورقية تحلق في الهواء إثر انفجار مدمر، ونجحت المخرجة كذلك مع المونتير في بناء مشاهد تشويقية جيدة جدًا لعمليات إبطال مفعول القنابل، كما بدا شريط الصوت والمؤثرات قويا مثلما هو الحال في كل الأفلام التي تدور في ساحات المعارك، والملاحظ أن المخرجة استخدمت أكثر من مرة صوت الأذان والقرآن الكريم، بل واستمعنا أيضًا في أحد المشاهد لأغنية «نوال الزغبي»: «عينيك كدّابين». فيلم «خزانة الألم» أبسط من أن تناقشه سياسيا بعكس فيلم مثل «المنطقة الخضراء» لقد أرادوا البحث عن الأبطال وصناعتهم، والسؤال المؤلم هو: وماذا فعلنا نحن من أجل أبطالنا؟!
روز اليوسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق