تمر ذكرى رحيل الشيخ مصطفى إسماعيل هذه الأيام حاملة معها نسمات من صوته وسيرته العطرة التى مزجت بين الموهبة والعبقرية فى آن واحد، فبينما كان يمتلك الطفل مصطفى إسماعيل، الذى ولد فى ٢٦ يونيو ١٩٠٥ صوتا رخيما قويا فى ذات الوقت، نشأ كنشأة أهل الريف بين كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة فى أنحاء مصر آنذاك، فهذا الصوت ما سمع به قريب أو بعيد إلا واستحسنه فشيخ الكتّاب ومن بعده معلموه بالمعهد الدينى الأحمدى بطنطا يخصصون جميعا ١٠ دقائق من زمن الدرس ليجود فيها الطفل البالغ من العمر ٦ سنوات القرآن وليسمعه أقرانه فيستعذب الجميع هذا الصوت الملائكى.
رحلة الشيخ بدأت مبكرا من خلال إحدى قرى طنطا من محفظ للقرآن إلى محفظ آخر فبينما كان فى رحلة لزيارة مريض بمدينة طنطا التى تبعد عن محل إقامته ٩ كيلو مترات وبينما دخل للصلاة فإذا بمؤذن المسجد غير موجود ويطلق مصطفى إسماعيل تكبيراته فى السماء معلنا وقت الصلاة حتى التقطه عالم كبير فى ذات المدينة، وأقنع جده بأن هذا الطفل له شأن كبير ولابد له أن يلتحق بالمعهد الدينى وما كان من هذا العالم إلا أن سهل إجراءات التحاق مصطفى بالمعهد الأحمدى وانتظم فى أسبوع واحد بالدراسة فى المعهد الدينى لتبدأ رحلة جديدة فى عالم هذا الشيخ الكبير.
فكلما كانت هناك حفلة بالمعهد الدينى يفتتحها هذا الطفل الصغير حتى سمعه شيخ الأزهر الشريف أثناء زيارته للمعهد وطلبه وشد على يديه قائلا له: «سوف يصبح لك شأن عظيم.. أعط للقرآن وسوف يعطيك الله الكثير من فضله».
العجيب فى صوت هذا الشيخ صغير السن أنه لم يتعلم المقامات الموسيقية كما كان يتعلمها من فى سنه وإنما خلق بموهبة إتقانها دون تعلم أو بحث ودون تقليد، مما أهله لحضور أول عزاء كقارئ للقرآن وليس كمستمع أو مُعَزٍّ وكان أول أجر حصل عليه ١٠ قروش حتى وصل إلى ٢٥ قرشا ووصل فى شهور قليلة إلى ٩٠ جنيها، وكان ضيفا على جميع أعيان الصعيد والوجه البحرى الأحياء منهم والأموات فكثير منهم يحبون سماعه ومن يتوف يدع إلى عزائه.
من أهم المآتم التى حضرها الشيخ فى مقتبل عمره عزاء الشيخ القصبى الذى كانت تجمعه به صداقة وحب شديد وإعجاب بصوته فعند وفاته حضر قرّاء مصر العزاء فى مقدمتهم الشيخ محمد رفعت الذى وصل أجره فى ذلك الوقت إلى ٥٠ جنيها والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى الذى وصل أجره إلى ٤٠ جنيها والشيخ منصور بدار والذى وصل أجره إلى ٣٠ جنيها،
وقرأ الشيخان كأفضل ما يكون ليأتى دور الشيخ مصطفى إسماعيل وهم أن يصعد لمكان التلاوة فأوقفه الشيخ بدار قائلا: «إنت رايح فين يا ولد» حتى أتى القائم على العزاء ناهرا إياه وقال: «إن الشيخ مصطفى مدعو مثله مثلكم وهذا وقت قراءته» حتى قرأ قرابة الساعة فضج صوان العزاء بمن فيه استحسانا لهذا الصوت الذى لم يسمعوه من قبل، وبعد أن انتهى الشيخ محمد رفعت والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى والشيخ منصور بدار من قراءاتهم بدأوا يقرأون مرة ثانية بعدما شعروا بأن الشيخ الصغير خطف منهم الأضواء.
تخلل هذه الرحلة التى ودع فيها الشيخ الحياة فى ٢٦ ديسمبر ١٩٧٨ عدد من المفارقات فبينما كان يقرأ للرئيس السابق جمال عبدالناصر ووصل إلى الآية التى تقول «ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون» حتى ابتسم جمال عبدالناصر وانشرح صدره وضج من فى الحفل لورود اسم الزعيم الراحل ولم يعلم وقتها المستمعون أن المقصود من قول الله تعالى فى الحديث عن «البغال» أن جعلها الله راحة للإنسان.
فى رحلة الحياة الطويلة التى لم تخل من مفارقات جميلة تزوج الشيخ مصطفى عام ١٩٣١ وبدأ حياته العملية بمكتب لتحفيظ القرآن الكريم بطنطا ثم انتقل إلى القاهرة لينظم من خلاله مواعيد تلاوته فى المآتم والحفلات، ليشترى بأول نقود يحصل عليها أرضاً مساحتها فدانان بطنطا أقام الورثة عليها معهدا دينيا يحمل اسم الشيخ لينير الطريق أمام أهل قريته البسطاء الذين حفظوه فى قلوبهم فخرا به.
وسط هذه الرحلة تعرف على الشيخ محمد الصيفى بجمعية تضامن القراء بالقاهرة وقال له عبارته المشهورة «يا ابنى إنت ملكش زى» وعرض عليه حضور احتفال المولد النبوى بميدان سيدنا الحسين ولما اعتذر الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى لمرضه قدم الصيفى معشوقه مصطفى إسماعيل ليس للمستمعين بالحفل ولكن للعالم بأكمله فقد كان الحفل ينقل عبر بث إذاعة القرآن الكريم فقرأ ساعة ونصف الساعة ومما قرأ وقتها سورة التحريم فسمعه مراد باشا محسن والملك فاروق شخصيا وطلب أن يكون قارئا للقصر الملكى وقرأ فى ذكرى الملك فؤاد وبحضور الزعماء كمصطفى النحاس وأصبحت أجندة مواعيده محجوزة لـ٦ أشهر قادمة وبدأ انتشاره عالميا خارج القطر فطاف جميع الدول ينهل المسلمون من صوته العذب.
شيخ ٥ نجوم
كان الشيخ مصطفى إسماعيل، قارئاً من فئة الـ«خمس نجوم»، فكان القارئ المعتمد للقصر الملكى فى السابق، ثم القارئ الخاص للرئيس جمال عبدالناصر من بعده، ثم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فهو قارئ خمس نجوم على مستوى أسلوب الحياة منذ بداياته الأولى شابا حتى لقى ربه، وتميز بين القراء بأجره المرتفع حتى إنه فى بعض الحالات كان يتقاضى أجره بالجنيه الذهب، ليس نزولا على رغبة منه، وإنما تقديراً من المضيف لقيمة الشيخ.
كما أنه كان شيخا من فئة الخمس نجوم على مستوى ملبسه ومعيشته وتعامله مع الآخرين، فكان يحرص على هندامه ورقى مستوى حياته، وكأنما يعمل بمقولة إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
ومن المظاهر والسلوكيات الدالة على ذلك أن الشيخ عندما كان طالبا بالمعهد الدينى بطنطا اختار أحد البانسيونات الراقية مقرا لسكنه، وحينما فارق حياة العزوبية فى سكن المجاورين مع زملاء المعهد بالمدينة الجامعية، انتقل بعد ذلك للسكن بفندق «شبرد» عندما حط الرحال واستقر به المقام فى القاهرة.
ودون كل مشايخ عصره كان الشيخ يحب الألوان الزاهية فى ملبسه، فلم يرتد جلباباً إلا من تفصيل «الأسطى فتوح» أفضل ترزية هذا العصر وأوسعهم صيتاً، غير أن هذه الألوان الزاهية كان ينتقيها مناسبة لوقار الشيخ وفوق هذا كان مهتما بتربية الخيل داخل فيلته، التى بناها على ٣ أفدنة بقرية ميت غزال، والتى تبعد عن مدينة طنطا ٩ كليومترات كما كان أول شيخ يملك أول سيارة أوتومبيل نوع «بكار» فلم يكن يذهب لحفلاته ومأتمه إلا بهذه السيارة الأحدث فى الموديل.
السادات كان يقلده.. والملك فاروق مدحه فرد عليه: «متشكرين يا بيه»
كانت علاقة الشيخ قوية بالسيدة أم كلثوم حتى إنها كانت تصطحبه أثناء تسجيل بعض أغانيها، ودفعت به لحضور بعض حفلاتها، ومنها ما كان فى الإسكندرية، بل توقفت ذات مرة عن الغناء لتحيى الشيخ صاحب الصوت الجميل أثناء دخوله إحدى حفلاتها أثناء غنائها، وكان الموسيقار عبدالوهاب يلقبه بـ«العبقرى».
ومما يروى عن الشيخ أن الملك فاروق داعبه بعد انتهاء التلاوة ذات مرة قائلا: «إنت صوتك جميل يا شيخ»، فرد الشيخ مصطفى بحياء شديد: «متشكرين يا بيه»، فيضحك الملك ويقول: «الشيخ مصطفى أعطانى البهوية.. الحمد لله»!
وكانت علاقته بالزعيمين الراحلين جمال عبدالناصر والسادات قوية لدرجة بأن السادات كان يقلد الشيخ عندما كان مسجونا لعشقه لشخصيته، أما جمال عبدالناصر فكان حريصا على أن يحيى له كل حفلاته وأعطاه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى.
وعندما تنحى الرئيس جمال عبدالناصر ثم عاد ثانية للحكم قرأ الشيخ مصطفى آيات جعلت كل من حضر هذا الحفل الدينى يبكى بكاء شديدا تأثرا بما يتلى عليهم كقوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) و(وتلك الأيام نداولها بين الناس).
وظل كثير من الناس يعتقدون لفترة طويلة أن الإعلامية الكبيرة همت مصطفى، هى ابنة الشيخ مصطفى إسماعيل، وكان مبعث هذا الاعتقاد هو كثرة زياراتها للشيخ واستضافتها له.
المصري اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق