الخميس، 10 سبتمبر 2009

حمدى قنديل والإعلام المصرى



حين شاهدت الأستاذ حمدى قنديل مساء الاثنين الماضى على قناة المحور فى برنامج ٩٠ دقيقة، تيقنت أن الرجل لن يعود مرة أخرى إلى أى قناة مصرية حكومية أو خاصة، ليس فقط لأسباب تتعلق بموقفه السياسى وخطابه النقدى للأوضاع القائمة وموقفه الرافض لمشروع التوريث، إنما أيضا وربما أساسا، إلى كفاءته المهنية وثقافته الواسعة وتأثيره «أو كاريزميته» على مشاهديه وهى كلها جوانب (إذا استبعدنا الجانب السياسى) كان من المفترض أن تكون فى صالحه إذا كان الرجل يعيش فى ظل أى بلد آخر غير مصر، التى أكدت أن مشكلتها مع الكفاءة والمهنية فى غاية العمق،
وأن مشكلة حمدى قنديل مع الإعلام المصرى بالأساس مهنية، فهو ليس سطحيا مثل الآخرين، ينكشف جهله إذا تركه المعد للحظات، وإنه نموذج حى للفارق الهائل بين مذيع صنعته الصدفة وغياب المعايير والقواعد المهنية، وبين محاور أو إعلامى واع ومهنى حقيقى، وهو الأمر الذى بات يحتاج إلى عدسة مكبرة لاكتشافه فى أى قناة مصرية.
وقد أشار حمدى قنديل فى هذا البرنامج إلى حلقته الأخيرة على القناة الليبية حول حزب الله وجاءت تحت عنوان هل يمكن التوفيق بين حزب الله ومصر؟ وكان كاتب هذه السطور مع زميل من صحيفة الشرق الأوسط، وهو الأستاذ إياد أبوشقرا، ضيفى هذه الحلقة، وكانت أسئلة الأستاذ قنديل فى غاية المهنية والاعتدال، ولم يقدم أى لغة تحريضية من أى نوع ضد مصر أو ضد حزب الله، بل إنه وجه لنا فى نهاية الحلقة سؤالا حول فرص التصالح وطى صفحة الخلاف بين مصر وحزب الله.
والمفارقة أن موقفنا كان هو إدانة حزب الله دون إسفاف أو تجريح، ولأن قناعتى تقوم على أن حزب الله كان فى يوم من الأيام حزبا مقاوما ونقيا حتى تحرير الجنوب اللبنانى عام ٢٠٠٠ قبل أن يتحول إلى جزء من إستراتيجية إقليمية جديدة تقودها إيران، غير مدانة فى ذاتها، ولكن لا يجب إعطاؤها «شيك على بياض» تحت حجة أن حزب الله كان فى يوم ما مقاوما.
وظل لدىّ «تأنيب ضمير» حول تحملى «مسؤولية ما» فى إغلاق برنامج رئيس التحرير أو كما يقال لم أكن فألا حسنا على الرجل، وهى مسؤولية لم أفهمها لأن موقفى فى هذه الحلقة كان مع الدولة المصرية (لا الحكومة) ورفضت أى اعتداء على السيادة الوطنية حتى لو كان الهدف نبيلا، لأن امتهان سيادة الدولة سيفتح الباب أمام كوارث أخرى تتجاوز قضية تهريب السلاح، وكانت اللغة المستخدمة فى مجملها بما فيها لغة محاورنا الكبير تصالحية، وكان نقده للحكومة دون أى تجاوز وعاديا، ومع ذلك كانت هذه الحلقة هى نهاية تعاون الرجل مع القناة الليبية التى أوقفت برنامجه بعد تأميم القناة بالكامل وضمها للتليفزيون الرسمى الليبى نتيجة ضغوط من الحكومة المصرية.
والمؤكد أن حالة الإعلام المصرى الحكومى والخاص باتت تتسم بمشكلات كبيرة تتجاوز ما جرى مع قنديل أو غيرة، فمصر التى ساهم كثير من كوادرها فى بناء معظم القنوات العربية لا يوجد فيها قناة إخبارية واحدة بوزن العربية (المعتدلة ذات التمويل السعودى) أو الجزيرة التى ترتدى أحيانا كثيرة ثوب الممانعة والممولة من قطر، كما لا يوجد بها صحيفة واحدة مثل الشرق الأوسط أو الحياة ولايزال الكثيرون يترحمون على أهرام هيكل، التى انتهت منذ أكثر من ٤٠ عاما.
صحيح أن هناك هامشا أوسع من الرغى وأحيانا النقد لكثير مما يجرى فى المجتمع المصرى مقارنة بما كان علية الحال منذ نصف قرن، ولكن الكارثة أن هذا النقد اتسم بدرجة هائلة من التسطيح، فننظر مثلا إلى طريقة معالجة إضراب ٦ إبريل الماضى والاحتجاجات الاجتماعية، أو أزمة الأحزاب السياسية أو الإخوان وغيرها، فكلها معالجات تنتمى إلى مدرسة الحواديت وليس الأفكار، فخناقة رفعت السعيد مع أبوالعز الحريرى فى حزب التجمع، وقبلها معركة نعمان جمعة مع محمود أباظة فى حزب الوفد، وتصريحات أحمد رائف عن الإخوان قبل ثلاثة أيام، فهذه هى المادة السياسية على القنوات الخاصة (لأن القنوات الحكومية لا تهتم إلا بنشاط الرئيس)، ولا يوجد برنامج قادر على مناقشة فكرة أو أفكار لأنه يتطلب محاورا كفئا وقناة لديها فهم ورؤية وقواعد مهنية ( وليس مجرد تعبئة هواء).
والمؤكد أن برنامج ٩٠ دقيقة واحد من البرامج التى تعكس ما يجرى فى الشارع من خناقات وقصص وحواديت (زادت على الحد فى الفترة الأخيرة نتيجة غياب دولة القانون وشيوع أجواء هائلة من الفوضى)، ويقدمه مذيع تطور أداؤه بشكل ملحوظ فى الفترة الأخيرة، ولكن فى لقائه مع حمدى قنديل تمنيت أن يترك الرجل بمفرده ليتكلم خاصة أن كثيرا من الأسئلة كانت على مستوى ضيوف «خناقات الشارع المصرى» وليس ضيف هذه الحلقة.
والمفارقة أن مقدم برنامج ٩٠ دقيقة، أراد أن يحرج ضيفه حين سأله عن أن وضع الإعلام حاليا كان أفضل من نظيره فى «العهد الديكتاتورى» ويقصد عهد عبدالناصر، وقد رد عليه الرجل بهدوء معتبرا أن أزمة الإعلام قديمة، واعترف أن الآن هناك هامشا من حرية الرأى والتعبير أكبر مما كانت عليه من قبل.
والحقيقة أن وصف مذيع فى قناة مصرية للنظام الذى أسس الجمهورية ويمثل مصدر شرعية النظام الحالى بالديكتاتورى يعتبر جريمة حقيقية إذا كانت الدولة المصرية قد وضعت لأصحاب هذه القنوات قواعد عامة أخلاقية وسياسية لا يجب مسها، وتتجاوز المعيار الأمنى المتمثل فى عدم مهاجمة الرئيس الحالى (وليس أى رئيس سابق) أو نجله، أما شتم ثورة يوليو (ولا نقول نقدها) أو سب عبدالناصر ووصف نظامه الثورى بالديكتاتورى أو اتهام السادات بالخيانة أو إهانة سعد زغلول ومصطفى النحاس هى كلها أمور لا تثير أى مشكلة طالما هى بعيدة عن الرئيس الذى فى الحكم، ناهيك عن فواصل الردح والشتائم التى نسمعها على الهواء دون أى حسيب أو رقيب.
والسؤال هل كان يمكن لمقدم برنامج ٩٠ دقيقة حين كان يعمل فى الـ MBC أن يصف النظام السعودى بالديكتاتورى كما فعل مع نظام ثورة يوليو فى مصر؟ رغم أننا نعلم جميعا أن السعودية لا توجد بها أحزاب ولا انتخابات من الأساس. وهل قناة العربية التى تسمح بهامش واسع من الجدل والنقد داخلها يمكن أن تقبل بالمساس بثوابت النظام الملكى السعودى؟ الإجابة بديهية دون أدنى شك.
ولأن مصر مستباحة ولأن صاحب أى قناة خاصة هو ملك فى مملكته فى ظل سياسة المماليك والعزب الخاصة التى وزعها الحكم على أصحاب الحظوة والنفوذ، فيمكن لأى «مملوك» أن يبشر بدولة دينية ويبث الجهل والطائفية على القمر المصرى دون مشكلة، ويمكن أن تعبر بفجاجة عن كراهيتك اللغة العربية، وتهينها وتكتب بعامية مبتذلة على شاشة قناتك وتنسى أن هناك بعض المصريين مازالوا غير قادرين على قراءة هذا «اللغة العجيبة» كتابة.
إن الإعلام المصرى لا تحركه قواعد تفرض عليه احترام ثوابت مجتمعه والقيم الأساسية لنظامه السياسى كما يجرى فى كل بلاد العالم، ففى تركيا لا يمكن أن تشتم أتاتورك، وفى فرنسا لا يمكن أن تهين العلمانية والنظام الجمهورى، أما فى مصر فكل شىء مباح إلا التجاوز فى نقد من فى الحكم.
علينا ألا ننتظر عودة حمدى قنديل أو من هم على شاكلته إلى القنوات المصرية حتى إشعار آخر، ولكن أمنيتى أيضا ألا يذهب تحت أى ظرف إلى قناة المنار أو الحوار، لأن قنديل السياسى يوجد منه كثيرون فى مصر والعالم العربى، أما الإعلامى المرموق فهناك واحد فقط.


المصري اليوم - د . عمرو الشوبكي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق