اتفقنا على الانتقال من إثارة المنبر إلى هدوء الحلقة
يبدو أن هذه السنة بالنسبة لى سنة توديع الأحباب، وفقدان إخوانى من العلماء الدعاة، أودعهم حبيبا بعد حبيب، وأرثيهم عالما بعد آخر، وما أقسى على الإنسان أن يودع أحبابه، وأن يرثى العلماء من رفاقه وإخوانه، ولا ريب أن فقد الأحبة ولا سيما فى حالة الشيخوخة المولية من أشد نوازل الدهر القاصمة، حتى قال الشاعر:شيئان لو بكت الدماء عليهماعيناى حتى يؤذنا بذهابلم يبلغا المعشار من حقيهمافقد الشباب وفُرقة الأحبابوخصوصا الفُرقة الطويلة، وليس هناك فُرقة أطول من فرقة الموت، فكل فرقة يؤمل بعدها رجوع، وإن طال المدى، كما قال الشاعروكل مسافر سيعود يوماإذا رزق السلامة والإياباإلا المسافر إلى الموت والقبر، فهو لن يعود فى هذه الدنيا.وأما رثاء العلماء الدعاة، فلا شك أنه من مصائب الأمة: أن تفقد علماءها الربانيين، الذين يحْدون الركب، ويقودون القافلة، ويحملون المصابيح، ليدلوا على الطريق الحائرين، ويضيئوا الدرب للسائرين، وخصوصا فى مفترقات الطرق، وعند غلبة الشبهات على الحجج البينات، وطغيان ظلمات الشهوات على نور العقول.حينذاك يفقد المجتمع ــ بفقد العلماء ــ الدليل الخبير فى قلب الصحراء، أو تفقد سفينة الأمة (البوصلة) وهى فى عرض البحر.أقول هذا بمناسبة توديعى لأخ حبيب، وهو فى الوقت نفسه، عالم ثبت، وداعية حجة، هو الأخ العلامة الشيخ الدكتور حسن عيسى عبدالظاهر، الذى وافته المنية يوم 16 شعبان 1431هـ، 28 يوليو 2010م، وصلَّى عليه إخوانه وتلامذته ومحبوه، ودفنوه بالدوحة، وشيعوه إلى قبره فيها.لقد عرَفتُ الشيخ حسن عيسى طالبا متفوقا فى كلية أصول الدين، بعدى بسنتين على ما أذكر، ثم عرَفته فى السجن الحربى.وقد عايش المحنة مع إخوانه صابرا مصابرا، راسخ القدم. وقد زرته فى زنزانته فى الدور الثانى بعد الانفراج أو فى أوائله، حيث غدا يُسمح للمعتقلين أن يزور بعضهم بعضا فى الزنازين، وكان هو فى زنزانة واحدة مع الكاتب الإسلامى المعروف الأستاذ محمد فتحى عثمان، حيث دار بيننا حديث حول مستقبل الدعوة، وقد اتفقنا على أن نبدأ بتعميق الفكر والعلم فى المرحلة التالية، وأن ننتقل من إثارة المنبر إلى هدوء الحلقة.وبعد تخرجه فى كلية أصول الدين، عُيِّن فى الأزهر، وانتدب للعمل فى مجمع البحوث الإسلامية، ثم أرسله الأزهر الشريف فى بعثة مع ثلاثة من إخوانه العلماء إلى أفريقيا، ونيجيريا وما حولها.وحين نزلت من قطر إلى مصر، بعد انقطاع تسع سنوات متصلة، وكان الشيخ حسن قد عاد من نيجيريا، ومن حسن حظى أنه كان يسكن قريبا منى فى حدائق شبرا، فكانت فرصة للتزاور وتعارف العائلتين، وهو رجل ودود حسن العشرة، هين لين، مع تواضع جم، وأدب رفيع، فلا غرو أن أحرص على الاقتراب منه، والاستعانة به، والاستفادة من علمه ودينه وخلقه. ولكنه فى هذا الوقت كان يقوم بنشاط دعوى وتعليمى كبير، ملأ عليه صباحه ومساءه، فقد عرفه الناس، وأضحوا يطلبونه من جهات شتى، وهو كما أعرفه لا يقول لأحد: لا. فهو يدعى ليخطب الجمعة، أو يلقى محاضرة أو يؤدى درسا، أو يشارك فى ندوة، فى إحدى المحافظات أو الجمعيات، فيستجيب لها، ويسافر ولا يتأخر عنها. وكان هذا النشاط الدعوى الشعبى المكثف من الشيخ حسن على حساب الانتهاء من بحثه أو أطروحته للدكتوراة، وقد نصحته، أن يعطى أهمية لرسالته ليفرغ منها، وقد مضى أكثر من سنة حتى اقتنع وعكف على إتمام رسالته، وما أسرع ما انتهى من أمرها والحمد لله.وكان الشيخ حسن بعد عودته من نيجيريا، يملك سيارة يسوقها ويتنقل بها، لإلقاء محاضراته، وممارسة أنشطته فى القاهرة، وكنت إذا حضرت فى الصيف، وضع نفسه وسيارته فى مساعدتى، حتى إن رجال المباحث استدعوه يوما، وسألوه: لماذا يضع نفسه فى عونى؟ فقال: إنها صداقة قديمة وهى صداقة فى الله، وهو يعتبرنى ضيفا عليه، ومن حقى عليه أن يساعدنى ما استطاع.وبعد حصول الشيخ حسن على الدكتوراة، وتعيينه مدرسا فى (كلية أصول الدين) بجامعة الأزهر، طلبته لينضم إلى أسرة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وذلك فى سنة 1978م، فسعدت به زميلا وصديقا وأخا كريما، وأستاذا ناجحا.وقد ظل سنوات طوالا يخطب الجمعة فى مسجد عرف بـ(مسجد إسحاق)، وكان له رواده ومتابعوه من جهات شتى من الدوحة، وكان علمه موثقا، موصولا بالكتاب والسنة، كما ظل سنين طويلة مداوما على درس الأربعاء فى مسجد الشيخ خالد بن حمد آل ثانى حفظه الله، الذى كان حريصا على حضور الدرس، وكان للشيخ حسن عنده منزلة ومكانة لعلمه ودينه، كما كان الشيخ رحمه الله قريبا إلى أهل قطر، محببا إليهم، ولا عجب أن حصل على الجنسية القطرية هو وأولاده.وقد ظل الشيخ حسن عيسى عبدالظاهر حاملا لواء الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى أصابه المرض، وأقعده لعدة سنوات، وقد كنت حريصا على زيارته والاطمئنان عليه بين الحين والآخر، ونرجو أن يكون ذلك كفارة له، وزيادة فى حسناته، ورفعة لدرجاته.ولقد اشترك الشيخ حسن فى تفسير القرآن مصورا فى حلقات، واستضافه برنامج الشريعة والحياة أكثر من مرة، وله مؤلفاته ومقالاته العديدة التى أثرى بها الساحة، وأعتقد أن الدكتور حسن ظل طول عمره يبحث ويكتب، ولكنه لم يكن ينشر إلا القليل، لشدة تحريه، وزيادة تدقيقه، لذلك قلَّ حظه فى النشر، لذلك أرجو من ابنه د. بكر، وابنته د. حنان، حفظهما الله، أن يبذلا ما يستطيعان، مستعينين ببعض تلامذة الشيخ ومحبيه للعمل على نشر الممكن من تراث الشيخ، بعد تجميعه وترتيبه، وفاء لحقه، وحق المسلمين فى علمه.رحم الله أخانا الشيخ حسن عيسى، وغفر له، وجزاه عن العلم والدعوة والإسلام خير ما يجزى العلماء الربانيين والدعاة الصادقين، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
اليوم السابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق