الأثنين القادم يتحدد مصير منصب أمين عام اليونسكو.. مصر رشحت وزير ثقافتها فاروق حسني ليخوض معركة شرسة مع آخرين علي رئاسة التربية والعلوم والثقافة في العالم كله.. المصريون شغلوا من قبل ومازالوا مناصب دولية كثيرة مثل بطرس غالي أول أمين عام عربي للأمم المتحدة. ومحمد البرادعي مدير وكالة الطاقة الذرية. ويوسف بطرس مدير صندوق النقد الدولي.. في قائمة الشرف لجوائز نوبل تتقدم القاهرة علي كل الدول العربية والأفريقية بأربعة من أبنائها حملوا شرف هذا التكريم العالمي هم: الرئيس الراحل أنورالسادات ونجيب محفوظ عميد الرواية العربية وأحمد زويل عبقري الكيمياء وأخيراً وليس آخراً محمد البرادعي.. لكن اليونسكو شيء آخر.. فهذه المنظمة التابعة للأمم المتحدة شهدت أكبر مشروع ثقافي لها في إنقاذ آثار ومعابد أبوسمبل الذي بدأ في عهد د.ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق.. لذلك أقول إن العالم تعرف علي "اليونسكو" عبر البوابة المصرية. فهل سيرحب بفاروق حسني باعتباره المسئول عن وزارة ثقافة بلد به ثلث آثار العالم. ويحتضن ثلاث حضارات كبري بالإضافة إلي الثقافات الغربية التي انصهرت فيها؟! قبل أن أتطرق إلي مميزات المرشح المصري يهمني التأكيد علي أنه لا توجد دولة في العالم تمازجت فيها الحضارات مثل مصر التي تعد بوتقة لأهم تفاعل ثقافي علي مر العصور بين التاريخ الفرعوني والقبطي والإسلامي. كما أن موقعها الجغرافي المتميز وتعاقب احتلال فرنسي وانجليزي عليها أتاح لها اختلاطاً بثقافات أخري وكانت في أوضح تجلياتها في الإسكندرية مسقط رأس الفنان فاروق حسني الذي نشأ في بيئة تصادق فيها مع جاليات إيطالية ويونانية وفرنسية وأرمينية اتخذت من هذا الثغر الجميل مستقراً ومقاماً.. هذا التنوع الثقافي والحضاري جعل المصريين في مجملهم أقرب إلي التسامح وأقدر علي التعايش مع ثقافات أخري.. المصريون أيضاً يتميزون بالقدرة علي امتصاص الأزمات والكوارث. بل والمؤامرات.. وهذا ما يزيد من فرص فاروق حسني. فالحرب ضده علي أشدها. وإقصاؤه عن الحلم المشروع لدولة بحجم مصر يتشارك فيه كثيرون أهمهم ماتسورا الياباني الأمين العام الحالي الذي حول مكتبه إلي غرفة عمليات حربية لضرب حسني وتفتيت الأصوات حوله!.. فعندما بدت المؤشرات علي أن الوزير المصري بإمكانه الحصول علي 31 صوتاً في المرحلة الأولي ظهر التكتيك الأمريكي الصهيوني بمحاولة تفتيت الأصوات.. ماتسورا الياباني موعود بمنصب رفيع من أمريكا إذا نجح في تنفيذ الخطة!. وها هو يعمل.. أقنع بنين وتنزانيا بتقديم اثنين من المرشحين لهز الكتلة التصويتية لأفريقيا البالغ مجموعها 10 أصوات. وأقنعت أمريكا مرشحة الإكوادور إيفون خويس "من أصل لبناني" وصديقة هيلاري كلينتون الحميمة بشق الكتلة التصويتية لأمريكا اللاتينية والتقدم للترشيح رغم أن البرازيل سحبت مرشحها وتحاول حشد التأييد لحسني في كتلة أمريكا الجنوبية التي تقدر بعشرة أصوات.. لقد بذل أحمد أبوالغيط وزير الخارجية جهوداً فوق الوصف ومعه سفراؤه لتدعيم المرشح المصري.. لكن الدعم الدبلوماسي شيء والتفتيت والمؤامرات شيء آخر.. نعم هناك سبع دول عربية في المجلس الحالي لليونسكو هي: مصر والجزائر والمغرب ولبنان وتونس والكويت والسعودية ولا أعلم إن كان الجميع سيمنحونه أصواتهم أم لا. لكن الدلائل تؤكد ذلك.. معركة فاروق حسني ستظهر إلي أي مدي تستخدم مصر قوتها الناعمة.. إنها حرب لا تقل ضراوة عن معارك السلاح.. مواجهة تستخدم فيها الدولة وزارات الثقافة والخارجية والتعليم العالي التي تملك العديد من المستشارين الثقافيين الأكفاء في مختلف أنحاء العالم ولعبوا دوراً هاماً في الترويج للمرشح المصري مثل الدكتورة كاميليا صبحي مستشارة مصر الثقافية في باريس. وطبعاً د.هاني هلال ممثل مصر الدائم في اليونسكو الذي يقوم بدور هام جداً في "التربيط" قبل يوم 14 سبتمبر الموعد النهائي للمواجهة.. أهم ما في هذه المعركة ليس فقط عدد الأصوات التي يحصل عليها حسني. ولكنه الشرح الذي سيقدمه المرشح المصري والعربي أمام أعضاء المجلس التنفيذي ويستغرق 20 دقيقة يشرح خلالها فلسفته ورؤيته للارتفاع بمستوي أداء اليونسكو.. لكن هذا ليس كل شيء لأن توفيق حسني في هذا العرض سيكون بمثابة الفلتر الذي سيدخله إلي المرحلة النهائية. وتستغرق 42 دقيقة وهي عبارة عن جلسة يجاوب فيها المرشح عن ستة أسئلة.. مسموح له في الإجابة 5 دقائق لكل سؤال. أما مدة قراءة كل سؤال فلن تتعدي دقيقتين.. مطلوب من المرشح المصري أن يكون لبقاً وخفيف الدم وعلي دراية بثقافات وحضارات قارات العالم الخمس ليجيب عن أسئلة يتطرق كل منها إلي خصوصية معينة.. وبعدها يعلن فوزه إن شاء الله.. وبعيداً عن دعاوي التعصب ضد فاروق حسني التي أجمع عليها السلفيون المصريون والمتشددون اليهود فأصبحوا في خندق الكراهية لمصر متحدين. يهمني أن أطرح الأسئلة التي تدور في أذهان الأصدقاء والأعداء علي حدي سواء.. هل مصر مؤهلة للمنصب الرفيع؟ الحقيقة أن بلدنا هو أفضل نموذج يمكن تسويقه لصيانة وحماية الآثار. بل وإقامة مناطق خاصة يكون فيها الأثر بطل المكان والزمان. ولعل شارع المعز لدين الله خير نموذج.. إن أرض الكنانة بها أكبر عدد من المتعلمين في أفريقيا كلها والشرق الأوسط.. خريجو جامعاتها ومعاهدها يتصدرون سوق العمل في الدول العربية. فهم الأكثر تأهيلاً وقدرة علي التفاهم والتواصل مع الشعوب.. ومصر أيضاً تملك أكبر برنامج لإصلاح منظومة التعليم وربط سوق العمل بمصر والعالم العربي به.. مصر هي الدولة الأولي في تقديم المساعدات الإنمائية والفنية لأفريقيا وهي التي تملك صندوقاً متخصصاً لدعم التعاون والاستقرار والتعليم والرعاية الصحية مع القارة السمراء.. مصر تشغل منصب رئيس الاتحاد من أجل المتوسط بالمشاركة مع فرنسا وهي مكانة يدعمها تفاهم أوروبي مع القاهرة في مختلف القضايا الحيوية.. مصر هي أهم دولة أفريقية وعربية فيها تمكين للمرأة. حيث حصلت علي كثير من حقوقها السياسية والاجتماعية. كما أنها الأولي في عدد الحاصلين علي درجات الدكتوراة والماجستير في كل الدول الأفريقية والعربية.. إن الحكم علي فاروق حسني باعتباره مرشح مصر لن يكون له علاقة بطوابير الخبز في بلادنا أو نسبة البطالة أو الإصلاح السياسي أو تداول السلطة أو تدني الوعي البيئي والصحي وغيرها من أمراض المجتمع المصري. ولكن الحكم عليه سيكون من خلال المعايير التي سُقْتها عن مصر وأهمها قدرتها علي التواصل ثقافياً وإنسانياً مع الدول المختلفة وحجم إسهامها في ذلك وكيف تسخر خبراتها في خدمة الثقافة بوجه عام والتراث العالمي بوجه خاص.. إن مصر تفخر اليوم بأنها أصبحت الدولة الأكثر إنتاجاً للبرمجيات ووسائل الإعلام التكنولوجي والرقمي في أفريقيا بأسرها. ومن ثم فالأمل معقود علي مصر لإحداث طفرة تكنولوجية وإعلامية في القارة السمراء.. وهي وحدها القادرة علي أن تكون جسراً يربط بين أوروبا المستعمر السابق والدول التي عانت من الاستغلال البشع لثرواتها فيما مضي.. مصر قادرة بكل ما تملك أن تذيب ضغائن الماضي بين المستعمر والعبيد أو بين الغاصب والضحية.. ويبقي الأمل في ألا يضيع كل هذا الجهد والتاريخ ورصيد الثقافة بسبب "زلة لسان" ارتكبها الوزير في انفعال بشري يقع فيه الجميع.. المعابد اليهودية المصرية خير دليل علي أننا لسنا عنصريين أو نازيين.. من العدل أن يتم الحكم علي فاروق حسني بحساب الصواب قبل الخطأ وبحجم الإنجاز والموروث الحضاري وليس لهفوة اتضح من حجم التركيز عليها أن مروجيها هم الفاشيون والنازيون.. مثلي ككل المصريين أدعو له بالتوفيق لأنني أعلم أن هذا الرجل يملك كيمياء المصريين ويعبر عن ثقافتهم المتسعة ويجسد قماشة واسعة يندر أن تتوفر لغيره ويؤمن بالمنهج العلمي منذ أن تولي منصبه.. ففي شهر نوفمبر 1987 أو بداية عام 1988 كان عمره لا يتجاوز 49 عاماً عندما وقف أمام حشد ضخم من المثقفين المصريين في منظمة التضامن الأفرو آسيوي يعرض ورقة شاملة قال إنها ستكون إنجازه في وزارة الثقافة وسيعمل علي تحقيقها.. يومها هاجمناه وقال فيه الراحلان الكبيران موسي صبري وعبدالرحمن الشرقاوي ما قاله مالك في الخمر. لكن الأيام أثبتت أنه "قَدْ كلامه" وما عرضه قبل 21 عاماً استطاع أن يحققه وأكثر منه ومع ذلك مازال يحلم لمصر..
الجمهورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق