١- «عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس حارقاً نفسه»، عبارة صادمة لا أدرى هل كان سيدنا «أبوذر الغفارى» سيقولها لو كان حياً بيننا الآن بدلاً من قولته الشهيرة «عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»؟. ربما لم يقلها فقد كان رضى الله عنه رجلاً مؤمناً يعرف أن الانتحار يأس واليأس كفر، ولذلك لعله كان سيتمسك بشهر السيف بأشكاله الدستورية المعاصرة من إضرابات واعتصامات ومظاهرات وعمل سياسى وكلها بدائل أكثر فاعلية ونجاعة من حرق النفس.
وبالتأكيد كان شيوخ الدولة سينعقدون بكامل هيئاتهم لكى يصدروا بياناً لإدانة منهج أبى ذر التحريضى، وشجب خروجه على الحاكم، ودعوته للالتزام بطاعة أولى الأمر بدلاً من إثارة البلبلة وتهييج الجماهير وإيقاظ الفتنة. لم يكن فى أيام أبى ذر مجامع حكومية للإفتاء، لكن كان هناك مستفيدون من الأوضاع القائمة، ومستغلون لأطهر النصوص فى خدمة أحط المقاصد، وأولئك هم الذين نفوا أباذر وحققوا فيه نبوءة سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم «يعيش وحده، ويموت وحده، ويُبعث يوم القيامة وحده»، وأمثالهم فى أيامنا هم الذين يتشطرون على الراغبين فى الانتحار حرقاً، ويصمتون عن الذين دفعوهم إلى الانتحار.
«هل أنا مع الانتحار؟».. سؤال ستعاجلنى به الآن، طيب يا سيدى، سأجيبك بحكاية، منذ عشرين عاماً كنت طالباً فى السنة الجامعية الأولى، مرت علىّ أيام وليال لم أكن أملك فيها قوت يومى بعد أن نفدت مدخراتى وتقطعت بى السبل، ومع ذلك لم أفكر فى الخروج على الناس حارقاً نفسى ولا شاهراً سيفى، لماذا؟ لأنه كان لدىّ أمل يعصمنى من الكفر، عشت ليلتين لا أجد ما آكله سوى أرغفة عيش قديمة وبرطمان ليمون معصفر وبرطمان عسل تجمد فى الشتاء دليلا على جودته، وكنت أعانى فى كحته بالمعلقة لكى أفرشه على سطح الرغيف، ومع ذلك كله كنت سعيداً جداً لأن جدتى أعطتنى البرطمانين قبل نزولى من الإسكندرية إلى القاهرة وإلا لكنت ربما قد لجأت إلى التسول إسكاتاً لوحش الجوع، لماذا لم أفكر فى الانتحار يومها؟ ببساطة لأننى اخترت تلك الحياة القاسية بمحض إرادتى، تركت العيش المحتمل مع أهلى وقررت أن أطارد أحلامى، نعم كانت لدىّ أحلام وأيضاً كان لدىّ راديو، ولا أظن أن أحداً يستمع إلى إذاعتى البرنامج العام والشرق الأوسط يمكن أن ينتحر.
كلامى كئيب؟ طيب خذ عندك تفسيراً ألطف قليلاً، ربما لم أفكر فى الانتحار وأنا شاب مطحون لأننى جربته وأنا صبى بائس، الانتحار كان مرهقاً جداً، كنت فى التاسعة وقررت أن أهرب من تعاستى الأسرية بأن أبتلع كل ما يوجد من أدوية صلبة وسائلة كانت تشغل حيزاً كبيراً من (دولاب الأدوية) الذى كان ضرورة فى بيت مكتظ بالسكان، فعلتها وظللت أسفله ساعتين أنتظر الموت، لكنه لم يأت، وجاء مكانه مغص حقير تمنيت الموت لكى أرتاح منه ومن التأتيت الذى تعرضت له طيلة اليوم الذى استغرقته لغسيل معدتى، «عايز تموت كافر يا حيوان»، أمى قالتها لى وهى تحتضننى وتبكى، وأنا رددت عليها بما أمتلكه من معلومات دينية أحفظها وبكل ثبات لا يناسب التقطيع الذى تشهده معدتى «أموت كافر إزاى وأنا مابلغتش سن التكليف.. أنا كنت هاخش الجنة وأستريح»، لذلك ولذلك كله نصيحة من منتحر سابق: لا تجربوا الانتحار لأنه ليس مريحاً على الإطلاق فى حالة فشله.
عارف؟ قبل أيام وفى عز هوجة محاولات الانتحار التى أعقبت ثورة الشعب التونسى، طلب منى معد فى برنامج شهير أن أشارك فى حلقة يُفترض أن هدفها نصح الشباب بأن يتوقفوا عن التفكير فى الانتحار، المعد كان زميلاً لى فى الجامعة وزارنى مرة فى الشق الذى كنت أعيش فيه وقتها، العشم الذى بيننا جعلنى أشتمه وقلت له: «هل تتصور أننى يمكن أن أشارك فى دجل كهذا.. هل تريدنى أن أحدث الناس عن حرمانية الانتحار وعن حلاوة الأمل ثم أخرج من الاستديو لأركب سيارتى الفارهة وأعود إلى بيتى لآكل عشاء صحياً ثم أنام قرير العين»، لم أقل له هذا بالفصحى طبعاً، بل بعامية ممزوجة بشتائم يعاقب عليها القانون، والعشم الذى بيننا جعله يرد الشتيمة بأقذع منها قبل أن يسألنى: «طب ترشح مين يقول بقين حلوين عن الأمل واليأس؟».
الحكاية هكذا بالضبط، كل الذين يتحدثون الآن سواء بإخلاص أو بغير ذلك لا يقولون للناس سوى «بقين حلوين عن الأمل واليأس»، والمقرف أن الكل يتحدثون وكأن حكاية الانتحار سخطاً اختراع تونسى ابتكره المرحوم بإذن الله بوعزيزى وسمع به المصريون فجأة، والكل ينسى أن من لم يهزه انتحار عبدالحميد شتا فلا خير فيه.
ونكمل غداً بإذن الله إذا عشنا وكان لنا نشر.
وبالتأكيد كان شيوخ الدولة سينعقدون بكامل هيئاتهم لكى يصدروا بياناً لإدانة منهج أبى ذر التحريضى، وشجب خروجه على الحاكم، ودعوته للالتزام بطاعة أولى الأمر بدلاً من إثارة البلبلة وتهييج الجماهير وإيقاظ الفتنة. لم يكن فى أيام أبى ذر مجامع حكومية للإفتاء، لكن كان هناك مستفيدون من الأوضاع القائمة، ومستغلون لأطهر النصوص فى خدمة أحط المقاصد، وأولئك هم الذين نفوا أباذر وحققوا فيه نبوءة سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم «يعيش وحده، ويموت وحده، ويُبعث يوم القيامة وحده»، وأمثالهم فى أيامنا هم الذين يتشطرون على الراغبين فى الانتحار حرقاً، ويصمتون عن الذين دفعوهم إلى الانتحار.
«هل أنا مع الانتحار؟».. سؤال ستعاجلنى به الآن، طيب يا سيدى، سأجيبك بحكاية، منذ عشرين عاماً كنت طالباً فى السنة الجامعية الأولى، مرت علىّ أيام وليال لم أكن أملك فيها قوت يومى بعد أن نفدت مدخراتى وتقطعت بى السبل، ومع ذلك لم أفكر فى الخروج على الناس حارقاً نفسى ولا شاهراً سيفى، لماذا؟ لأنه كان لدىّ أمل يعصمنى من الكفر، عشت ليلتين لا أجد ما آكله سوى أرغفة عيش قديمة وبرطمان ليمون معصفر وبرطمان عسل تجمد فى الشتاء دليلا على جودته، وكنت أعانى فى كحته بالمعلقة لكى أفرشه على سطح الرغيف، ومع ذلك كله كنت سعيداً جداً لأن جدتى أعطتنى البرطمانين قبل نزولى من الإسكندرية إلى القاهرة وإلا لكنت ربما قد لجأت إلى التسول إسكاتاً لوحش الجوع، لماذا لم أفكر فى الانتحار يومها؟ ببساطة لأننى اخترت تلك الحياة القاسية بمحض إرادتى، تركت العيش المحتمل مع أهلى وقررت أن أطارد أحلامى، نعم كانت لدىّ أحلام وأيضاً كان لدىّ راديو، ولا أظن أن أحداً يستمع إلى إذاعتى البرنامج العام والشرق الأوسط يمكن أن ينتحر.
كلامى كئيب؟ طيب خذ عندك تفسيراً ألطف قليلاً، ربما لم أفكر فى الانتحار وأنا شاب مطحون لأننى جربته وأنا صبى بائس، الانتحار كان مرهقاً جداً، كنت فى التاسعة وقررت أن أهرب من تعاستى الأسرية بأن أبتلع كل ما يوجد من أدوية صلبة وسائلة كانت تشغل حيزاً كبيراً من (دولاب الأدوية) الذى كان ضرورة فى بيت مكتظ بالسكان، فعلتها وظللت أسفله ساعتين أنتظر الموت، لكنه لم يأت، وجاء مكانه مغص حقير تمنيت الموت لكى أرتاح منه ومن التأتيت الذى تعرضت له طيلة اليوم الذى استغرقته لغسيل معدتى، «عايز تموت كافر يا حيوان»، أمى قالتها لى وهى تحتضننى وتبكى، وأنا رددت عليها بما أمتلكه من معلومات دينية أحفظها وبكل ثبات لا يناسب التقطيع الذى تشهده معدتى «أموت كافر إزاى وأنا مابلغتش سن التكليف.. أنا كنت هاخش الجنة وأستريح»، لذلك ولذلك كله نصيحة من منتحر سابق: لا تجربوا الانتحار لأنه ليس مريحاً على الإطلاق فى حالة فشله.
عارف؟ قبل أيام وفى عز هوجة محاولات الانتحار التى أعقبت ثورة الشعب التونسى، طلب منى معد فى برنامج شهير أن أشارك فى حلقة يُفترض أن هدفها نصح الشباب بأن يتوقفوا عن التفكير فى الانتحار، المعد كان زميلاً لى فى الجامعة وزارنى مرة فى الشق الذى كنت أعيش فيه وقتها، العشم الذى بيننا جعلنى أشتمه وقلت له: «هل تتصور أننى يمكن أن أشارك فى دجل كهذا.. هل تريدنى أن أحدث الناس عن حرمانية الانتحار وعن حلاوة الأمل ثم أخرج من الاستديو لأركب سيارتى الفارهة وأعود إلى بيتى لآكل عشاء صحياً ثم أنام قرير العين»، لم أقل له هذا بالفصحى طبعاً، بل بعامية ممزوجة بشتائم يعاقب عليها القانون، والعشم الذى بيننا جعله يرد الشتيمة بأقذع منها قبل أن يسألنى: «طب ترشح مين يقول بقين حلوين عن الأمل واليأس؟».
الحكاية هكذا بالضبط، كل الذين يتحدثون الآن سواء بإخلاص أو بغير ذلك لا يقولون للناس سوى «بقين حلوين عن الأمل واليأس»، والمقرف أن الكل يتحدثون وكأن حكاية الانتحار سخطاً اختراع تونسى ابتكره المرحوم بإذن الله بوعزيزى وسمع به المصريون فجأة، والكل ينسى أن من لم يهزه انتحار عبدالحميد شتا فلا خير فيه.
ونكمل غداً بإذن الله إذا عشنا وكان لنا نشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق