الأحد، 15 نوفمبر 2009

وداعا لعالم الأنثروبولوجيا و الرائد البنيوي الكبير‏ "كلود ليفي شتراوس"


فقد الفكر الإنساني عموما‏,‏ والغربي خصوصا واحدا من أعلامه البارزين في القرن العشرين‏,‏ برحيل عالم‏(‏ الأجناس‏)‏ الكبير كلود ليفي شتراوس قبل أسبوعين‏.‏ فإذا كان آرثر دو جوبينو هو الرائد الكبير للأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر‏,‏ وملهم النظرية العرقية منذ كتب مؤلفه الشهير فصل المقال في لا تساوي الأجناس البشرية متنبئا فيه بسقوط الحضارة الأوروبية‏,‏ فإن شتراوس اشتهر باختراق تخصصه الضيق‏,‏حيث اعتقد دوما أن الأنثروبولوجيا تمثل بالنسبة للعلوم الإنسانية الحديثة ما كان يمثله علم الفلك في بدايته بالنسبة للعلوم الفيزيائية الحديثة‏,‏ وأنها السبيل الوحيد الذي توصل دراسته إلي معرفة السمات الأساسية للمجتمع الإنساني بشكل عام‏,‏ وهو ما حاوله في أبرز كتبه حوارات حزينة‏(1955),‏ رباعية أسطوريات‏(1964‏ ـ‏1971),‏ النظرة المبتعدة‏(1983),‏ الخرافة الغيورة‏(1958).‏ غير أن الإسهام الأبرز لكلود ليفي شتراوس هو ريادته للمدرسة البنيوية التي هيمنت علي الفكر الغربي وخصوصا الفرنسي منذ الستينيات وحتي الثمانينيات‏.‏فقد اكتسبت البنيوية أهميتها من محاولتها الناجحة لانتزاع الفكر الفرنسي‏/‏ الأوروبي من متاهات العبث والقلق في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية‏,‏ والتي تمكنت من تنحية الفلسفة الوجودية عن عرشها الذي دام لها طيلة عقدين يمتدان بين صدور مجلة الأزمنة الحديثة برئاسة تحرير سارتر نفسه‏,‏ ورفاقه من فلاسفة الوجودية وعلي رأسهم سيمون دي بوفوار‏,‏ وصمويل بيكيت‏,‏ وميرلو بونتي‏,‏ وريمو كينو وغيرهم منذ عام‏1945,‏ وبين‏1966‏ م حينما ذاع وصف البنيوية‏,‏ علما علي أعمال هؤلاء الرواد الذين أثروا‏,‏وخصوصا شتراوس‏,‏ تأثيرا كبيرا في ثورة الشباب‏(‏ الطلابية‏)‏ التي كانت قد اجتاحت العالم عام‏1968‏ م‏.‏ غير أن البنيوية في الحقيقة‏,‏ ليست مذهبا فلسفيا موجبا يقول بأشياء وأفكار بقدر ما أنها منهج للنظر والتحليل‏.‏وبالطبع‏,‏ ليس شتراوس الأول ولا هو الوحيد الذي أشار إلي السمة البنيوية للظواهر الاجتماعية ولكن الجديد فيه أنه أخذها بشكل جدي واستخرج منها كل النتائج المنطقية المترتبة عليها‏,‏ حتي أن اسمها بدا في بعض عناوين كتبه مثل البني الأولية للقرابة الصادر عام‏(1949),‏ أو الأنثروبولوجيا البنوية بجزئيه الصادرين‏1958‏ و‏1973‏ فكان التزامه بالبنيوية صريحا ومطلقا‏.‏أما جوهر التجديد الذي أتي به شتراوس فهو حل معضلة التناقض بين الطبيعة البشرية الواحدة من جهة‏,‏ وبين التعددية الثقافية‏,‏ وإثبات الوحدة الفكرية للجنس البشري في آن واحد‏,‏ ومؤكدا أن الثقافات لم تتطور استجابة للحاجات الخارجية فقط بل تطورت ـ بشكل أعمق ـ طبقا للضوابط الداخلية في الذهن البشري‏,‏ متحديا في ذلك الهيمنة المتطرفة للمدارس التجريبية التي كانت سائدة آنذاك مثل السلوكية في علم النفس والنسبية الثقافية في الأنثروبولوجيا‏,‏ولذا كان تأثيره الواسع في فكر القرن العشرين رغم توقفه عن الكتابة والبحث منذ عام‏1991‏ م حين أصدر آخر أعماله حكاية القط البري‏.‏

كان شتراوس يهودي الأصل‏,‏ غير ممارس للطقوس طبعا‏,‏ بل طالما أعلن إعجابه بالديانات الطبيعية للشرق الأقصي الآسيوي وخصوصا الشنتوية اليابانية‏,‏ وبرغم أنه لم يبد أي نوع من التعاطف مع الحركة الصهيونية‏,‏ فإنه اعتبر إسرائيل أمرا إيجابيا لكونها حملة صليبية ناجحة للغرب ضد الشرق‏,‏ وربما لهذا الفهم اعتبره اليمين الأمريكي المحافظ مصدر إلهام‏.‏




الاهرام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق