تشهد مصر المحروسة اليوم وقائع افتتاح مشروع ربما يمكن وباختصار شديد وصفه بالمشروع المعجزة.. أما ولماذا أصفه بالمعجزة؟! فلأنه لايسجل فقط دخول مائة مليون وثيقة مصرية تحكي كل صغيرة وكبيرة حدثت في بر مصر منذ العصر الفاطمي وتضم وثائق الحملة الفرنسية والحجاز وتاريخ السودان واريتريا والقرن الافريقي ودول حوض النيل وتركيا وكريت والعراق وايران والمغرب العربي بل وكل تاريخ العالم الاسلامي وحوض البحر المتوسط الي عالم الرقمنة والكمبيوتر وحفظها من الضياع. ولكن أيضا لأنه يعتبر مشروعا مصريا شارك فيه الكثير من الجهات ومنها مركز التراث الحضاري والطبيعي الذي مثل وزارة الاتصالات والتي مثلت الخبرة التكنولوجية في التعامل مع الاوراق والوثائق المصرية ووزارة الثقافة الممثلة في دار الوثائق القومية التي شهدت معركة إحياء تاريخ مصر وتراثها علي أرضها.واما المدافعون عن هذا التاريخ فقد كانوا أكثر من ألفين شاب مصري جري تدريبهم ليقوموا بهذه المهمة الصعبة في خلال أربع سنوات.وهو الزمن الذي لم يكن يكفي في البداية وبحسابات الورقة والقلم ولكنهم المصريون..نظرة الي الدار:ومقتنيات دار الوثائق المصرية وكما يقول د. صابر محمد عرب رئيس مجلس ادارة دار الكتب والوثائق ليست مجرد أوراق نمطية وانما وثائق ذات قيمة تاريخية كبيرة يرجع بعضها الي العصر الايوبي والمملوكي مرورا بالعصر العثماني والقرن التاسع عشر وصولا الي ستينات القرن العشرين. وهي تشكل الذاكرة الثقافية والادارية والسياسية والعسكرية للدولة المصرية وهي مرجع كل المؤرخين المصريين والعرب والاجانب باعتبارها المصدر الرئيسي لتاريخ مصر.وهذه الأوراق كانت عبارة عن أكوام مكدسة بعضها في شكل دوسيهات وبعضها في شكل مجموعات مكومة في صورة غير لائقة. وكان يوجد لها قاعدة بيانات لاتزيد علي10% من مقتنيات الدار. لهذا أردنا أن نعرف بالمقتنيات في شكل قاعدة بيانات الكترونية وحفظ وتوثيق التراث وتسهيل الاعتماد علي هذه الوثائق للباحثين وصناع القرار في الإدارة المصرية.واذا أردت أن أشيد بهذا المشروع فلانه الي جانب حفاظه علي التاريخ المصري قد توصل الي إعادة تأهيل كل العاملين بدار الوثائق وإعادة الهيبة للارشيف المصري ومكانته العلمية والفنية وسط أرشيفات العالم.ويشرح د. رفعت هلال ـ مدير المشروع عن دار الوثائق القومية مهمة الدار التي اعتبرت امتدادا للدفتر خانة مصرية التي تأسست عام1828 تم تغيير اسمها في نهاية القرن19 الي دار المحفوظات العمومية ثم دار الوثائق التاريخية القومية عام1954 والتي كانت مهمتها من مائتي عام اقتناء الوثائق. ومما يذكر أن حركة نقل الوثائق قد زادت في التسعينات خاصة بالنسبة لوثائق المحاكم الا أن الدار انتقلت من مكانها القديم بالقلعة الي مكانها الحالي بالكورنيش بعد زلزال92 وعند نقل هذه الوثائق والي عام2002 لم يكن العاملون بالدار قد استطاعوا فرز واخراج أكثر من10% من مقتنيات الدار فلهذا كان لدينا ضغط بسبب هذه المشكلة وكان الحل هو الارشيف الالكتروني.والحقيقة أنه في أول عملنا صدمنا بحال المخازن وقمنا بعملية فرز هائلة, ولم يكن هناك عدد كاف من الشباب لهذه المهمة لعدم وجود هذه الكوادر الشابة فقمنا بتجهيز ورشة عمل لمدة ثلاثة أشهر, وبدأنا الفرز والتنظيم وصممنا الاستمارة النموذج وهي من أهم التحديات التي واجهتنا لأننا في الاصل ملتزمون بمعايير عالمية والوثائق كانت مختلفة فكان لابد من التوصل إلي هذه الاستمارة التي تتفق مع المقياس العالمي لاتحاد الارشيف, وهذا استغرق منا ستة أشهر من العمل المتواصل, ثم بدأت حركة تجميع واستخلاص المعلومات. وهذا مجهود كبير خاصة بالنسبة لبعض الوثائق كالوثائق العثمانية التي لاتفصح عن مضمونها من السطور الاولي.أما التحدي الثاني فكان ضبط الجودة وتكوين فريق لمضاهاة قاعدة البيانات بمكان الوثائق وقمنا بعمل مكنز قاموس للضبط والتصحيح لنصل الي درجة جودة تعدت الـ90%.في القرية الذكية:أما التعامل الالكتروني للوثائق فهذه قصة أخري دارت حولها حوارات ومناقشات علي أرض مركز التراث الطبيعي والحضاري التابع لوزارة الاتصالات في القرية الذكية والسبب كما يؤكد د. فتحي صالح مدير المركز لانه يعتبر مشروعا قوميا مثل مشروع الرقم القومي, وهو مشروع انقلابي لاننا نتحدث هنا عن مائة مليون وثيقة وهذا يحتاج لوقت طويل خاصة أن عنصر الوقت مهم في مثل هذه المشروعات ولايمكن الاعتماد علي فرز واعداد يدوي.ولهذا فشكل استدعاء المعلومة تغير تماما صالة استقبال بها كمبيوتر يستعلم من رواد دار الوثائق عما يريدون معرفته. وهناك مستويات اطلاع مختلفة علي الوثائق. وهناك وثائق وضعت علي موقع علي شبكة الانترنت كنماذج وتوجد وثائق أخري لايطلع عليها الا داخل الدار.وأعتقد أن هذا المشروع يمكن أن يندرج تحت عنوان ذاكرة العالم, وهو أحد الخطوط الرئيسية لتعامل اليونسكو مع التراث الانساني, ويمكن أن يكون هناك ربط الآن بين هذا المشروع وبين هيئات كثيرة.وتؤكد د. هدي بركة مساعد أول وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أن واحدة من مهمات وزارة الاتصالات هي ادخال تكنولوجيا المعلومات في المجتمع المصري. فكل الخدمات والوزارات يدخل عملها من هذا الباب, وهناك أيضا جزء مهم بتاريخ وتراث مصر ولابد من التعامل معه الكترونيا للحفاظ عليه. ولدينا هدف آخر ـ والكلمة لها ـ بالنسبة لهذا المشروع وهو زيادة المحتوي العربي علي الانترنت, حيث ان المحتوي الموجود حاليا لا يمثل ولا يليق باي حال بحجم الدول العربية. ولدينا لهذا الكثيرمن المشروعات الاخري التي تتبناها الوزارة.وتحكي اجلال بهجت مدير المشروع عن مركز التراث الحضاري والطبيعي ونائب مدير المشروع ان البداية كانت بمشروع استرشادي لتوثيق50 الف وثيقة من دار الوثائق لمدة سنة. وكان ينبغي قبل اي شيء التعرف علي امكانات دار الكتب اولا بناء علي هذا المشروع تم توقيع بروتوكول بين وزارة الثقافة والاتصالات وقد وجدنا اننا لكي ننفذ المشروع في الوقت المحدد فلابد من تسجيل نصف مليون وثيقة في الشهر وهو ما يعني ايضا تسجيل25 الف وثيقة يوميا. ووجدنا امام هذا الكم الهائل من الاوراق والوثائق انه لابد من البحث عن وسيلة مجدية فاعتمدنا علي اسلوب التسجيل الصوتي لبيانات الوثائق ثم تحويل الصوت الي موجات رقمية. وبالفعل وبهذا الاسلوب بدأنا بـ25 الف تسجيل في اليوم ووصلنا الي40 الفا. فهناك شباب كان يسمع ويكتب لعمل قاعدة بيانات ثم المراجعة وضبط الجودة. وقد تم تجميع ملفات الدار في اكثر من600 الف ملف, وهناك مسح ضوئي لنحو150 الف وثيقة كمرحلة اولي.وبالاضافة الي هذا فقد قمنا بارسال مجموعات لزيارة الارشيف الفرنسي والبريطاني والتركي لنطلع علي تجاربهم. وحدث تدريب دقيق لكل الذين يقومون بالتجميع والادخال الآلي والمراجعة وضبط الجودة لكي ترتفع الانتاجية.اما الموقع الالكتروني فيضم ايضا الي جانب مجموعة من الوثائق المتاحة كل شيء عن بيانات واخبار الدار والدورات التدريبية وجزء اعرف تاريخك وهذا يساعد الطلبة والدارسين.بالاضافة الي محاولتنا ربط الوثائق بالاحداث الجارية حيث ابرزنا وعلي سبيل المثال وثيقة تبين منح الخديوي لارض النادي الاهلي مقابل جنيه واحد سنويا. كما لدينا جزء متكامل عن سكك حديد مصر التي كانت ثاني سكك حديد في العالم.وتضيف نائب مدير المركز: وبالنسبة لهذا التوثيق فقد جمعنا كل مجهوداتنا في عشرة مجلدات مختلفة فكل شيء مفصل من الناحية الفنية واطلقنا بعد هذا كتابا يوثق التجربة بشكل عام.فوزارة الاتصالات قامت بكل ما له علاقة بالتكنولوجيا وقامت بتوفير شبكات وحاسبات داخلية وربط الشبكات في حين دار الوثائق قامت باعداد المحتوي الذي يوضع بالداخل والمراجعة.ويقول د. هشام فاروق علي مدير ادارة المحتوي الرقمي بوزارة الاتصالات ان وزارة الاتصالات تقوم الآن بالعديد من المشروعات الخاصة بالتراث والآثار والاعلام مثل انشاء موقع لمدينة الاقصر عليه موقع زيارات تخيلية وهناك مشروعات لتسهيل العمل داخل مجلس الشعب ومجلس الوزراء الا ان هذا المشروع يظل المشروع الاهم لانه احتاج منا إلي تصرف وابتكارات جديدة لتلافي وقوع اخطاء وتحقيق عنصر السرعة والانجاز. فدخول مائة مليون وثيقة الي مجال التكنولوجيا وميكنة مقتنيات دار الوثائق القومية ليس بالامر الهين لاعداد قاعدة بيانات25 مليون وثيقة وعمل مسح ضوئي لألف وثيقة وانشاء موقع الكتروني لدار الوثائق القومية.ويشير د. محمد رضا مدير شركات المشروع الي ان فكرة الاستعانة بالصوت لتسهيل العملية الالكترونية وتحويله الي موجات رقمية تصلح للتسجيل كبراءة اختراع, وقد حصلنا بالفعل علي جائزة خاصة بالمشاريع التنموية بهذا الاختراع.ففكرة الصوت تجعل العاملين بالدار يقومون بقراءة الوثيقة لتنتقل فيما بعد عبر مراكز الادخال في القاهرة والصعيد, وهو ما ادي إلي الاستعانة بألف وخمسمائة شخص.ويعتقد المهندس عمرو غنيم ان هذا التعامل مع التكنولوجيا قد ساعد ليس فقط علي نشر الوعي بالتراث المصري ولكن الي جانب هذا توفير فرص تدريب جديدة لشباب المصريين.ويشرح المهندس عمرو احمد علي ان هذا الحل الصوتي هو الذكي لانه بهذا الاسلوب قد جعل لدينا القدرة في تغيير اسم اي ملف والتحرك بيسر. ولهذا ففي التطبيق العملي تعدينا ما كان منصوصا عليه بالتسجيل للوصول الي40 ألف تسجيلة في الاسبوع.كما ان وجود واستخدام تكنولوجيا العلامة المائية لكل صورة من صور الوثائق التي اجريت لها مسح ضوئي هو الحل لعدم السرقة او التعدي او محاولة تغيير ما جاء في الوثيقة وكجزء من تأمين الموقع. ويوجد بالدار الآن وحدة لعمل المسح الرقمي مزودة بخمسة اجهزة ماسح ضوئي.وهناك نجاحات اخري بناء مركز لديه جهاز ضخم للمسح الضوئي يمكن للدار ان تقوم بتشغيله والعمل عليه منفردة.ولهذا كمصري اشعر بالفخر لان اكثر ما حدث له تطور هو الفكر نفسه. فالناس كانوا يستبعدون ادخال التكنولوجيا في حياتهم وعملهم والآن تغيرت هذه الفكرة وخاصة في هذاالمشروع الذي رفع الكفاءات الشابة واوجد لهم فرص عمل بالخارج وهذا ما جعلنا ندرب شبابا آخرين والدائرة متصلة
الاهرام - د. هالة أحمد زكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق