منذ أكثر من عشر سنوات, وفي خضم المعركة السياسية والفكرية ضد الجماعات الإسلامية الإرهابية التي خاضت في الإرهاب, متمسحة في ذلك بتفسيرات مشوهة لبعض النصوص الإسلامية, نشرت مقالا بعنوان أزمة العقل التقليدي. وفي هذا المقال, حاولت أن أقيم تقابلا بين العقل التقليدي والعقل العصري.
وقلت إنه يبرز في المرحلة الراهنة خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتي, وهو يبسط رواقه علي مختلف جنبات المجتمع العربي. وهذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. والسمات الأساسية للخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي, وهذا الماضي المختارالمتخيل يختلف بحسب هوية منتج الخطاب. وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع, ولا يعترف بالتغيرات العالمية, أو علي الأقل يحاول التهوين من شأنها, أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها, وبغير أن يعرف القوانين التي تحكمها. ومن سماته إلقاء مسئولية القصور والانحراف علي القدر أو الضعف البشري أو علي الأعداء. وهو في ذلك عادة ما يتبني نظرية تآمرية عن التاريخ, وهو أخيرا ينزع ـ في بعض صوره البارزة ـ إلي اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها, بغض النظر عن إمكانية التطبيق أو بعدها عن الواقع.أما الخطاب العصري فهو خطاب عقلاني, يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي, وعادة ما يتبني رؤية نقدية للفكر والمجتمع والعالم. وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة, يأخذ منها بلا عقد, ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار, والثقة بالنفس, ولا يخضع لإغراء نظرية المؤامرة التاريخية الكبري, كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة, بالإضافة إلي أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة, وأن السبيل لمعرفتها هو الحوار الفكري والتفاعل الحضاري, ولا يدعو لمقاطعة العالم أو الانفصال عنه, ولا يدعو إلي استخدام القوة والعنف, ولا يمارس دعاته الإرهاب المادي أو الفكري.العقل التقليدي والعقل الإرهابيسجلت هذه الأفكار منذ عقد من السنين, ومن هذا التاريخ جرت تحت الجسر مياه كثيرة! فقد استفحلت ظاهرة الإرهاب, وانتشر في طول البلاد الإسلامية والعربية وعرضها, بالرغم من اختلاف النظم السياسية, وما لبث الإرهاب أن قفز في المجهول قفزة كبري حين انطلق ليهاجم مراكز القوة في النظام الأمريكي, وذلك في الأحداث الشهيرة التي وقعت ضد الولايات المتحدة الأمريكية في11 سبتمبر.1002ومن ناحية أخري, انتشرت في نطاق مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ظاهرة تفجير المقاومين لأنفسهم, فيما أطلق عليها العمليات الانتحارية في قول, والعمليات الاستشهادية في قول آخر. وما لبث هذا الأسلوب أن انتقل من نطاق المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي, إلي ميادين أخري ليس فيها أعداء إسرائيليون, وإنما مواطنون عاديون, مثلما حدث في حادث حي الأزهر في مصر, حيث فجر شاب مصري يافع نفسه, وأدي انفجار القنبلة إلي مصرع عدد من الأجانب والمصريين, وجرح عشرات المواطنين المصريين, وكما حدث أخيرا في الإسكندرية في تفجير كنيسة القديسين.وهكذا نجد أنفسنا اليوم في مجال العلم الاجتماعي المهتم بالعنف والإرهاب, لتحديد الأسباب وبيان استراتيجيات المقاومة. لسنا أمام العقل التقليدي, ولكن أمام ما يمكن أن نطلق عليه العقل الإرهابي.وبعد تأمل طويل في مسيرة الإرهاب الذي تمارسه علي وجه الخصوص الجماعات المتأسلمة( أي التي ترفع زورا وبهتانا أعلام الإسلام), والتي يمكن لتنظيم القاعدة أن يكون نموذجها البارز, أدركت أن العقل التقليدي هو الذي يمهد الطريق لنشأة العقل الإرهابي الذي يدفع صاحبه للفعل. وذلك لأن العقل التقليدي يتسم أساسا بأنه ينطلق من رؤية مغلقة للعالم. وفي تقديرنا أن مفهوم رؤية العالم الذي أصبح من المفاهيم الرئيسية في التحليل الثقافي, هو مفتاح فهم أسباب الإرهاب الحقيقية.لقد نحينا جانبا في دراساتنا الماضية المنهج الاختزالي الذي يحصر الأسباب في الفقر أو القهر السياسي, علي أساس أن إرهابيين عديدين ينحدرون من أصول طبقية غنية, بالإضافة إلي أنه ليس كل مواطن عربي يخضع للقهر السياسي يمكن أن يتحول ـ هكذا ببساطة ـ إلي إرهابي!غير أن التفسير يكمن في أن هناك جماعات تتولي غسيل مخ الشباب علي وجه التحديد, وتمدهم برؤية تقليدية متزمتة للعالم. وإذا كان التعريف المعتمد لرؤية العالم أنها النظرة للكون والمجتمع والإنسان, فإن هذه الجماعات لديها نظرياتها وشروحها الدينية التي تنظر للكون والمجتمع والإنسان نظرات خاصة. وربما كانت نظرية الحاكمية التي تذهب إلي أن الحاكمية لله وليست للبشر, بالإضافة إلي تكفير العربي والإسلامي, ونعت المواطنين بأنهم منحرفون عن مقاصد الدين الحقيقية, بالإضافة إلي الكراهية العميقة للأجانب باعتبارهم كفارا وملحدين, وأنهم يشنون حربا صليبية ضد دار الإسلام, مما يدعو إلي الجهاد ضدهم, هي الملامح الرئيسية لرؤية العالم التقليدية المتزمتة, التي هي المقدمة الضرورية لتشكيل العقل الإرهابي. وحين وصلت في تفكيري إلي هذه النتائج تساءلت: هل فكرة العقل الإرهابي متداولة في إطار العلم الاجتماعي المهتم بدراسات العنف والإرهاب أم لا؟وحين حاولت التماس الإجابة في شبكة الإنترنت, فوجئت حقا بأن مفهوم العقل الإرهابي يستخدم بكثرة في الكتابات العلمية التي تحاول تأصيل أسباب الإرهاب.وأكثر من ذلك, فوجئت بمقالتين أحداهما للفيلسوف الفرنسي الشهير بودريار وهو من رواد حركة ما بعد الحداثة, عنوانها عقل الإرهاب, والأخري للكاتب الفرنسي المعروف آلان مينك وعنوانها إرهاب العقل. وساعتها أدركت أنني باستخدام مفهوم العقل الإرهابي للدلالة علي عقل خاص له سمات فارقة تميزه حتي عن العقل التقليدي والعقل العصري, اللذين ألمحنا من قبل إلي سماتهما الرئيسية, ليس بعيدا عن لغة العلم الاجتماعي المعاصر.الجذر الأصولي للعقل الإرهابيوإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدي هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابي, الذي يدفع الشخص لارتكاب الأفعال الإرهابية علي أساس أنها جهاد في سبيل الله, فإن هذا العقل التقليدي لا تفهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلي أصل واحد هو الأصولية. ونحن لا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعني الإيجابي للكلمة, ونعني العودة إلي المبادئ الأساسية للدين التي تتسم بالنقاء بعيدا عن ثرثرة الهوامش في عصور الانحطاط, والتهافت الفكري والجمود المذهبي للحواشي التي كتبت شرحا للأصول, ولكننا نستخدمها بمفهوم الجمود العقائدي والتزمت الفكري.وقد أبرز الكاتب المغربي المعروف علي أومليل في بحث له بعنوان حوار الثقافات: العوائق والآفاق, هذه المعاني السلبية للأصولية.( نشر البحث في أعمال ندوة حوار الثقافات: هل هو ممكن؟ التي عقدت في الرباط في يناير3002).فقد استطاع أومليل ببراعة ومن خلال تتبعه التاريخي للمواجهة التي تمت بين العالم العربي والعالم الأوروبي في بداية النهضة العربية الأولي, أن يبرز تبلور الإدراك العربي بأن وراء تفوق العسكرية الأوروبية تفوقا في تنظيم الاقتصاد والمجتمع والدولة, وأيضا تفوقا علميا وتكنولوجيا. وأن وراء كل منظومة التقدم الغربي قيما ومبادئ, كالتربية علي الحرية والمساواة, وحق الشعب في اختيار حكامه, وحرية التعبير والصحافة, وسيادة القانون والمساواة أمامه.غير أنه إزاء ظاهرة التقدم الغربي تبلور وعي مزدوج تجاه الغرب, فهناك إعجاب بمظاهر تقدمه, لكن هناك أيضا الغرب الاستعماري المزدوج المعايير. فهو يضمن الحرية لمواطنيه ويحرمها علي الشعوب التي يستبعدها.وقد سبق لنا أن عبرنا عن هذه الفكرة نفسها في بحث لنا بعنوان( الغرب باعتباره النموذج وباعتباره العقبة), قدم لمؤتمر اللقاء الحضاري بين الثقافة العربية والثقافة الغربية الذي نظمه معهد إبالمو في إيطاليا منذ سنوات بعيدة, وشاركت فيه نخبة من المفكرين العرب والغربيين.وقد كان أومليل موفقا حين ربط بين توحش الدولة السلطوية العربية ونزعة تيار الإسلام السياسي لرفض الحداثة, والوقوع في فخ العقل التقليدي بكل رؤاه الرافضة والمتزمتة.وذلك علي أساس أن فشل الدولة السلطوية في تحقيق تنميتها المزعومة ينتج عنه نوعان من رد الفعل: الأول ذهب إلي أنه لا تنمية حقيقية بغير تنمية سياسية ديمقراطية أساسها حقوق الإنسان. والثاني هو رفض الحداثة بما فيها الحداثة السياسية والتي أساسها الديمقراطية. وهذا هو موقف الإسلام السياسي الذي تمثله الأصولية.ويقول أومليل في شرح هذا الاتجاه إنه مادامت التنمية ـ نظريا ـ هي طريق إلي الحداثة, ومادامت الدولة السلطوية قد فشلت في تحديث المجتمع, فقد كفر الإسلام السياسي بالتنمية والحداثة معا!ويضيف أن فكر الأصوليين دار خارج إشكالية الحداثة, ذلك لأن التفكير في التنمية هو تفكير بالزمان والتاريخ, أما فكر الأصوليين, فهو فكر لا زماني ولا تاريخي, لأنه تفكير في نص مقدس تفكيرا خارج الزمان.والأصولي يرفض الحداثة ـ كما يقرر أومليل ـ لأنها تغريب بمعنيين: أولا لأنها تغريب بالإسلام, إذ يصبح غريبا بين أهله, وثانيا: لأنها اقتداء بالغرب.والإسلام بالنسبة للفكر الأصولي المتشدد هو يرفض أي حوار بين الحضارات, بل إنه ينضم للأصوات العنصرية في الغرب التي تدعو للصراع بين الحضارات. والإسلام في هذا الفكر الأصولي ينبغي أن يسود ليس بالدعوة فحسب, إنما بالجهاد أيضا, والذي يعني فرض فكرة الدين بالعنف والإرهاب. وهكذا تتبني الصلات العضوية الوثيقة بين العقل التقليدي الأصولي والعقل الإرهابي.ولو قرأنا النصوص التي أنتجها الأصوليون المتشددون في الجماعات الإسلامية المختلفة, لأدركنا أن عنف الخطاب لا يعادله عندهم إلا عنف الإرهاب.سجلت هذه الأفكار الأساسية ونشرتها منذ سنوات, ولم أجد بأسا في إعادة صياغتها اليوم بمناسبة الواقعة البالغة الخطورة, والتي تتمثل في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية, لأن هذا العمل الإرهابي باستهدافه كنيسة للأقباط إنما يحاول تفجير الوحدة الوطنية المصرية, وتمزيق نسيج التعايش الإسلامي القبطي.
وقلت إنه يبرز في المرحلة الراهنة خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتي, وهو يبسط رواقه علي مختلف جنبات المجتمع العربي. وهذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. والسمات الأساسية للخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي, وهذا الماضي المختارالمتخيل يختلف بحسب هوية منتج الخطاب. وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع, ولا يعترف بالتغيرات العالمية, أو علي الأقل يحاول التهوين من شأنها, أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها, وبغير أن يعرف القوانين التي تحكمها. ومن سماته إلقاء مسئولية القصور والانحراف علي القدر أو الضعف البشري أو علي الأعداء. وهو في ذلك عادة ما يتبني نظرية تآمرية عن التاريخ, وهو أخيرا ينزع ـ في بعض صوره البارزة ـ إلي اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها, بغض النظر عن إمكانية التطبيق أو بعدها عن الواقع.أما الخطاب العصري فهو خطاب عقلاني, يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي, وعادة ما يتبني رؤية نقدية للفكر والمجتمع والعالم. وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة, يأخذ منها بلا عقد, ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار, والثقة بالنفس, ولا يخضع لإغراء نظرية المؤامرة التاريخية الكبري, كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة, بالإضافة إلي أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة, وأن السبيل لمعرفتها هو الحوار الفكري والتفاعل الحضاري, ولا يدعو لمقاطعة العالم أو الانفصال عنه, ولا يدعو إلي استخدام القوة والعنف, ولا يمارس دعاته الإرهاب المادي أو الفكري.العقل التقليدي والعقل الإرهابيسجلت هذه الأفكار منذ عقد من السنين, ومن هذا التاريخ جرت تحت الجسر مياه كثيرة! فقد استفحلت ظاهرة الإرهاب, وانتشر في طول البلاد الإسلامية والعربية وعرضها, بالرغم من اختلاف النظم السياسية, وما لبث الإرهاب أن قفز في المجهول قفزة كبري حين انطلق ليهاجم مراكز القوة في النظام الأمريكي, وذلك في الأحداث الشهيرة التي وقعت ضد الولايات المتحدة الأمريكية في11 سبتمبر.1002ومن ناحية أخري, انتشرت في نطاق مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ظاهرة تفجير المقاومين لأنفسهم, فيما أطلق عليها العمليات الانتحارية في قول, والعمليات الاستشهادية في قول آخر. وما لبث هذا الأسلوب أن انتقل من نطاق المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي, إلي ميادين أخري ليس فيها أعداء إسرائيليون, وإنما مواطنون عاديون, مثلما حدث في حادث حي الأزهر في مصر, حيث فجر شاب مصري يافع نفسه, وأدي انفجار القنبلة إلي مصرع عدد من الأجانب والمصريين, وجرح عشرات المواطنين المصريين, وكما حدث أخيرا في الإسكندرية في تفجير كنيسة القديسين.وهكذا نجد أنفسنا اليوم في مجال العلم الاجتماعي المهتم بالعنف والإرهاب, لتحديد الأسباب وبيان استراتيجيات المقاومة. لسنا أمام العقل التقليدي, ولكن أمام ما يمكن أن نطلق عليه العقل الإرهابي.وبعد تأمل طويل في مسيرة الإرهاب الذي تمارسه علي وجه الخصوص الجماعات المتأسلمة( أي التي ترفع زورا وبهتانا أعلام الإسلام), والتي يمكن لتنظيم القاعدة أن يكون نموذجها البارز, أدركت أن العقل التقليدي هو الذي يمهد الطريق لنشأة العقل الإرهابي الذي يدفع صاحبه للفعل. وذلك لأن العقل التقليدي يتسم أساسا بأنه ينطلق من رؤية مغلقة للعالم. وفي تقديرنا أن مفهوم رؤية العالم الذي أصبح من المفاهيم الرئيسية في التحليل الثقافي, هو مفتاح فهم أسباب الإرهاب الحقيقية.لقد نحينا جانبا في دراساتنا الماضية المنهج الاختزالي الذي يحصر الأسباب في الفقر أو القهر السياسي, علي أساس أن إرهابيين عديدين ينحدرون من أصول طبقية غنية, بالإضافة إلي أنه ليس كل مواطن عربي يخضع للقهر السياسي يمكن أن يتحول ـ هكذا ببساطة ـ إلي إرهابي!غير أن التفسير يكمن في أن هناك جماعات تتولي غسيل مخ الشباب علي وجه التحديد, وتمدهم برؤية تقليدية متزمتة للعالم. وإذا كان التعريف المعتمد لرؤية العالم أنها النظرة للكون والمجتمع والإنسان, فإن هذه الجماعات لديها نظرياتها وشروحها الدينية التي تنظر للكون والمجتمع والإنسان نظرات خاصة. وربما كانت نظرية الحاكمية التي تذهب إلي أن الحاكمية لله وليست للبشر, بالإضافة إلي تكفير العربي والإسلامي, ونعت المواطنين بأنهم منحرفون عن مقاصد الدين الحقيقية, بالإضافة إلي الكراهية العميقة للأجانب باعتبارهم كفارا وملحدين, وأنهم يشنون حربا صليبية ضد دار الإسلام, مما يدعو إلي الجهاد ضدهم, هي الملامح الرئيسية لرؤية العالم التقليدية المتزمتة, التي هي المقدمة الضرورية لتشكيل العقل الإرهابي. وحين وصلت في تفكيري إلي هذه النتائج تساءلت: هل فكرة العقل الإرهابي متداولة في إطار العلم الاجتماعي المهتم بدراسات العنف والإرهاب أم لا؟وحين حاولت التماس الإجابة في شبكة الإنترنت, فوجئت حقا بأن مفهوم العقل الإرهابي يستخدم بكثرة في الكتابات العلمية التي تحاول تأصيل أسباب الإرهاب.وأكثر من ذلك, فوجئت بمقالتين أحداهما للفيلسوف الفرنسي الشهير بودريار وهو من رواد حركة ما بعد الحداثة, عنوانها عقل الإرهاب, والأخري للكاتب الفرنسي المعروف آلان مينك وعنوانها إرهاب العقل. وساعتها أدركت أنني باستخدام مفهوم العقل الإرهابي للدلالة علي عقل خاص له سمات فارقة تميزه حتي عن العقل التقليدي والعقل العصري, اللذين ألمحنا من قبل إلي سماتهما الرئيسية, ليس بعيدا عن لغة العلم الاجتماعي المعاصر.الجذر الأصولي للعقل الإرهابيوإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدي هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابي, الذي يدفع الشخص لارتكاب الأفعال الإرهابية علي أساس أنها جهاد في سبيل الله, فإن هذا العقل التقليدي لا تفهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلي أصل واحد هو الأصولية. ونحن لا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعني الإيجابي للكلمة, ونعني العودة إلي المبادئ الأساسية للدين التي تتسم بالنقاء بعيدا عن ثرثرة الهوامش في عصور الانحطاط, والتهافت الفكري والجمود المذهبي للحواشي التي كتبت شرحا للأصول, ولكننا نستخدمها بمفهوم الجمود العقائدي والتزمت الفكري.وقد أبرز الكاتب المغربي المعروف علي أومليل في بحث له بعنوان حوار الثقافات: العوائق والآفاق, هذه المعاني السلبية للأصولية.( نشر البحث في أعمال ندوة حوار الثقافات: هل هو ممكن؟ التي عقدت في الرباط في يناير3002).فقد استطاع أومليل ببراعة ومن خلال تتبعه التاريخي للمواجهة التي تمت بين العالم العربي والعالم الأوروبي في بداية النهضة العربية الأولي, أن يبرز تبلور الإدراك العربي بأن وراء تفوق العسكرية الأوروبية تفوقا في تنظيم الاقتصاد والمجتمع والدولة, وأيضا تفوقا علميا وتكنولوجيا. وأن وراء كل منظومة التقدم الغربي قيما ومبادئ, كالتربية علي الحرية والمساواة, وحق الشعب في اختيار حكامه, وحرية التعبير والصحافة, وسيادة القانون والمساواة أمامه.غير أنه إزاء ظاهرة التقدم الغربي تبلور وعي مزدوج تجاه الغرب, فهناك إعجاب بمظاهر تقدمه, لكن هناك أيضا الغرب الاستعماري المزدوج المعايير. فهو يضمن الحرية لمواطنيه ويحرمها علي الشعوب التي يستبعدها.وقد سبق لنا أن عبرنا عن هذه الفكرة نفسها في بحث لنا بعنوان( الغرب باعتباره النموذج وباعتباره العقبة), قدم لمؤتمر اللقاء الحضاري بين الثقافة العربية والثقافة الغربية الذي نظمه معهد إبالمو في إيطاليا منذ سنوات بعيدة, وشاركت فيه نخبة من المفكرين العرب والغربيين.وقد كان أومليل موفقا حين ربط بين توحش الدولة السلطوية العربية ونزعة تيار الإسلام السياسي لرفض الحداثة, والوقوع في فخ العقل التقليدي بكل رؤاه الرافضة والمتزمتة.وذلك علي أساس أن فشل الدولة السلطوية في تحقيق تنميتها المزعومة ينتج عنه نوعان من رد الفعل: الأول ذهب إلي أنه لا تنمية حقيقية بغير تنمية سياسية ديمقراطية أساسها حقوق الإنسان. والثاني هو رفض الحداثة بما فيها الحداثة السياسية والتي أساسها الديمقراطية. وهذا هو موقف الإسلام السياسي الذي تمثله الأصولية.ويقول أومليل في شرح هذا الاتجاه إنه مادامت التنمية ـ نظريا ـ هي طريق إلي الحداثة, ومادامت الدولة السلطوية قد فشلت في تحديث المجتمع, فقد كفر الإسلام السياسي بالتنمية والحداثة معا!ويضيف أن فكر الأصوليين دار خارج إشكالية الحداثة, ذلك لأن التفكير في التنمية هو تفكير بالزمان والتاريخ, أما فكر الأصوليين, فهو فكر لا زماني ولا تاريخي, لأنه تفكير في نص مقدس تفكيرا خارج الزمان.والأصولي يرفض الحداثة ـ كما يقرر أومليل ـ لأنها تغريب بمعنيين: أولا لأنها تغريب بالإسلام, إذ يصبح غريبا بين أهله, وثانيا: لأنها اقتداء بالغرب.والإسلام بالنسبة للفكر الأصولي المتشدد هو يرفض أي حوار بين الحضارات, بل إنه ينضم للأصوات العنصرية في الغرب التي تدعو للصراع بين الحضارات. والإسلام في هذا الفكر الأصولي ينبغي أن يسود ليس بالدعوة فحسب, إنما بالجهاد أيضا, والذي يعني فرض فكرة الدين بالعنف والإرهاب. وهكذا تتبني الصلات العضوية الوثيقة بين العقل التقليدي الأصولي والعقل الإرهابي.ولو قرأنا النصوص التي أنتجها الأصوليون المتشددون في الجماعات الإسلامية المختلفة, لأدركنا أن عنف الخطاب لا يعادله عندهم إلا عنف الإرهاب.سجلت هذه الأفكار الأساسية ونشرتها منذ سنوات, ولم أجد بأسا في إعادة صياغتها اليوم بمناسبة الواقعة البالغة الخطورة, والتي تتمثل في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية, لأن هذا العمل الإرهابي باستهدافه كنيسة للأقباط إنما يحاول تفجير الوحدة الوطنية المصرية, وتمزيق نسيج التعايش الإسلامي القبطي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق