باختصار شديد: هل لسه الأغاني ممكنة ؟!
أسئلة تبدو الإجابة عليها حائرة مابين الانتفاضات والاعتصامات والثورات ورياح الحرية الجديدة التي تجتاح الشارع المصري في قلب ميدان التحرير وعاصفة مسرح البالون والانتحار السياسي في ماسبيرو ومحمد محمود والقصر العيني وأخيرا وليس آخرا الشيخ ريحان فضلا عن نزيف الدماء علي رصيف الشوارع العربية في تونس وليبيا وسوريا واليمن.
لكن الأمر المؤكد أن الأغنية بمختلف ألوانها( الوطني العاطفي الرومانسي الاجتماعي) تبقي ساحة رحبة للتنفيس عن مكنونات داخلية لجمهور يتعطش دوما لفضاء رحب من عوالم موسيقية تستطيع أن تنتزع ابتسامة أمل وتفاؤل قادمة من نبع صاف يمكن أن يريح الناس وسط الغبار والعشوائية التي صنعتها آثار المواجهات الحادة في ربيع الثورات العربية.
وعلي حد قول الكثيرين من أهل الفن والغناء ستظل الأغنية وطنا للمحبين والحياري والحزاني في دنيا الهوي والغرام,وعشق الوطن, و يحضرني هنا قول الأديب الراحل الكبير صاحب نوبل نجيب محفوظ الذي قال بالحرف الواحد قبل رحيله بأيام: تستطيع الأغنية أن توحد الأمة العربية وتنقذه من براثن أفعال السياسة الحارقة.
صدق محفوظ حين قال ذلك, فالأغنية فعلا إن صدقت وخاطبت القلب والوجدان فإنها تصبح علاجا روحيا يخاطب شغاف النفوس وتقوي علي انتشالنا من أفعال السياسة العاصفة بالمشاعر والأوطان, ولاننسي أنها كانت وقودا وذخيرة حية للثورات العربية, كما شاهدنا في قلب الشوارع والميادين طوال الفترة الماضية, لتبقي الأغنية في النهاية وطنا وملاذا آمنا لكل الطامحين نحو الحرية والحب والآمن والسلام,عن مدي إمكانية الغناء حاليا كان التحقيق التالي فإليكم التفاصيل:
في البداية تقول المطربة الكبيرة سميرة سعيد التي تري في الأغنية وطنا حقيقيا كما عبرت عن ذلك في أغنيتها الرائعة وطني الغنا: بالطبع لسه الأغاني ممكنه,ولاغني عن الموسيقي والغناء في حياة الناس فالأغاني ليست متعة روحية فحسب بل هي قادرة علي تهذيب النفوس والمشاعر الإنسانية وإن جنحت نحو حالات الحزن والشجن فهي تقوي علي إيجاد دفقة شعورية تعيد الأمل وتجدد المشاعر. فالأغنية من أساسيات الحياة مثل الشراب والطعام والنوم, وتملك القدرة الحقيقية علي استخراجنا من حالات الكآبة مهما كانت سطوة الأحداث وغرابة المشاهد المؤسفة ودماء الحرية التي تسيل علي التراب العربي حاليا, لا لشيئ سوي أنها تخاطب المشاعر والأحاسيس المرهفة وتعزف علي أتار القلوب التواقة للعيش في أمان.
وتضيف سميرة: عندما غنيت وطني الغنا كنت أقصد تلك المعاني جميعها في صورة كلمات وجمل موسيقية كنت أغنيها باحساس خاص, بل كنت أشعر بأني مثل عصفور ينتقل مابين الاغصان في شوارعنا العربية بحثا عن الآمان المنشود والذي نفتقده حاليا, ولست مبالغة إذا قلت أني منذ طفولتي وأنا أغني طربا وفرحا وحتي حزنا دفينا كي أكون الناقل الرسمي لمشاعر الناس في قلب الزحمة وفي دنيا الرومانسية الحالمة, لأجد نفسي في النهاية واحدة من الذين ينتزعون الأشواك من نفوس عليلة كي نرتقي إلي عوالم روحية تستطيع أن تزرع الأمل في تفوس المحبين والثوار, وحتي البسطاء علي رصيف الحياة.
وتتفق المطربة لطيفة مع الديفا سميرة سعيد: وتضيف أن الحياة بدون غناء لا تطاق, فالغناء كما قال الشاعر الكبير جبران خليل جبران في رائعته أعطني الناي التي غنتها بعذوبة شديدة السيدة فيروز سر الوجود,فلا بد أن نغني لأن الغناء هو لغة التعبير, فالشخص الثوري يغني ويعبر عن تمرده بالغناء, والدليل أن كل الميادين التي قامت فيها الثورات كانت تتضمن الفرق الموسيقية التي تدندن وتغني للثوار, حتي في الحزن والشجن لا بد أن نغني, ولدي تجربة علي المستوي الشخصي فأنا ذهبت إلي عزاء رجل عزيز علي قلبي وغنيت دون أي وعي في العزاء وكنت أبكي بشدة.
أما الشاعر الغنائي بهاء الدين محمد صاحب أغنيتي( وطني الغنا) و( الغنا ماعدش يسعد لا اللي قايله ولا اللي سامعه) للرائعة أنغام يقول: مايحدث حاليا هو عبارة فترة شحن للمشاعر لكل كاتب أغنية, وسرعان ما تتحول تلك الشحنات إلي أعمال عظيمة لأن الشاعر او المبدع الحقيقي لايكتب أثناء التجربة بل بعدها, وما يجعلني صامتا الآن ان الرؤية لاتبدو واضحة في زحمة الأحداث السياسية المتلاحقة, خاصة أنه لايمكن إجراء عملية فرز حقيقي في ظل حالات الكذب العلني والعشوائية المصحوبة بغل شديد وسيادة منطق الجهل والصوت العالي الذي لايعبر عن مشاعر وطنية صادقة.
وأذكر في هذا الصدد أنه عندما كتبت أغنية الغنا( ماعدش يسعد لا اللي قايله ولا اللي سامعه) كانت تعبر عن وجهة نظري الشخصية في الغناء في حينه, لكنها تعبر الآن عن وجهة نظري في الناس, حيث لايسعدهم الغناء الحالي تماما كما لايسعدني في اللحظة الآنية.
ويضيف بهاء: منذ كتبت هذه الأغنية وانا احاول أكون صوت الناس الحقيقي, وأعبر عن مشاعرهم الصادقة تجاه الوطن والحالة الإنسانية واللحظة الرومانسية العفوية التي تخاطب الروح والوجدان وتلهب المشاعر الفياضة في النفس الإنسانية المتعبة, حتي تصبح الأغنية في النهاية وطنا يتسع للجميع وواحة أمن وآمان للبشر جميعا.
أما المطربة الشابة غادة رجب فتري أنه لايمكن لأحد في الكون ان يمنع الغناء الذي يعد غذاء الروح, كما لايمكن ان تمنع حريات الناس المطلقة في زمن مفتوح علي مصراعيه أمام ثورة الاتصالات المذهلة.
تضيف رجب: لاننسي أن مصر هي قبلة العرب في الفنون والثقافة, وعندما تأتي سيرة الأهرامات والنيل فإن ذلك يرتبط شرطيا بأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم, وغيرهم من أساطين الغناء الذين خلدوا التاريخ بأصواتهم التي عبرت عن مفردات الحياة اليومية للمصريين والعرب علي حد سواء.
ولن نجد خير ختام في نهاية تحقيقنا من كلام الكينج محمد منير صاحب أغنيتي لسه الأغاني ممكنه و أفرح أغني وأحزن أغني حيث يقول:
أحزن أغني... أفرح أغني
أتعب أغني... دايما أغني
دنيا دايرة غصب عني
في أيديه أيه غير أني أغني
هذه الكلمات التي تغنيت بها في أحد أفلامي السينمائية,تنطبق تماما علي حياتي,فأنا لا أملك سلاحا أعبر به عن نفسي غير الغناء.
وأتذكر أنه في عام1979 كنت مازلت في بداية مشواري الفني, وأثناء ذلك ماتت والدتي, وفي سرادق العزاء وبعد يوم كامل من العزاء, وبعد أن قل عدد المعزين في فترة العشاء,دخلت الحمام, وفي الحمام ضبطت نفسي متلبسا بالغناء,وظللت أدندن بحزن علموني عينيكي أسافر, وفجأة تنبهت أن هذا لا يصح خاصة أن والدتي ماتت من ساعات قليلة. وبعد نحو30 عاما تكرر نفس الموقف,فأثناء غنائي في حفلي الشهير في دار الأوبرا المصرية, تذكرت أثناء غنائي لأغنية لو كان لزاما علي شقيقي سمير الذي رحل قبل الحفل بيومين,فبكيت بشدة.
وفي رأيي ان الغناء تحريض, وليس تعليقا علي الأحداث,فالفنان صاحب رؤية أشمل وأكثر مستقبلية, ولقد حرضت الناس كثيرا بأغنياتي, فقد غنيت العديد من الأغاني التحريضية مثل الخواجة ابن ماريكا, التي كانت تحريضا علي المستعمر الأمريكي, لكن ماذا فعلنا منذ ظهرت هذه الأغنية وحتي اليوم ؟ ولا شئ!!, ماذا فعلت مؤسسات الاعلام والصحافة؟ لا شئ, ودوري الآن أن أنضم إلي صفوف المواطنين
المصدر : الاهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق