الخميس، 6 يناير 2011

العقل الإرهابي بين الأصولية والتطرف

السيد ياسين - الاهرام
منذ أكثر من عشر سنوات‏,‏ وفي خضم المعركة السياسية والفكرية ضد الجماعات الإسلامية الإرهابية التي خاضت في الإرهاب‏,‏ متمسحة في ذلك بتفسيرات مشوهة لبعض النصوص الإسلامية‏,‏ نشرت مقالا بعنوان أزمة العقل التقليدي‏.‏ وفي هذا المقال‏,‏ حاولت أن أقيم تقابلا بين العقل التقليدي والعقل العصري‏.‏
وقلت إنه يبرز في المرحلة الراهنة خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتي‏,‏ وهو يبسط رواقه علي مختلف جنبات المجتمع العربي‏.‏ وهذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة‏.‏ والسمات الأساسية للخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي‏,‏ وهذا الماضي المختارالمتخيل يختلف بحسب هوية منتج الخطاب‏.‏ وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع‏,‏ ولا يعترف بالتغيرات العالمية‏,‏ أو علي الأقل يحاول التهوين من شأنها‏,‏ أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها‏,‏ وبغير أن يعرف القوانين التي تحكمها‏.‏ ومن سماته إلقاء مسئولية القصور والانحراف علي القدر أو الضعف البشري أو علي الأعداء‏.‏ وهو في ذلك عادة ما يتبني نظرية تآمرية عن التاريخ‏,‏ وهو أخيرا ينزع ـ في بعض صوره البارزة ـ إلي اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها‏,‏ بغض النظر عن إمكانية التطبيق أو بعدها عن الواقع‏.‏أما الخطاب العصري فهو خطاب عقلاني‏,‏ يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي‏,‏ وعادة ما يتبني رؤية نقدية للفكر والمجتمع والعالم‏.‏ وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة‏,‏ يأخذ منها بلا عقد‏,‏ ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار‏,‏ والثقة بالنفس‏,‏ ولا يخضع لإغراء نظرية المؤامرة التاريخية الكبري‏,‏ كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة‏,‏ بالإضافة إلي أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة‏,‏ وأن السبيل لمعرفتها هو الحوار الفكري والتفاعل الحضاري‏,‏ ولا يدعو لمقاطعة العالم أو الانفصال عنه‏,‏ ولا يدعو إلي استخدام القوة والعنف‏,‏ ولا يمارس دعاته الإرهاب المادي أو الفكري‏.‏العقل التقليدي والعقل الإرهابيسجلت هذه الأفكار منذ عقد من السنين‏,‏ ومن هذا التاريخ جرت تحت الجسر مياه كثيرة‏!‏ فقد استفحلت ظاهرة الإرهاب‏,‏ وانتشر في طول البلاد الإسلامية والعربية وعرضها‏,‏ بالرغم من اختلاف النظم السياسية‏,‏ وما لبث الإرهاب أن قفز في المجهول قفزة كبري حين انطلق ليهاجم مراكز القوة في النظام الأمريكي‏,‏ وذلك في الأحداث الشهيرة التي وقعت ضد الولايات المتحدة الأمريكية في‏11‏ سبتمبر‏.1002‏ومن ناحية أخري‏,‏ انتشرت في نطاق مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ظاهرة تفجير المقاومين لأنفسهم‏,‏ فيما أطلق عليها العمليات الانتحارية في قول‏,‏ والعمليات الاستشهادية في قول آخر‏.‏ وما لبث هذا الأسلوب أن انتقل من نطاق المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي‏,‏ إلي ميادين أخري ليس فيها أعداء إسرائيليون‏,‏ وإنما مواطنون عاديون‏,‏ مثلما حدث في حادث حي الأزهر في مصر‏,‏ حيث فجر شاب مصري يافع نفسه‏,‏ وأدي انفجار القنبلة إلي مصرع عدد من الأجانب والمصريين‏,‏ وجرح عشرات المواطنين المصريين‏,‏ وكما حدث أخيرا في الإسكندرية في تفجير كنيسة القديسين‏.‏وهكذا نجد أنفسنا اليوم في مجال العلم الاجتماعي المهتم بالعنف والإرهاب‏,‏ لتحديد الأسباب وبيان استراتيجيات المقاومة‏.‏ لسنا أمام العقل التقليدي‏,‏ ولكن أمام ما يمكن أن نطلق عليه العقل الإرهابي‏.‏وبعد تأمل طويل في مسيرة الإرهاب الذي تمارسه علي وجه الخصوص الجماعات المتأسلمة‏(‏ أي التي ترفع زورا وبهتانا أعلام الإسلام‏),‏ والتي يمكن لتنظيم القاعدة أن يكون نموذجها البارز‏,‏ أدركت أن العقل التقليدي هو الذي يمهد الطريق لنشأة العقل الإرهابي الذي يدفع صاحبه للفعل‏.‏ وذلك لأن العقل التقليدي يتسم أساسا بأنه ينطلق من رؤية مغلقة للعالم‏.‏ وفي تقديرنا أن مفهوم رؤية العالم الذي أصبح من المفاهيم الرئيسية في التحليل الثقافي‏,‏ هو مفتاح فهم أسباب الإرهاب الحقيقية‏.‏لقد نحينا جانبا في دراساتنا الماضية المنهج الاختزالي الذي يحصر الأسباب في الفقر أو القهر السياسي‏,‏ علي أساس أن إرهابيين عديدين ينحدرون من أصول طبقية غنية‏,‏ بالإضافة إلي أنه ليس كل مواطن عربي يخضع للقهر السياسي يمكن أن يتحول ـ هكذا ببساطة ـ إلي إرهابي‏!‏غير أن التفسير يكمن في أن هناك جماعات تتولي غسيل مخ الشباب علي وجه التحديد‏,‏ وتمدهم برؤية تقليدية متزمتة للعالم‏.‏ وإذا كان التعريف المعتمد لرؤية العالم أنها النظرة للكون والمجتمع والإنسان‏,‏ فإن هذه الجماعات لديها نظرياتها وشروحها الدينية التي تنظر للكون والمجتمع والإنسان نظرات خاصة‏.‏ وربما كانت نظرية الحاكمية التي تذهب إلي أن الحاكمية لله وليست للبشر‏,‏ بالإضافة إلي تكفير العربي والإسلامي‏,‏ ونعت المواطنين بأنهم منحرفون عن مقاصد الدين الحقيقية‏,‏ بالإضافة إلي الكراهية العميقة للأجانب باعتبارهم كفارا وملحدين‏,‏ وأنهم يشنون حربا صليبية ضد دار الإسلام‏,‏ مما يدعو إلي الجهاد ضدهم‏,‏ هي الملامح الرئيسية لرؤية العالم التقليدية المتزمتة‏,‏ التي هي المقدمة الضرورية لتشكيل العقل الإرهابي‏.‏ وحين وصلت في تفكيري إلي هذه النتائج تساءلت‏:‏ هل فكرة العقل الإرهابي متداولة في إطار العلم الاجتماعي المهتم بدراسات العنف والإرهاب أم لا؟وحين حاولت التماس الإجابة في شبكة الإنترنت‏,‏ فوجئت حقا بأن مفهوم العقل الإرهابي يستخدم بكثرة في الكتابات العلمية التي تحاول تأصيل أسباب الإرهاب‏.‏وأكثر من ذلك‏,‏ فوجئت بمقالتين أحداهما للفيلسوف الفرنسي الشهير بودريار وهو من رواد حركة ما بعد الحداثة‏,‏ عنوانها عقل الإرهاب‏,‏ والأخري للكاتب الفرنسي المعروف آلان مينك وعنوانها إرهاب العقل‏.‏ وساعتها أدركت أنني باستخدام مفهوم العقل الإرهابي للدلالة علي عقل خاص له سمات فارقة تميزه حتي عن العقل التقليدي والعقل العصري‏,‏ اللذين ألمحنا من قبل إلي سماتهما الرئيسية‏,‏ ليس بعيدا عن لغة العلم الاجتماعي المعاصر‏.‏الجذر الأصولي للعقل الإرهابيوإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدي هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابي‏,‏ الذي يدفع الشخص لارتكاب الأفعال الإرهابية علي أساس أنها جهاد في سبيل الله‏,‏ فإن هذا العقل التقليدي لا تفهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلي أصل واحد هو الأصولية‏.‏ ونحن لا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعني الإيجابي للكلمة‏,‏ ونعني العودة إلي المبادئ الأساسية للدين التي تتسم بالنقاء بعيدا عن ثرثرة الهوامش في عصور الانحطاط‏,‏ والتهافت الفكري والجمود المذهبي للحواشي التي كتبت شرحا للأصول‏,‏ ولكننا نستخدمها بمفهوم الجمود العقائدي والتزمت الفكري‏.‏وقد أبرز الكاتب المغربي المعروف علي أومليل في بحث له بعنوان حوار الثقافات‏:‏ العوائق والآفاق‏,‏ هذه المعاني السلبية للأصولية‏.(‏ نشر البحث في أعمال ندوة حوار الثقافات‏:‏ هل هو ممكن؟ التي عقدت في الرباط في يناير‏3002).‏فقد استطاع أومليل ببراعة ومن خلال تتبعه التاريخي للمواجهة التي تمت بين العالم العربي والعالم الأوروبي في بداية النهضة العربية الأولي‏,‏ أن يبرز تبلور الإدراك العربي بأن وراء تفوق العسكرية الأوروبية تفوقا في تنظيم الاقتصاد والمجتمع والدولة‏,‏ وأيضا تفوقا علميا وتكنولوجيا‏.‏ وأن وراء كل منظومة التقدم الغربي قيما ومبادئ‏,‏ كالتربية علي الحرية والمساواة‏,‏ وحق الشعب في اختيار حكامه‏,‏ وحرية التعبير والصحافة‏,‏ وسيادة القانون والمساواة أمامه‏.‏غير أنه إزاء ظاهرة التقدم الغربي تبلور وعي مزدوج تجاه الغرب‏,‏ فهناك إعجاب بمظاهر تقدمه‏,‏ لكن هناك أيضا الغرب الاستعماري المزدوج المعايير‏.‏ فهو يضمن الحرية لمواطنيه ويحرمها علي الشعوب التي يستبعدها‏.‏وقد سبق لنا أن عبرنا عن هذه الفكرة نفسها في بحث لنا بعنوان‏(‏ الغرب باعتباره النموذج وباعتباره العقبة‏),‏ قدم لمؤتمر اللقاء الحضاري بين الثقافة العربية والثقافة الغربية الذي نظمه معهد إبالمو في إيطاليا منذ سنوات بعيدة‏,‏ وشاركت فيه نخبة من المفكرين العرب والغربيين‏.‏وقد كان أومليل موفقا حين ربط بين توحش الدولة السلطوية العربية ونزعة تيار الإسلام السياسي لرفض الحداثة‏,‏ والوقوع في فخ العقل التقليدي بكل رؤاه الرافضة والمتزمتة‏.‏وذلك علي أساس أن فشل الدولة السلطوية في تحقيق تنميتها المزعومة ينتج عنه نوعان من رد الفعل‏:‏ الأول ذهب إلي أنه لا تنمية حقيقية بغير تنمية سياسية ديمقراطية أساسها حقوق الإنسان‏.‏ والثاني هو رفض الحداثة بما فيها الحداثة السياسية والتي أساسها الديمقراطية‏.‏ وهذا هو موقف الإسلام السياسي الذي تمثله الأصولية‏.‏ويقول أومليل في شرح هذا الاتجاه إنه مادامت التنمية ـ نظريا ـ هي طريق إلي الحداثة‏,‏ ومادامت الدولة السلطوية قد فشلت في تحديث المجتمع‏,‏ فقد كفر الإسلام السياسي بالتنمية والحداثة معا‏!‏ويضيف أن فكر الأصوليين دار خارج إشكالية الحداثة‏,‏ ذلك لأن التفكير في التنمية هو تفكير بالزمان والتاريخ‏,‏ أما فكر الأصوليين‏,‏ فهو فكر لا زماني ولا تاريخي‏,‏ لأنه تفكير في نص مقدس تفكيرا خارج الزمان‏.‏والأصولي يرفض الحداثة ـ كما يقرر أومليل ـ لأنها تغريب بمعنيين‏:‏ أولا لأنها تغريب بالإسلام‏,‏ إذ يصبح غريبا بين أهله‏,‏ وثانيا‏:‏ لأنها اقتداء بالغرب‏.‏والإسلام بالنسبة للفكر الأصولي المتشدد هو يرفض أي حوار بين الحضارات‏,‏ بل إنه ينضم للأصوات العنصرية في الغرب التي تدعو للصراع بين الحضارات‏.‏ والإسلام في هذا الفكر الأصولي ينبغي أن يسود ليس بالدعوة فحسب‏,‏ إنما بالجهاد أيضا‏,‏ والذي يعني فرض فكرة الدين بالعنف والإرهاب‏.‏ وهكذا تتبني الصلات العضوية الوثيقة بين العقل التقليدي الأصولي والعقل الإرهابي‏.‏ولو قرأنا النصوص التي أنتجها الأصوليون المتشددون في الجماعات الإسلامية المختلفة‏,‏ لأدركنا أن عنف الخطاب لا يعادله عندهم إلا عنف الإرهاب‏.‏سجلت هذه الأفكار الأساسية ونشرتها منذ سنوات‏,‏ ولم أجد بأسا في إعادة صياغتها اليوم بمناسبة الواقعة البالغة الخطورة‏,‏ والتي تتمثل في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية‏,‏ لأن هذا العمل الإرهابي باستهدافه كنيسة للأقباط إنما يحاول تفجير الوحدة الوطنية المصرية‏,‏ وتمزيق نسيج التعايش الإسلامي القبطي‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق