فقد الفكر الإنساني عموما, والغربي خصوصا واحدا من أعلامه البارزين في القرن العشرين, برحيل عالم( الأجناس) الكبير كلود ليفي شتراوس قبل أسبوعين. فإذا كان آرثر دو جوبينو هو الرائد الكبير للأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر, وملهم النظرية العرقية منذ كتب مؤلفه الشهير فصل المقال في لا تساوي الأجناس البشرية متنبئا فيه بسقوط الحضارة الأوروبية, فإن شتراوس اشتهر باختراق تخصصه الضيق,حيث اعتقد دوما أن الأنثروبولوجيا تمثل بالنسبة للعلوم الإنسانية الحديثة ما كان يمثله علم الفلك في بدايته بالنسبة للعلوم الفيزيائية الحديثة, وأنها السبيل الوحيد الذي توصل دراسته إلي معرفة السمات الأساسية للمجتمع الإنساني بشكل عام, وهو ما حاوله في أبرز كتبه حوارات حزينة(1955), رباعية أسطوريات(1964 ـ1971), النظرة المبتعدة(1983), الخرافة الغيورة(1958). غير أن الإسهام الأبرز لكلود ليفي شتراوس هو ريادته للمدرسة البنيوية التي هيمنت علي الفكر الغربي وخصوصا الفرنسي منذ الستينيات وحتي الثمانينيات.فقد اكتسبت البنيوية أهميتها من محاولتها الناجحة لانتزاع الفكر الفرنسي/ الأوروبي من متاهات العبث والقلق في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية, والتي تمكنت من تنحية الفلسفة الوجودية عن عرشها الذي دام لها طيلة عقدين يمتدان بين صدور مجلة الأزمنة الحديثة برئاسة تحرير سارتر نفسه, ورفاقه من فلاسفة الوجودية وعلي رأسهم سيمون دي بوفوار, وصمويل بيكيت, وميرلو بونتي, وريمو كينو وغيرهم منذ عام1945, وبين1966 م حينما ذاع وصف البنيوية, علما علي أعمال هؤلاء الرواد الذين أثروا,وخصوصا شتراوس, تأثيرا كبيرا في ثورة الشباب( الطلابية) التي كانت قد اجتاحت العالم عام1968 م. غير أن البنيوية في الحقيقة, ليست مذهبا فلسفيا موجبا يقول بأشياء وأفكار بقدر ما أنها منهج للنظر والتحليل.وبالطبع, ليس شتراوس الأول ولا هو الوحيد الذي أشار إلي السمة البنيوية للظواهر الاجتماعية ولكن الجديد فيه أنه أخذها بشكل جدي واستخرج منها كل النتائج المنطقية المترتبة عليها, حتي أن اسمها بدا في بعض عناوين كتبه مثل البني الأولية للقرابة الصادر عام(1949), أو الأنثروبولوجيا البنوية بجزئيه الصادرين1958 و1973 فكان التزامه بالبنيوية صريحا ومطلقا.أما جوهر التجديد الذي أتي به شتراوس فهو حل معضلة التناقض بين الطبيعة البشرية الواحدة من جهة, وبين التعددية الثقافية, وإثبات الوحدة الفكرية للجنس البشري في آن واحد, ومؤكدا أن الثقافات لم تتطور استجابة للحاجات الخارجية فقط بل تطورت ـ بشكل أعمق ـ طبقا للضوابط الداخلية في الذهن البشري, متحديا في ذلك الهيمنة المتطرفة للمدارس التجريبية التي كانت سائدة آنذاك مثل السلوكية في علم النفس والنسبية الثقافية في الأنثروبولوجيا,ولذا كان تأثيره الواسع في فكر القرن العشرين رغم توقفه عن الكتابة والبحث منذ عام1991 م حين أصدر آخر أعماله حكاية القط البري.
كان شتراوس يهودي الأصل, غير ممارس للطقوس طبعا, بل طالما أعلن إعجابه بالديانات الطبيعية للشرق الأقصي الآسيوي وخصوصا الشنتوية اليابانية, وبرغم أنه لم يبد أي نوع من التعاطف مع الحركة الصهيونية, فإنه اعتبر إسرائيل أمرا إيجابيا لكونها حملة صليبية ناجحة للغرب ضد الشرق, وربما لهذا الفهم اعتبره اليمين الأمريكي المحافظ مصدر إلهام.
الاهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق