الأربعاء، 10 فبراير 2010

"رسائل البحر" .. الرسائل أحيانا تأتي من البحر بلا معني


فيلم داود عبدالسيد الجديد‏

داود عبدالسيد واحد من أبناء جيل من صناع السينما المصرية أطلق عليهم‏(‏ الواقعية الجديدة‏)‏ وهي التي اختلفت نوعا ما عن رواد الواقعية من أمثال المخرجين كمال سليم وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح حيث كانت هناك ملامح متقاربة بين العديد من مخرجي تلك المدرسة التي انتشرت أفلامها منذ النصف الثاني من السبعينيات وكانت فورة إنتاجهم في الثمانينيات وبداية التسعينيات مثل أفلام عبدالسيد ومحمد خان وخيري بشارة والراحل عاطف الطيب لعل أهم تلك الملامح التي ميزت العديد من أفلام هؤلاء المخرجين أنها كانت تدور بالأخص حول التحولات الحادةوالعنيفة في مصر في الفترة التي تلت حرب أكتوبر وصاحبت الأنفتاح الاقتصادي والتي أدت إلي تغير العديد من المفاهيم السياسية والاقتصادية وربما تأثير ذلك علي المجتمع ككل‏.‏ لعل تلك الأفلام التي أطلق عليها الواقعية الجديدة ارتبطت بضغط تكاليف الانتاج إلا أن هذا الضغط لم يكن السبب الرئيسي الذي دفع العديد من المخرجين للخروج من البلاتوه والتصوير في الشوارع والشقق والأماكن العامة بل ان الدافع الأساسي عند هؤلاء المخرجين كان الاقتراب من الواقع قدر المستطاع وعرض الحالة الطبيعية والانسانية للشعب المصري بكل طبقاته غير أن حالة النقد السياسي هي التي كانت العنصر المحرك عند أغلب هذا الجيل ولعل فيلم الصعاليك الذي كان بداية طريق صناعة السينما مع عبدالسيد كان واحدا من تلك الأفلام التي رصدت بدايات الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات وحالات الصعود السريعة لما سمي اجتماعيا بعد ذلك بطبقة الـ‏(‏ نوفو ريش‏)‏ أي الاغنياء الجدد‏.‏أما في فيلمه الاخير رسائل البحر‏,‏ فهناك العديد من التفاصيل التي من الممكن ان تناقش إن المجمل العام لشكل الفيلم من الدراما والشخصيات يقرب السيناريو من الأدب ولعل الشكل الذي يطفي عليه تلك اللمحة الأدبية هو صيغة الراوي التي ترصد العديد من الأحداث داخل الفيلم من خلال شخصية البطل يحيي‏(‏ يقوم بالدور آسر ياسين‏)‏ وهو طبيب شاب في مقتبل حياته غير أن مشكلته الظاهرة انه يتهته في الكلام‏,‏ يحاول عبدالسيد‏(‏ وهو كاتب السيناريو أيضا‏)‏ ان يقدم من خلال هذا الشاب حالة نفسية خاصة‏,‏ فهو يترك الفيلا التي كان يعيش فيها مع أهله بعد أن مات والده وأصبح بلا عائل كما أنه لا يرغب في أن يذهب مع أخيه المهاجر إلي أمريكا بل انه يترك كل هذا ليذهب إلي الاسكندرية ليسكن في شقة عائلته ويعيش هناك ويعمل صيادا في البحر‏.‏أراد عبدالسيد ان يشعر المشاهد وكأن يحيي بهذا الانتقال من كنف الاسرة الارستقراطية إلي الاسكندرية يولد من جديد مع بداية احداث الفيلم أو انه يعيد اكتشاف نفسه واكتشاف الحياة من حوله بشكل شعري وبدائي ايضا غير ان تلك التفصيلة جعلت من بطل الفيلم شخصية اقرب إلي المتخلف عقليا بدلا من كونه شابا طيبا ومتواضعا‏,‏ خاصة في اختيار تهتهه الكلام لديه والتي لم يفسر السيناريو سببها علي الإطلاق أو حتي يمنح المشاهد معرفة جدواها الدرامي‏.‏الغريب في السيناريو أوضح ان يحيي الشاب قد أنهي دراسة الطب بتقدير امتياز وهو أمر غير منطقي علي الاطلاق فبالإضافة إلي الدراسة النظرية في كلية الطب فهناك الجزء العملي والذي يتضمن امتحانات شفهية وبالتالي فإن تقدير امتياز تقريبا مستحيل مع حالة الكلام عنده بل ان تقدير مقبول يبدو في منتهي الصعوبة ايضا‏.‏‏*‏ من المؤكد ان الرغبة المحمومة لدي عبدالسيد لعرض أفكاره الفلسفية جعلته يتجاوز عن تلك التفصيلة المهمة كذلك فإن الضرورة الدرامية للفيلم لم تكن تستدعي ان يكون البطل طبيبا علي الاطلاق ربما يكون الأمر الوحيد الذي يبدو انه دفع عبدالسيد لتلك المهنة هي الفكرة الفلسفية عن الاختيار ان يحيي يمتلك مهنة من أهم المهن غير أنه اختار أن يكون صيادا ويقترب من البحر ويترك مهنة الطب التي لم يستطع العمل بها السيناريو ينتقل إلي العديد من الأماكن وراء البطل أثناء تعرفه علي عالم جديد في الاسكندرية ومن خلال تلك التنقلات يسعي عبدالسيد لأن يعرض لنا نماذجه الخاصة من البشرفنجد قابيل‏(‏ محمد لطفي‏)‏ وهو رجل قوي البنية ذو ملامح حادة يتعرف عليه يحيي عندما يدخل إلي أحد بارات الاسكندرية ليشرب الخمر لأول مرة فيسكر ويحمله قابيل إلي شقته فوق أسطح أحد المنازل هنا تبدأ علاقة صداقة قوية بين الطبيب‏(‏ السابق‏)‏ ـ الصياد‏(‏ الحالي‏)‏ وبين البودي جارد في أحد الملاهي الليلية وتبدو شخصية محمد لطفي هي الشخصية الوحيدة في الفيلم التي تمثل عمقا انسانيا كبيرا وتناقضا في الصفات حتي بدت وكأنها تحتاج وحدها فيلما خاصا فبسبب حادث في الماضي استخدم فيه قوته قتل رجلا واصاب إثنين إصابات بالغة‏,‏ اقسم انه لن يضرب أحدا ثانيا لقد شبه نفسه في احد المشاهد بأنه خيال المآتة فقط داخل الملهي الليلي إفشاؤه لهذا السر ليحيي كان تأكيدا علي قوة علاقة الصداقة التي تجمع الرجلين هذا الخط الدرامييتعقد بشكل أكبر عندما يصاب قابيل بتشنجات ثم يكتشف بعد ذلك انه يحتاج للقيام بعملية لاسئصال ورم من المخ وهذه العملية قد تفقده الذاكرة هنا يصبح هذا الخط أقوي الخطوط الدرامية من الناحية الإنسانية إلا ان السيناريست يكتفي بمشهد واحد هو اجمل المشاهد في الفيلم ككل وهو عندما يجلس قابيل وصديقته بيسة ـ‏(‏مي كساب‏)‏ ليملي عليها أسماء اقاربه واصدقائه جميعهم حتي تساعده علي تذكرهم بعد العملية‏.‏يسعي المخرج داود عبدالسيد إلي أن يعرض نوعيات مختلفة من الشخصيات والعلاقات الإنسانية فنجد السيدة الايطالية فرنشيسكا‏(‏ نبيهة لطفي‏)‏ التي تعرفه منذ زمن طويل وربما تشكل في بعض المشاهد حالة من الأمومة تجاه يحييوكانت بينه وبين ابنتها كارلا علاقة عاطفية في فترة المراهقة لم تتجاوز بعض القبلات عند مدخل البيت‏,‏ بدت تركيبة الشخصيتين فرنشيسكا وكارلا وكأنهما بكاكية علي الحالة الكوزموبوليتانية التي كان تعيشها الاسكندرية في الزمن الماضي وتحديدا في النصف الأول من القرن العشرين عندما كانت تقطنها العديد من الجاليات منها اليونانية والإيطالية‏,‏ ايضا فقد استغرق داود عبدالسيد في بداية الفيلم عددا من الدقائق بهدف عرض جماليات العمارة القديمة في الاسكندرية حتي ان هذه اللقطات قربت من إخراج بعض الأفلام التسجيلية‏,‏ وكأن تلك النوستالجيا علي حال الاسكندرية الاجتماعية والمعمارية هي التي سيطرت علي عقلية صانع الفيلم في هذه المجالات‏,‏ هنا تبدو النوستالجيا تيمة مكررة ظهرت من قبل في العديد من الأعمال الفنية لعل أقربها إلي الذهن هو مسلسل زيزينا الذي كتبه اسامة أنور عكاشة واخرجه إسماعيل عبدالحافظ‏.‏حالة نقد الاستهلاكية التي كانت ثمة اساسية في العديد من افلام مخرجي الواقعية الجديدة تبدو مكثفة في حالة رسالة البحر من خلال شخصية الحاج هاشم‏(‏ صلاح عبدالله‏)‏ المالك الجديد للعمارة التي يقطن بها يحيي وتقطن بها فرانشيسكا وكارلا‏,‏ انه المثال المكرر وشديد المباشرة لكل شرور الانفتاح فهو يريد ان يهد العمارة الكلاسيكية والجميلة ليبني ماذا؟ شيء متوقع ورمز فج للاستهلاك مركز تجاري وهو علي استعداد لأن يدفع اي شيء‏,‏ ايضا فإن الحوار الذي يستخدمه والذي لا يخلو من الاستهزاء بتهتهة يحيي والتلميح للعنف الجسدي اذا مارفض يؤكد نمطية الشخصية‏,‏غير أن السيناريو يتجاوز هذه التفصيلة ليحمل الشخصية بكل شرور الدنيا بشكل شديد الكلاسيكية اي انه الشر المطلق فهو يمتلك سوبر ماركت‏:‏ رمز آخر للاستهلاك‏,‏ وهو يمتلك مراكب صيد للسمك لكنه يصطاد بالديناميت‏:‏ رمز استهلاكي اخر ومدمر للبيئة‏,‏ ايضا فإن هناك تلميحات لاستخدام رجال الحاج هاشم للخطاب الديني عند مواجهة يحيي وصديقته نورا واتهامه بالزنا‏,‏ الواقع أن هذا الخط الدرامي وهذه الشخصية اضعفت كثيرا من مجمل تفصيلات الفيلم‏,‏ إذ أنها ايضا تعد من الأفكار التقليدية المكررة ايضا في دراما المسلسلات التليفزيونية‏.‏يركز عبدالسيد علي العلاقة الحسية بين يحيي ونورا‏(‏ بسمة‏)‏ وهي فتاة يتعرف عليها في ليلة ممطرة والتي توهمه بأنها فتاة ليل لنكتشف بعد ذلك انها الزوجة الثانية لرجل ثري‏(‏ أحمد كمال‏)‏ لايريد منها سوي ليلة يقيضيها معها كلما استطاع ان يترك اعماله في القاهرة‏,‏ انها تشعر فعلا انها تتقاضي اجرا مقابل الجنس مع زوجها‏,‏ وبالتالي فإن الفارق الوحيد بينها وبين فتاة الليل هو أن فتاة الليل تنام مع عدد من الرجال انما هي تنام مع رجل واحد‏ الفيلم ينتقل من حيث الراوي يحيي إلي سرد بعض الأحداث علي لسان نورا وهذا التحول بدا غير مبرر وكأنه فيلم جديد أو ان السيناريست لم يستطع شرح حياتها من خلال الأحداث فأوجد دور راو ثان عله يحل العديد من المشاكل السردية‏.‏يحيي يعشق ان يذهب بالقرب من شباك في أحدي العمارات القديمة في الإسكندرية ليسمع عازف بيانو غامض‏,‏ إن تلك التفصيلة في السيناريو تبدو أقرب إلي رومانسية ادب القرن التاسع عشر ولا ترقي بأي شكل لأن تكون لفيلم في القرن الواحد والعشرين غير أن الاسخف في تلك التفصيلة هو أن يخفي السينارست حقيقة هذا العازف الغامض طوال الفيلم لنفاجأ في النهاية بأنه هو الفتاة نورا التي ترتبط مع يحيي بعلاقة حب متذبذبة في بدايتها إلي أن تستقر مع نهاية الفيلم عندما يركبان قاربا في عرض البحر وينهي عليهما المخرج فيلمه وحول القارب الاسماك النافقة من ديناميت الحاج هاشم‏,‏ كان من الممكن ان يكون هذا هو ثاني أفضل مشهد بعد مشهد قابيل وصديقته الا ان مؤثر الجرافيك اضعف من قيمته البصرية‏.‏رسائل البحر اسم رومانسي لفيلم بدا مفككا إلي حد كبير ولا يوحي بأي شيء له علاقة بالأحداث ككل‏,‏ غير تلك الرسالة في الزجاجة التي حملها البحر قبل التيترات والتي هي واحدة من أهم التيمات التي تتحرك بشكل موازي للأحداث‏,‏ فرسالة البحر في البداية تبدو مثيرة للمشاهد عندما تظهر في شباك احد الصيادين فيلقيها في البحر مستعيذا بالله علي اساس انها شيء شرير‏(‏ اقرب إلي السحر الأسود أو العمل‏)‏ إلا أن تلك الزجاجة تظهر ليحيي بعد ذلك وتبقي لغزا غير مفهوم وغير مؤثر لايفسره شيء من الأحداث‏,‏ فغموض لغة الرسالة تجعلها لا تحمل اي تفسير‏,‏ إلي أن نصل لختام الفيلم حيث تقول نورا ليحيي بأن تلك الرسالة ربما تكون من بحار لاهله او وصية او صلاة راهب لكن المهم انها رسالة من البحر ليحيي ذاته‏,‏ والواقع رغم رومانسية تلك الجملة الا انها لا تحمل اي معني منطقي بل ان عدم وجودها كان من الممكن ان يعطي الخط الدرامي غموضا هو الأفضل للفيلم‏.‏المخرج داود عبدالسيد هو مخرج متميز يستند علي حس بصري قوي‏,‏ الا ان المشكلة الاساسية في العديد من افلامه انها تحمل بكثير من المعاني الفلسفية اكثر مما تتحملها دراما الفيلم مثل البحث عن سيد مرزوق‏(1991),‏ ومواطن ومخبر وحرامي‏(2001),‏ وأرض الخوف‏(1999)‏ ومن الواضح ان رسائل البحر لم يخل من تلك اللمحات الفلسفية والفكرية الواضحة تماما علي العديد من شخصيات الفيلم التي كانت تتحدث بشكل فلسفي طالما كانت اللقطة قريبة‏(‏ كلوز أب‏)‏ عليها‏,‏ وكأن عبدالسيد لديه رغبة مستميته لاستنطاق شخصيات الفيلم بما يحمله هو من أفكار فلسفية كلما تسنت له الفرصة بينما نجد في فيلم مثل الصعاليك‏(1985),‏ وأرض الأحلام‏(1993),‏ او سارق الفرح‏(1995)‏ ان هذه الفلسفة والرؤية الفكرية تأتي في المرتبة الثانية وتقفز في المرتبة الأولي الحالة الفنية والانسانية‏,‏ ولعل فيلم الكتكات‏(1991)‏ يعد افضل افلامه علي الإطلاق حيث خلق فيه عبدالسيد لغة سينمائية خاصة متميزة مما يجعل كلا من الناقد والمشاهد يستمتعان بمشاهدته مرات ومرات حتي الآن‏.‏

الاهرام المسائي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق