كثيرا مايطالعنا العلماء بأخبار عن علاجات جديدة أفضل من سابقتها في التعامل مع أعراض المرض وليس مسبباته وفي رصدهم لخلل جيني يؤدي لحدوث مرض مزمن. لكن إذا كان فهمنا للأعراض ومسبباتها الجينية بهذه الدقة والوضوح, فما هو السبب وراء هذا الخلل الجيني والذي أدي للإصابة بأمراض مثل السكر أو السرطان؟ ذلك هو السؤال الذي لا نحصل له علي إجابة, إما لأن ما حجم معرفتنا مازال محدودا أو ربما لأننا لا نفكر خارج الإطار النمطي.كانت هذه بعض الأفكار التي دارت في ذهني وأنا أستمع" لليبينج زاو" أستاذ الميكروبيولوجي ونائب عميد مركز أبحاث البيوتكنولوجي بجامعة شنجهاي بالصين, في محاضرة بالمعهد القومي لأمراض الكبد والأمراض المتوطنة, حين تحدث عن مجال حديث لتفسير الأمراض لا يعتمد علي الإنسان أو جيناته, بل علي الآخرين الذين يتعايشون معه, إنها الكائنات الدقيقة أو بكتيريا الأمعاء والتي لها دور كبير في الإصابة بالأمراض.وطبقا للعالم الصيني فإن أجسامنا بها مابين1 ـ2كجم من البكتيريا, وبالمقياس العددي فإن90% من الخلايا الموجودة بأجسامنا خلايا بكتيرية والنسبة الباقية خلايا آدمية, هذه الخلايا البكتيرية الموجودة في أمعاء الإنسان منها الضار والنافع, كما يعتمد معدل تكاثرها علي نوعية الطعام الذي نأكله وأسلوب حياتنا وحالتنا النفسية, وحتي لا يبدو الأمر نوعا من الخيال العلمي بدأ الدكتور زاو في استعراض العلاقة العلمية بين البكتيريا والإنسان طبقا للبحوث العلمية ومأثورات الطب الصيني.فبالنسبة للصينيين تعرف الأمعاء علي أنها بوابة الحياة, كما أن الطعام بالنسبة لهم بمثابة دواء يجب تناوله بمقدار وعلي فترات محددة وإلا تحول الي سموم بالجسم. وعالميا, فقد كان هناك اهتمام كبير بدورة حياة البكتيريا حتي تمكن الدكتور جوشوا لدربرج وهو في الثلاثين من عمره من رصد تزاوج البكتيريا وقدرتها علي تبادل الصفات الوراثية, وهو ما حصل بمقتضاه علي جائزة نوبل في الطب عام1958, كما انهمك العلماء لسنوات طويلة في دراسة الجينوم البشري بدءا من أبحاث العالمين البريطانيين واتسون وكريك اللذين قاما بتعريف الشريط الوراثي حتي رسم خريطة الجينوم البشري علي يد الدكتور كريج فنتر عام2000 والذي نجح مؤخرا في تصنيع أول خلية بكتيرية في المعمل.خلال هذه الحقبة الزمنية تفاوت اهتمام العلماء بتأثير الكائنات التي تعيش بأمعائنا والتي لها قدر كبير من الأهمية, كما يؤكد الدكتور سيبو سالمينين أستاذ علم الغذاء بجامعة تركو بفنلندا بقوله:" إذا كان آباؤنا هم المسئولين عن الصفات الوراثية التي نحملها فأمهاتنا مسئولات عن كم ونوعية البكتيريا التي تعيش في أمعائنا والتي تؤثر علي حالتنا الصحية"وطبقا لسالمينين فإنه علي مستوي المواليد هناك عوامل تؤثر علي نوعية وطبيعة بكتيريا الأمعاء مثل طبيعة الولادة والاعتماد علي اللبن الصناعي كبديل للرضاعة الطبيعية, لذلك تجري حاليا دراسات لتحسين نوعية البكتيريا بأمعاء المواليد بمنح الأمهات مكملات غذائية أثناء الحمل والرضاعة, بما يسهم في زيادة البكتيريا النافعة في أجسام الأطفال, والتي تحسن من حالتهم الصحية وتجنبهم الأمراض, لذا يتوقع الدكتور سالمينين زيادة الاهتمام المستقبلي في مجال طب الأطفال بنوعية مخرجات الأطفال والتي تسهم في رصد حالة بكتيريا الأمعاء وسبل الحفاظ عليها, لذلك, فإن العديد من الأبحاث موجهة في الوقت الراهن لفك الشفرة الوراثية لأكثر من500 نوع من البكتيريا بأمعائنا تتأثر بما نأكل وتؤثر بإفرازاتها علي وظائف الجسم وحالتنا الصحية, كما يصل مجمل عدد الجينات في مجملها الي3 ملايين جين.وطبقا لنتائج بعض الدراسات, فهناك فرضيات بأن بعض هذه السموم يؤثر علي الجهاز المناعي للجسم ويؤدي للإصابة بالسكر أو السمنة, والبعض الآخر منها يؤدي الي الإصابة بأنواع من السرطان كسرطان الأمعاء, وثالثة تؤدي الي زيادة معدل الشيخوخة, ورابعة تؤدي للإصابة بالأوتيزم أو بالأحري الذاتوية.ولأن مثل هذا المجال يحتاج للكثير من التجارب المعملية, استعرض الدكتور زاو بعض الدراسات الأولية علي الحيوانات, وذلك بتقسيمها إلي ثلاث مجموعات, حيث منح الأولي وجبات دسمة, والثانية نفس وجبات دسمة مع ممارسة بعض التمارين الرياضية, أما المجموعة الثالثة فمنحها وجبات صحية فقط, وبعد شهر من المتابعة تبين أن معدل حياة المجموعة الثالثة كان ضعف المجموعة الأولي.وسعيا للتأكيد علي نفس فرضيته, قام الدكتور زاو بإجراء عدة تجارب علي نفسه لإكثار البكتيريا النافعة وخفض نسب البكتيريا الضارة بأمعائه, وذلك باتباع نظام غذائي ورياضي خاص, وعلي مدي4 سنوات خفض زاو من وزنه من90 كجم الي73 كجم, كما رصد تحاليل الأمعاء علي عدة فترات وتبين أنه علي مدار الزمن اختفاء بعض البكتيريا التي يظن أنها كانت ضارة, كما ظهرت إفرازات لبكتيريا جديدة ونافعة لم تكن موجودة من قبل في التحليلات الأولي.أما عن النظام الغذائي الذي يقترحه الدكتور زاو لنمو بكتيريا الأمعاء النافعة بصورة أفضل فهو مختلف تماما عن الهرم الغذائي الشهير الذي توصي به الهيئات الدولية, حيث يعتمد برنامج زاو الغذائي علي أن تشمل وجبات الطعام اليومية بنسبة70% علي الحبوب بنسبة كبيرة مثل القمح والشوفان, علي ألا يكون مصنعا, والبقوليات مثل الفول والعدس الفاصوليا واللوبيا, يليها أن يتم الاعتماد علي الخضراوات والفواكه بنسبة20%, أما اللحوم والأسماك والطيور ومنتجاتها من ألبان وبيض وجبن, فكل هذه المجموعة يجب ألا تزيد نسبتها عن10% من وجباتنا اليومية.والطريف في الأمر, آخر ما استعرضه الدكتور زاو في نهاية محاضرته, حين أكد أن فهمنا للجينوم ساهم في وضع معدل افتراضي لعمر الإنسان, والذي من الممكن أن يصل الي150 عاما ـ كما يعتقد هو ـ دون الدخول في طور الأمراض المزمنة إلا في أواخر العمر, هذا ما يمكن فرضه نظريا, أما عمليا فإن البشر مقسمون لمجموعتين, الأولي تولد بصفات وراثية ضعيفة لاتسمح لها بالحياة لأكثر من بضع سنوات, أما المجموعة الثانية والتي تمثل الغالبية العظمي من سكان الأرض فهي التي تولد بصفات وراثية جيدة, إلا أن طبيعة حياتها تجعل من مرحلة الخمسينات من العمر هي المرحلة الفاصلة من العمر, والتي تتبعها الأمراض المزمنة والتي تؤدي الي انهيار الحالة الصحية والوفاة, لذلك من المهم الانتباه لهذه المرحلة الفاصلة من العمر والانتباه لنوعية ما نأكل وكيف نعامل بكتيريا أمعاءنا حتي نحيا بشكل أفضل.
الاهرام - أشرف أمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق