في ذروة الغضب الشعبي المتصاعد في فرنسا تجاه خطط التقشف من ناحية والفضيحة الكروية في بطولة كأس العالم من ناحية أخرى ، فوجيء الجميع بصدمة جديدة كان بطلها هذه المرة الرئيس نيكولا ساركوزي نفسه .
ففي 6 يوليو / تموز ، كشفت وسائل الإعلام الفرنسية عن تلقي ساركوزي تبرعات غير قانونية تقدر قيمتها بـ 150 ألف يورو لتمويل حملته الانتخابية عام 2007 ، واستندت في هذا الصدد إلى شهادة المحاسبة السابقة لسيدة الأعمال الفرنسية الشهيرة ليليان بتنكور .
وكانت المحاسبة كلاري تيبو التي عملت لمدة 12 عاما لدى ليليان بتنكور وريثة مجموعة مستحضرات التجميل "لوريال" والتي تعتبر واحدة من سيدات العالم الأكثر ثراء أجرت مقابلة مع موقع "ميديابار" الإلكتروني الفرنسي اتهمت خلالها ساركوزي بتلقي تبرعات غير قانونية .
وأضافت تيبو التي تركت العمل مع ليليان بتنكور في نوفمبر/تشرين الثاني 2008 أن بتنكور دفعت 150 ألف يورو"188 ألف دولار" لحملة ساركوزي الانتخابية بزيادة عن الحد المسموح والذي يبلغ 4600 يورو.
وتابعت أنه وفقا للقانون الفرنسي فإن التبرعات السياسية للحملات الانتخابية للأفراد لا يجب أن تتجاوز 4600 يورو والمساهمات النقدية لا يجب أن تتخطى قيمتها 150 يورو ، إلا أن باتريس دو ميستر المسئول عن إدارة ثروة بتنكور دفع 150 ألف يورو خلال عشاء خاص إلى إريك وورث أمين صندوق الحملة الانتخابية للرئيس ساركوزي الذي يشغل حاليا منصب وزير العمل والشئون الاجتماعية.
واستطردت أنها سحبت مبلغ 50 ألف يورو من أجل التبرع للحملة الانتخابية يوم 26 آذار/ مارس 2007 من حساب مصرفي في باريس، وشاهدت بنفسها بتنكور تسلم الملبغ إلى ميستر الذي قالت إنه أخذ باقي المبلغ من حساب بمصرف سويسري.
وسردت تفاصيل الفضيحة ، قائلة :" إن باتريس دو ميستر مدير أعمال بتنكور طلب مني في مارس/ آذار 2007 سحب 150 ألف يورو من البنك لكنني رفضت لأن الحد الأقصى المسموح به للسحب هو 50 ألف يورو أسبوعيا ".
وكشفت أن دو ميستر استشاط غضبا آنذاك وقال لها : "انظري إن تلك الأموال لتمويل الحملة الانتخابية لساركوزي و50 ألف يورو ليست كافية".
وأضافت تيبو أن إيريك وورث وزير العمل الحالي تلقى مبلغ 150 ألف يورو عندما كان مسئولا عن خزانة حزب "التجمع من أجل حركة شعبية" وذلك بهدف تمويل الحملة الانتخابية للرئيس ساركوزي في ربيع 2007.
ولم يقف الأمر عند ما سبق ، بل إن تيبو فجرت أيضا مفاجأة مدوية كشفت فيها أن ساركوزي عندما كان عمدة أرقى حي باريسي "نويي سير سين" بين عامي 1983 و2002 كان يتلقى هو الآخر حصته من الأموال ، بالإضافة إلى أنه كان ضيفا دائما على مائدة سيدة الأعمال بتنكور ، قائلة :" إن الجميع في منزل بتنكور كانوا يعرفون أن ساركوزي كان يأتي ليأخذ الأموال".
واختتمت قائلة :"يمكن للشرطة التأكد من صحة أقوالي وذلك بمراجعة دفاتر حسابات السيدة بتنكور في تلك الفترة ، إنني أذكر تاريخ هذا التبرع جيدا 26 مارس / آذار 2007 ، وورث تجاهل أعمال التهرب الضريبي لبتنكور التي تردد أنها حولت عشرات الملايين من اليورو إلى مصارف أجنبية".
ورغم أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سارع لنفي الاتهامات الموجهة إليه بشأن قضية بيتانكور ووصفها بأنها افتراءات لا أساس له من الصحة وتهدف إلى تشويه سمعته ، إلا أن صحيفة "لوموند" كشفت في 7 يوليو أن الشرطة أكدت سحب مبلغ 50 ألف يورو في 26 آذار/ مارس 2007 كما أنها حددت أن مبلغا مماثلا سحب مرتين في شهر واحد من حساب بتنكور.
وأضافت الصحيفة أن الشرطة استجوبت باتريس دو ميستر المسئول عن إدارة ثروة بتنكور وواجهته بتصريحات تيبو ، هذا فيما كشفت صحيفة "لوفيجارو " أن الادعاء العام بمدينة "نانتير" يدرس فتح تحقيق في اتهامات تلقي حملة ساركوزي للانتخابات الرئاسية عام 2007 تبرعات غير قانونية.
ويبدو أن توقيت تفجر الفضيحة السابقة والذي تزامن مع الخروج المخزي للمنتخب الفرنسي من المونديال سيزيد من النقمة الشعبية على ساركوزي خاصة وأن تلك الفضيحة لم تكن الأولى من نوعها التي تلاحقه .
الخيانة الزوجية
ساركوزي وزوجته كارلا بروني
ففي مطلع إبريل / نيسان الماضي ، نشرت صحيفة "جورنال دي ديمانش" الفرنسية الأسبوعية على إحدى مدوناتها شائعات بأن الرئيس نيكولا ساركوزي وزوجته كارلا بروني لديهما عشاق وسرعان ما نقلت مطبوعات أخرى في مختلف أنحاء العالم تلك الشائعات .
ووفقا لما جاء في المدونة ، فإن ساركوزي على علاقة بوزيرة البيئة شانتال جوانو ، بينما زوجته كارلا بروني على علاقة بالمغني والموسيقي الفرنسي بنيامين بيولاي.
وفيما فتحت الشرطة الفرنسية تحقيقات موسعة لتعقب المدونين الذين كانوا وراء الشائعات بتورط ساركوزي وزوجته في فضيحة خيانة زوجية ، سارع المستشار الإعلامي للرئيس الفرنسي بيير كارون إلى القول إن الشائعات الأخيرة قد تكون مؤامرة متعمدة لزعزعة الاستقرار في الرئاسة ، موضحا أن تحقيقات الشرطة ستحدد ما إذا كان الذين نشروا الشائعات يعملون لحسابهم الخاص أو يعملون لصالح بعض الجماعات أو الأفراد .
وأضاف كارون أن الشائعات يمكنها الإضرار بوضع فرنسا أمام العالم بل وقد تؤثر على الاقتصاد الفرنسي ، قائلا :" سنقوم بالبحث عما إذا كانت تلك الشائعات مؤامرة منظمة بتمويل مالي أم لا".
ويبدو أن التصريحات السابقة لم تقنع الرأي العام الفرنسي ولذا ترددت تقارير حول ضغوط مارسها ساركوزي على صحيفة "جورنال دي ديمانش" لرفع دعوى قضائية ضد مروجي الشائعات على مدونتها ، خاصة وأن ساركوزي هو أحد الأصدقاء المقربين من مالك الصحيفة ورجل الأعمال المليونير ارنود لاجاردير.
وبجانب رفع الدعوى القضائية ، فقد سرب أشخاص مقربون من ساركوزي أنباء حول احتمال مسئولية وزيرة العدل السابقة رشيدة داتي عن شائعات الخيانة الزوجية.
بل وكشفت صحيفة "لو كانار إينشين" الأسبوعية أن ساركوزي نفسه يشتبه في داتي نظرا لأنها لم تسامحه بسبب إجبارها على الاستقالة لخوض انتخابات البرلمان الأوروبي ، موضحة أن وزارة الداخلية الفرنسية أبلغت داتي بعد نشر الشائعات بسحب السيارة الرسمية وأفراد الأمن والهاتف المحمول التي سمح لها باستخدامها حتى بعد مغادرتها الحكومة.
ورغم أن الوزيرة السابقة والنائبة الحالية في البرلمان الأوروبي رشيدة داتي نفت بشدة مسئوليتها عن تلك الشائعات وهددت باللجوء إلى القضاء ضد كل من ينقل تلك الأخبار التي لا أساس لها من الصحة أو من يربطها بسحب الحماية الأمنية التي كانت تتمتع بها بصفتها وزيرة عدل سابقة ، إلا أن مصادر قصر الإليزيه مازالت تشتبه بها باعتبارها كانت مقربة جدا من ساركوزي ومن زوجته السابقة سيسيليا .
وأيا كانت حقيقة الشائعة السابقة ، فإن الأمر الذي لاجدال فيه هو أنها أضعفت أكثر وأكثر فرص ساركوزي في انتخابات الرئاسة عام 2012 خاصة وأنها تزامنت مع هزيمة قاسية تلقاها اليمين الحاكم في الانتخابات الإقليمية في مارس الماضي ، كما أنها تزامنت مع تراجع شعبيته بشكل غير مسبوق وهذا ما ظهر واضحا في استطلاع أجراه مركز "تي إن إس سوفريه" ونشرته مجلة "لوفيجارو" الفرنسية في 5 إبريل الماضي وأكد تراجع الثقة بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ، حيث بلغت نسبة الثقة به حوالي 28% فقط.
وكان الأخطر في الاستطلاع السابق هو أن تدنى شعبية ساركوزي انحصر بين الفئات المتوسطة وذات الدخل المنخفض والموظفين في القطاع الخاص وهم الناخبون الذين صوتوا لصالحه في الانتخابات الرئاسية عام 2007 .
ووفقا للاستطلاع ، فإن ساركوزي سيخسر انتخابات 2012 الرئاسية لصالح منافسه الاشتراكي مارتين أوبري الذي اكتسح الانتخابات الإقليمية في مارس الماضي ، وهذه هي المرة الأولى لساركوزي التي يظهر فيها من قبل الرأي العام الفرنسي كالخاسر في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
مسلسل الفضائح
الفضائح تطارد ساركوزي
ورغم أن الاستياء من فقدان الوظائف وانخفاض مستوى المعيشة وخطط الحكومة لإصلاح بعض الخدمات الاجتماعية مثل التقاعد هي أمور ساهمت في انخفاض شعبية الرئيس الفرنسي إلى أدنى مستوياتها ، إلا أن سلسلة الفضائح التي تورط فيها وتم الكشف عنها منذ العام الماضي كان لها الكلمة الفصل في هذا الصدد .
ففي 3 نوفمبر / تشرين الثاني 2009 وقبل شهور من الكشف عن فضيحة الخيانة الزوجية ، كشفت مواقع فرنسية على شبكة الإنترنت عن فضيحة أخرى تطارد ساركوزي ، موضحة أنه اعتمد طريقة "النسخ واللصق" في مقاطع طويلة من خطابات ألقاها مرات عديدة ، الأمر الذي جلب له اتهامات بالسخرية من الفرنسيين بسبب خطابات مكررة .
وتابعت تلك المواقع قائلة :" إنها فضيحة غريبة بطلها كالعادة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ، لقد قام بإعادة ترديد مقاطع مطولة من خطابات وجهها للفرنسيين لأكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة".
وأضافت "الفضيحة بدأت عندما كشفت قناة (كنال بلوس) الفرنسية عن أن ساركوزي أعاد إلقاء خطاب وجهه حول واقع الزراعة في فرنسا مرتين قبل أن تنشر مواقع الكترونية على شبكة الإنترنت ثلاثة فيديوهات تضمنت تسجيلات لخطابات ساركوزي جرت في أوقات متفرقة وتضمنت نفس الكلمات والعبارات ، ما يؤكد أن كاتب خطاباته يعتمد على طريقة النسخ واللصق في صياغة الخطابات الرئاسية" .
امتيازات الصفوة
واللافت للانتباه أن فضيحة "النسخ واللصق" لم تكن الأولى من نوعها حيث ظهرت في أعقاب موجة من الاستياء الشعبي الواسع حتى بين أنصار ساركوزي بسبب تحركات فاحت منها رائحة منح امتيازات خاصة للصفوة في فرنسا والتي كان بينها خطة لجعل ابنه الذي لم يتخرج من الجامعة رئيسا لوكالة عامة بارزة.
وكان ساركوزي سعى في أكتوبر / تشرين الأول 2009 إلى تعيين نجله جان البالغ من العمر 23 عاما كرئيس لوكالة "ايباد" الحكومية المسئولة عن تطوير منطقة الأعمال الرئيسية في باريس ، إلا أن حملة الإدانة الواسعة لهذا الأمر أجبرته على التراجع عن هذا التعيين .
ورغم التراجع ، إلا أن تداعيات تلك الفضيحة زادت من النقمة الشعبية على ساركوزي ، خاصة وأنها ظهرت في وقت كان يعاني فيه الفرنسيون بشدة من انعكاسات الأزمة المالية وتراجع القدرة الشرائية وارتفاع البطالة ، الأمر الذي بعث برسالة استفزازية واضحة مفادها أنه بينما يتواصل إحساس الأسر الفرنسية بارتفاع الأسعار ، يهرع ساركوزي لتلميع ابنه ونسيان ما قاله أثناء حملته الرئاسية وهو أن تولي رئاسة الجمهورية يعني أن ينسى المرء نفسه وأن ينحي جانبا سعادته وأحاسيسه ومصالحه الشخصية حتى لا ينشغل عن سعادة الفرنسيين بسواها.
حياة الترف
شيراك وساركوزى
هذا بالإضافة إلى أن فضيحة تلميع ابنه أعادت للأذهان حياة الترف التي يعيشها ساركوزي ومغامراته العاطفية مع عارضة الأزياء السابقة والمغنية كارلا بروني والتي تزوجها فيما بعد .
ففي 2008 ، ثارت عاصفة من الانتقادات لاستمتاع ساركوزي بحياته الخاصة ولا سيما علاقته بالمغنية كارلا بروني وأسلوب حياته المترف ، بينما الفرنسيون العاديون يعانون في حياتهم اليومية.
ساركوزي حينها سارع للزواج من بروني وأبعد حياتهما الخاصة عن الأضواء وأغلفة المجلات اللامعة ، إلا أن الضرر كان وقع بالفعل وباتت شعبية الرئيس الفرنسي في أسفل السلم ، بل وقارن البعض بين رئاسته وحكم سلفه الرئيس السابق جاك شيراك الذي مازال يتمتع بشعبية واسعة بين الفرنسيين رغم توجيه اتهامات له بالفساد حينما كان يشغل منصب عمدة باريس .
فشيراك في نظر الفرنسيين هو الإنسان الخلوق المهذب المبتسم دائماً الذي استطاع تحصين منصب الرئاسة ضد الفضائح السياسية والأخلاقية ، بينما جاء ساركوزي عكسه تماما بل ووصفته صحيفة "ليبيراسيون" في مقال بعنوان "ساركوزي زعيم العالم" بالمغرور والمتكبر لكثرة حديثه عن نفسه.
وفي ضوء ما سبق ، فإن فرص ساركوزي باتت ضعيفة للفوز بفترة رئاسية ثانية ، خاصة وأن نقابات العمال التي كان يعتمد عليها في السابق للتصدي لعدد من الاضطرابات في قطاع النقل تراجعت عن تأييده وهو أمر لن تفوته المعارضة الاشتراكية للفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة .
وفي حال تحقق هذا الأمر ، فإن إسرائيل ستكون أكثر المتضررين ليس فقط لأنها كانت تفتخر ليل نهار بأن ابنها المطيع ذي الجذور اليهودية هو سيد قصر الإليزيه وإنما لأن ساركوزى أظهر أيضا عداء واضحا تجاه قضايا العرب والمسلمين وأنهى "الحقبة الذهبية" للتعاطف الفرنسى معهم منذ عهد شارل ديجول .
محيط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق