السبت، 20 أغسطس 2011

وثيقة العمامة والإمامة


‏من منا يتصور أو يخطر بباله وهو يمر راكبا أو مترجلا أو متأملا‏..‏ إلي جوار هذا الصرح الديني الإسلامي العظيم الذي اسمه الجامع الأزهر‏..‏ أو حتي مصليا داخل ساحته‏..‏ وسط ضجيج الحياة وصخبها.
وصراع لقمة العيش وتوهان الكلمة الحرة الطيبة وركوب الباطل مطية الحق وسط بحر هائج مائج من الصراعات والثورات والصراعات الفكرية والمذهبية والفلسفية والحضارية والغوغائية.. لبلوغ قمة التل قبل الآخرين.. أن هذا الجامع العظيم.. هو الذي يقود حركة النور والتنوير والتحرير والثورة ضد كل غاصب محتل عبر مشوار من السنين طوله تجاوز الاعوام الثلاثمائة.. بدايتها صباح يوم من أيام عام..1789 عندما اقتحم جنود نابليون بونابارت حرمة صحن الجامع الأزهر بخيولهم وسيوفهم وحقدهم الدفين وعاثوا في الأرض فسادا وإفسادا وضربوه بالمدافع من فوق قلعة صلاح الدين.. بعد أن قتل الثوار قائد حامية القاهرة جنرال إيبوي.. ليفاجئنا الأزهر الشريف من جديد بوثيقة ثورية جديدة خرجت من رحم المعاناة الثورية التي تعيشها مصر الآن.. كأنها كوكب دري يضيء ولو لم تمسسه نار!. وثيقة تؤكد الدور التاريخي والحضاري للجامع الأزهر عبر تاريخه الطويل الذي يزيد علي الألف عام..ماذا تقول الوثيقة التاريخية؟بمبادرة طيبة من الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر اجتمعت كوكبة من المثقفين المصريين علي اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية مع عدد من كبار العلماء والمفكرين في الأزهر الشريف, وتدارسوا ـ خلال اجتماعات عدة ـ مقتضيات اللحظة التاريخية الفارقة التي تمر بها مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وأهميتها في توجيه مستقبل مصر نحو غاياته النبيلة وحقوق شعبها في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.وقد حرص المجتمعون علي أن يستلهموا في مناقشتهم روح تراث أعلام الفكر والنهضة والتقدم والإصلاح في الأزهر الشريف, ابتداء من شيخ الإسلام الشيخ حسن العطار وتلميذه الشيخ رفاعة الطهطاوي إلي الإمام محمد عبده وتلاميذه وأئمته المجتهدين من علمائه من أمثال المراغي ومحمد عبدالله دراز ومصطفي عبدالرازق والشيخ شلتوت وغيرهم من شيوخ الإسلام وعلمائه إلي يوم الناس هذا.كما استلهموا في الوقت نفسه إنجازات كبار المثقفين المصريين ممن شاركوا في التطور المعرفي والإنساني, وأسهموا في تشكيل العقل المصري والعربي الحديث في نهضته المتجددة, من رجال الفلسفة والقانون, والأدب والفنون.من هنا انتهي المجتمعون الي المحاور التالية:< دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة, التي تعتمد علي دستور ترتضيه الأمة, يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم, ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها علي قدم المساواة, بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب; بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح, حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخري بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت علي الناس, وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ, بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم, شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع, وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخري الاحتكام إلي شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية.< اعتماد النظام الديمقراطي, القائم علي الانتخاب الحر المباشر, الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشوري الإسلامية, بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة, ومن تحديد للاخصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب, وتوخي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات, وإدارة شئون الدولة بالقانون ـ والقانون وحده ـ وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول علي المعلومات وتداولها.< الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي, مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل, والتأكيد علي مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية, واعتبار المواطنة مناط المسئولية في المجتمع.رابعا: الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار, وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين, مع اعتبار الحث علي الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن.< تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية, والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية, المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية, والمتسقة مع الخبرة الحضارية الطويلة للشعب المصري في عصوره المختلفة, وما قدمه من نماذج فائقة في التعايش السلمي ونشدان الخير للإنسانية كلها.< الحرص التام علي صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ علي عزتها الوطنية, وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث, وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أي معوقات, واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها, دون تسفيه لثقافة الشعب أو تشويه لتقاليده الأصيلة, وكذلك الحرص التام علي صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي في إطار منظومة قيمنا الحضارية الثابتة.< اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضاري في مصر, وتكريس كل الجهود لتدارك ما فاتنا في هذه المجالات, وحشد طاقة المجتمع كله لمحو الأمية, واستثمار الثروة البشرية وتحقيق المشروعات المستقبلية الكبري.< بناء علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الإفريقية والعالمية, ومناصرة الحق الفلسطيني, والحفاظ علي استقلال الإرادة المصرية, واسترجاع الدور القيادي التاريخي.< اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة التي يرجع إليها في شئون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة, مع عدم مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متي تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة, وبشرط الالتزام بآداب الحوار, واحترام ما توافق عليه علماء الأمة...............وقد يسأل سائل: ولكن ما هو دور الأزهر في الحركة الوطنية المصرية؟والجواب: لقد كان للأزهر مواقفه المشهودة في التصدي لظلم الحكام والسلاطين المماليك لأن علماءه كانوا أهل الحل والعقد أيام المماليك..وفي سنة1795 يروي لنا مولانا الجبرتي في يومياته أن أمراء مماليك اعتدوا علي بعض فلاحي مدينة بلبيس فحضر وفد منهم إلي الشيخ عبدالله الشرقاوي وكان شيخا للأزهر وقتها, وقدموا شكواهم له ليرفع عنهم الظلم, فغضب وتوجه إلي الأزهر, وجمع المشايخ, وأغلقوا أبواب الجامع, وأمروا الناس بترك الأسواق والمتاجر, واحتشدت الجموع الغاضبة من الشعب, فأرسل إبراهيم بك شيخ البلد لهم أيوب بك الدفتردار, فسألهم عن أمرهم, فقالوا: نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات( الضرائب), وخشي زعيم الأمراء مغبة الثورة فأرسل إلي علماء الأزهر يبرئ نفسه من تبعة الظلم, ويلقيها علي كاهل شريكه مراد بك, وأرسل في الوقت نفسه إلي مراد يحذره عاقبة الثورة, فاستسلم مراد بك ورد ما اغتصبه من أموال, وأرضي نفوس المظلومين, لكن العلماء طالبوا بوضع نظام يمنع الظلم ويرد العدوان, واجتمع الأمراء مع العلماء, وكان من بينهم الشيخ السادات والسيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير, وأعلن الظالمون أنهم تابوا والتزموا بما اشترطه عليهم العلماء, وأعلنوا أنهم سيبطلون المظالم والضرائب والكف عن سلب أموال الناس والالتزام بإرسال صرة مال أوقاف الحرمين الشريفين والعوائد المقررة إليهم وكانوا ينهبونها, وكان قاضي القضاة حاضرا,و فكتب علي الأمراء وثيقة أمضاها الوالي العثماني وإبراهيم بك ومراد بك شيخا البلد.ولقد كانت للأزهر صفحة مجيدة في مقارعة الاستعمار الفرنسي, فعندما غزا الفرنسيون مصر بقيادة نابليون بونابرت عام1798 م أشعل علماء الأزهر الثورة ضدهم من داخل الأزهر الشريف وتزعموا مقاومة الاحتلال.وأشعلوا ثورتي القاهرة الأولي حيث ألف الأزهر لجنة لتنظيم الثورة ضد الفرنسيين وقامت هذه الثورة بالقاهرة في أكتوبر عام1798, واحتشدت الجموع في الأزهر ينادون بالجهاد ضد الفرنسيين, وهاجموا الفرنسيين ومعسكراتهم وقتلوا الجنرال ديبوي حاكم القاهرة فأخذ الفرنسيون يطلقون النار علي الثوار في الشوارع وتدفقت الجماهير إلي الأزهر واحتشد فيه ما يزيد علي ألف مواطن, وأقاموا المتاريس في الطرق والأزقة.ودخلت قوات نابليون بالخيول صحن الأزهر, وألقت بالمصاحف وعاثت فيه إفسادا, وضرب الجامع بالمدافع من فوق القلعة وأغلق الفرنسيون الأزهر وشردوا من فيه, وكانت هذه الواقعة قد عجلت بانسحاب الفرنسيين من مصر حيث اندلعت بعد ذلك ثورة القاهرة الثانية.وقدم الأزهر وقتها عددا من الشهداء كما أقدمت الحملة علي إعدام لفيف من علمائه وطلابه لاسيما بعد مقتل الجنرال كليبر علي يد سليمان الحلبي( أحد طلاب الأزهر), وكان من أبرز من قاد الثورة وقتها من شيوخ الأزهر الشيخ عمر مكرم والشيخ السادات والشيخ الشرقاوي.وفي عام1805 م استطاع علماء الأزهر أن يفرضوا علي الخليفة العثماني الوالي محمد علي باشا ليكون واليا علي إيالة مصر العثمانية, بعد أن أخذوا عليه المواثيق والعهود بأن يقيم العدل بين الرعية.وقد اشترك الأزهر في الثورة العرابية سنة1881 ـ1882 م لمقاومة التدخل الإنجليزي وكان أحمد عرابي ممن درسوا في الأزهر.وبعد الاحتلال البريطاني لمصر كان لشيوخ الأزهر دور كبير في إشعال الروح الوطنية ضد المحتل الإنجليزي وكان من أبرز هؤلاء الشيخ محمد عبده, وعندما بدأت ثورات الشعب المصري, حاول المحتل الإنجليزي زرع الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط في مصر, فكان الأزهر صمام الأمان الذي فطن لمحاولات المحتل, وتبادل شيوخ الأزهر والقساوسة الأقباط الزيارة والخطابة في الأزهر والكنائس ضد المحتل الإنجليزي...............ولا ننسي هنا دور الأزهرية في ثورة1919 م عندما اشعل الأزهر روح الثورة ضد الاستعمار البريطاني, وكان الأزهر معقلا للحركة الوطنية تنطلق منه جماهير الشعب, حتي إن المندوب السامي البريطاني طلب إلي شيخ الأزهر أبي الفضل الجيزاوي إغلاق الأزهر, لكن الجيزاوي رفض وبقي الأزهر يتحدي السلطات الاستعمارية.حتي الجامع نفسه لم يسلم من التخريب والسرقة من المحتل الإنجليزي فقاموا بسرقة المنبر الأصلي والتاريخي للجامع ولا يزال حتي الآن موجودا في أحد المتاحف البريطانية.وعندما غزا التحالف الفرنسي ـ البريطاني الإسرائيلي مصر سنة1956 م كان هدفهم الأساسي إصابة المصريين بالصدمة والخوف ودفعهم للاستسلام, فذهب الرئيس جمال عبدالناصر للخطابة من فوق منبر الأزهر كرمز تاريخي وخطب خطبته التاريخية التي كانت علامة فاصلة في الأحداث وقتها ليعلن عدم استسلام مصر ووقوفها صادمة مقاومة ضد العدوان الثلاثي.أيضا كان للأزهر دوره الأساسي بعد هزيمة1967, إذ قام شيوخ الأزهر بالخطابة وإشعال الروح المعنوية بين الجنود المصريين علي الجبهة طوال6 سنوات, مما كان له الأثر الكبير في انتصار الجيش المصري في أكتوبر.1973..............نحن بالقطع ـ كما يقول شاعرنا الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي ـ أمام مرحلة جديدة من حياة الأزهر تحتاج قبل كل شئ إلي أن يراجع الأزهر تاريخه ويصحح ممارسته لوظيفتيه اللتين نتمني له النجاح في النهوض بهما: إحياء علوم الدين وتجديدها والاجتهاد فيها من ناحية, وتربية الضمائر وتحرير العقول من ثقافة الخرافة والطغيان والمشاركة في النشاط العام من ناحية أخري. وفي الوثيقة الصادرة عن لقاء علماء الأزهر والمثقفين المصريين ما يدل علي وعي كامل بحاجة الأزهر لمراجعة نفسه واستعادة دوره واعتبار ثورة يناير المجيدة حدا فاصلا بين عهدين, عهد مضي وعهد جديد بدأ.ومن الطبيعي أن تتحدث الوثيقة عن تراث الأزهر وما أداه للإسلام وللمصريين وللمسلمين عامة من خدمات باقية أسهم فيها شيوخه وأبناؤه من أمثال العطار, والطهطاوي, ومحمد عبده, وسعد زغلول وسواهم. لكن الوثيقة تجاهلت أسماء لم يكن يصح أن نتجاهلها ومنها طه حسين, وعلي عبدالرازق, وخالد محمد خالد الذين تعرضوا لاضطهاد عنيف علي أيدي شيوخ آخرين من شيوخ الأزهر رضوا بأن يكونوا سياط عذاب في أيدي الطغاة والجلادين. فاذا كانت الوثيقة قد تحرجت من أن تذكر هؤلاء الشيوخ بأسمائهم فليس أقل من أن تتبرأ من أخطائهم وأن ترد الاعتبار للضحايا المجاهدين, مادام الهدف فتح صفحة جديدة.وقد آن الاوان لاستقلال الأزهر, وقيام هيئة كبار العلماء باختيار الإمام الأكبر, والعمل علي تطوير مناهج التعليم الأزهري ليسترد الأزهر دوره الفكري الأصيل..............واذا كان الفاتيكان كما يقول صديقنا أحمد عبدالمعطي حجازي قد اعترف بأخطائه واعاد الاعتبار لمن اتهمهم بالهرطقة مع أنه البابا في نظر المسيحيين الكاثوليك فلماذا لا يعترف الأزهر الذي لايدعي العصمة بما وقع فيه من اخطاء؟لماذا لا يعلن الأزهر أن طه حسين كان علي حق حين قال ان القرآن الكريم ليس مرجعا في التاريخ؟ولماذا لايعلن الأزهر أن علي عبدالرازق كان علي حق حين قال ان الخلافة ليست من أركان الإسلام؟!أيهما نصدق؟ومازلنا مع وثيقة الامامة والعمامة؟



المصدر: الاهرام



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق