الثلاثاء، 5 يناير 2010

"جدد حياتك " لـ الغزالي .. تأصيل إسلامي لأسباب السعادة


كثيرا ما يحب الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة في حياته , ولكن يربط هذه البداية بموعد مع الأقدار المجهولة كتحسن في حالته أو تحول في مكانته , أو يقرنها بموسم معين أو بداية عام مثلا.. وهو في هذا التسويف يشعر بأن رافدا من روافد القوة قد يجئ فينشطه بعد خمول ، وهذا وهم ؛ فإن تجدد الحياة ينبع قبل كل شئ من داخل النفس.
والرجل المقبل على الحياة بعزيمة وبصر لا تخضعه الظروف المحيطة به مهما ساءت إنما هو الذي يستفيد بها ، كالزهرة التي تطمر تحت أكوام السبخ ثم هي تشق طريقها إلي أعلى مستقبلة أشعة الشمس.
كتب هذه الكلمات الإمام الجليل محمد الغزالي في رائعته الشهيرة " جدد حياتك " والذي نستعرض أفكاره المتجددة العصرية ، ومعروف أنه مأخوذ عن كتاب " دع القلق وابدأ الحياة " للكاتب الأمريكي ديل كارنيجي والذي نال شهرة كبيرة جعلت مبيعاته تحتل المرتبة الثالثة بعد القرآن الكريم والإنجيل ، ولكن المؤلف أخذ مادة الكتاب الغربي وردها لأصلها الإسلامي بحثا عن الأحق والأصدق في تأديب النفوس جميعا .
في المقدمة نقرأ : لا مكان لتريث. لا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب ؛ فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير. والحاضر ولو كان باسما أو كالحا هو وحده الدعائم التي يعتمد عليها مستقبلك. يقول صلي الله عليه وسلم "واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة. ولا يغترن أحدكم بحلم الله فإن الجنة والنار أقرب إلي أحدكم من شراك نعله".
عش في حدود يومك .. نصيحة تسمعها في الصفحات الأولى من الكتاب ؛ فمن أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله الطويل. حيث ينطلق تفكيره في خط لا نهاية له , وما أسرع ما تعترضه الأوهام والوساوس ، والواجب أن يستفتح الإنسان يومه وكأن اليوم عالم مستقل بما يحويه من زمان ومكان وكما يقول الخليل إبراهيم " اللهم هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك, واختمه لي بمغفرتك ورضوانك".يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "من أصبح آمنا في سربه , معافى في بدنه , عنده قوت يومه , فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" ، أما استعجال المصائب فهو خطأ وقد يكون أوهاما خلقها التشاؤم . على أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل أبدا أو ترك الإعداد , فهناك فارق كبير بين التيقظ في استغلال الحاضر وبين التوجس مما قد يأتي به الغد.
الثبات والأناة
إذا نزلت بك شدة فما تصنع؟ يقول كارنيجي: سل نفسك: ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي؟ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الاحتمالات؟ ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وهذه خطه يوصي بها العقل والدين معا باتباعها , ويقول صلي الله عليه وسلم : "إنما الصبر عند الصدمة الأولي" ، وعلى هذا فعلينا أن نعد أنفسنا لتقبل الحقيقة , وأن نعلم أن التسليم بما حدث هو الخطوة الأولي في التغلب علي المصائب ، ويعلم المؤمن أن الصبر باب كبير لرضا خالقه وهذا يحفزه لعدم الإغتمام بالمصائب .وتحت عنوان " هموم وسموم " يقول الغزالي : الناس في سباق رهيب لجمع حطام الدنيا ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه, وجمع له شمله, وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه, وفرق عليه شمله, ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".
ويعترف خبير التنمية الذاتية كارنيجي مع الحديث الشريف مؤكدا أن القلق هو القاتل الأول في أمريكا , وأن ورجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون مبكرا , فالقلق يحكم العمالقة.والقلق هو أيضا أصل معظم الأمراض ؛ فالطب يقول لنا بأن الأزمات النفسية تحول العصارات الهاضمة إلي سموم فلا تستفيد المعدة من أغني الأطعمة . وقد علمنا الرسول الكريم أن ندعو كل صباح ومساء : اللهم أني أعوذ بك من الهم والحزن , وأعوذ بك من العجز والكسل , وأعوذ ك من غلبه الدين وقهر الرجال.
ويستدرك الشيخ الغزالي : قد يقال بأن الرضا المطلق قد يبعث علي البلادة ونجيب بأنه لا تنافي بين الرضا بالواقع والرغبة في تكميل النفس وإمدادها بما تحتاج إليه من الأغذية الدنيوية والعقلية والروحية. فإذا قال رسول الله : ارض بما قسم الله لك تكن أغني الناس . فلا تجعل الرضا ذريعة القصور والقعود.
إزالة أسباب القلق
إذا واجهتك مشكلة فعليك اتباع الخطوات التالية : استخلص الحقائق ، حلل الحقائق ثم اتخذ قرارا حاسما واعمل بمقتضاه.
والخطوة الأولي تفرض علينا التأمل الهادئ فيما حولنا لتجميع الحقائق الواضحة وبالتالي القيام بسلوك بناءا علي ذلك . وجمع المعلومات ليس بالأمر السهل ، فمن صعوباته أن عليك فصل العاطفة عن التفكير واستخلاص الحقائق بصورة مجردة . أما الخطوة الثانية لجمع المعلومات فهي استشعار السكينة التامة في تلقيها وضبط النفس أمام ما يظهر منها محيرا أو مروعا. وحياة عدد كبير من القادة والأبطال تحفل بالمآزق التي لم ينج منها إلا تقييد الرهبة وإطلاق العقل ، ففي صلح الحديبية التفت عوامل الاستفزاز بالنبي وأصحابه لكن كظم النبي – صلى الله عليه وسلم - ما يحس به من حزن وأمر أصحابه أن يطرحوا الريبة والهم وأن يقبلوا معاهدة تصون الدماء وتنشر الأمان رغم ما فيها من تعنت.
وقد يجد المرء نفسه أمام سلسلة من الفروض المقترحة للخروج من أزمة طارئة وقد يجد أن أحلاها مر , هنا تتكاثر حوله الأفكار القاتمة. أما المؤمن فيتذكر قوله تعالى : " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ".
وأخيرا عليك أن تنفذ القرار الذي توصلت له ، وهو ليس أمرا هينا ، فكثير من الناس لديهم الفطنة لمعرفة بواطن الأمور ولكن ليس لديهم روح الإقدام لفعل ما يجب فعله ، ويقعون فريسة دائمة للحيرة والإرتباك ، ولذا إذا اتخذت قرارا فاسرع بالعمل مباشرة بعده ولا تتردد وتعاود النظر للوراء ، ولنذكر أن الله لا يحب الجبناء ويكفل المتوكلين عليه .
القدر وأحواله
قد نواجه كوارث الحياة في شجاعة وصبر ثم ندع توافه الأمور تغلبنا علي أمرنا لذلك يقول رسول الله " إياكم ومحقرات الذنوب , فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" ، وكما أن تجمع الصغائر يهدد حياة الإنسان, فإن تجسيم الصغائر أمر فيه الظلم الشديد.
ومن المؤسف أن بعض الناس يقع على السيئة في سلوك شخص ما فيقيم الدنيا ويقعدها من أجلها ثم يعمي أو يتعامى عما تمتلئ به حياة هذا الشخص من أفعال حسان وشمائل كرام ، والله عز زجل يتجاوز عن التوافه " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً".
وتحت عنوان " قضاء وقدر " يقول الغزالي : إحساس المؤمن بأن زمام العالم لن يفلت من يد الله يقذف بمقادير كبيرة من الطمأنينة في فؤاده, ذلك أنه مهما اضطرابت الأحداث فكلها بمشيئة الرحمن "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ".
والمؤمن الحق هو من يتوكل على الله ويستريح إلي ما يأتي به المستقبل , ذلك أنه لا معني لتوتر الأعصاب واشتداد القلق بازاء أمور تخرج عن نطاق إرادتنا ، أما الندم الصحي فهو فقط على ما فرطنا وليس في الأمور القدرية . والركون إلى القدر يورث الرجل جرأة على مواجهة اليوم والغد ويجعله أكثر تحملا لأي خسارة مهما عظمت ، وقد قال صلي الله عليه وسلم " من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له , ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله , ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضي الله له".
وتحت عنوان " لا تبك على فائت " يقول الغزالي : علينا التعلم من دروس وعبر الماضي وليس تجديد الحزن عليها والإكثار من عبارات " ليت .. " " لو .. " فهذا هو ما يكره للمسلم فعله وهو ليس من منطق الإيمان ولا شيم الرجولة .
سعادة الإنسان أو شقاوته أو قلقه أو سكينته تنبع من نفسه وحدها. إنه هو الذي يعطي الحياة لونها البهيج أو المقبض, كما يتلون السائل بلون الإناء الذي يحويه : "فمن رضى فله الرضا , ومن سخط فله السخط". عاد النبي أعرابيا مريضا يتلوي من شدة الحمي, فقال له مواسيا "طهور" فقال الأعرابي : بل هي حمى تفور , على شيخ كبير , لتورده القبور. قال النبي : فهي إذن. ( يعني أن الأمر يخضع للاعتبار الشخصي فإن شئت جعلتها تطهيرا ورضيت وأن شئت جعلتها هلاكا وسخطت ) ، ونعرف أنه قد تنتصر الجيوش بقوة العقيدة والصبر أكثر من انتصارها بوفرة السلاح والعتاد.
محيط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق