يجلس «البطل» وحده فى مواجهة زملائه الذين سيكونون «الجمهور» وبعضهم سيكون «ممثلا مساعدا»। يقوم «المخرج» بالتحاور مع البطل حول شأن يخصه ويطلب من الجمهور أن يحاوره أيضا حول نفس الأمر. وعندما يحتدم النقاش يأمر المخرج أحد الجالسين فى مقاعد الجمهور أن يقوم ليلعب دورا ما متعلقا بالبطل: دور أبيه أو أمه أو أخيه أو صديقه أو خطيبته. يرتجل الممثلون والبطل تفاصيل المشاهد التى يقترحها المخرج ويدفعها باتجاه معين. يلعب بالإضاءة أو تغيير أماكن الممثلين أو يعلن عن موت أحدهم أو غياب آخر، يطالبهم بعقد علاقات وصلات أو تمثيل حالات معينة أو تخيل أحداث معينة ويترك المشاهد تتوالى وتتصاعد ويحاول أن يتخطى الزمان والمكان باستحضار الماضى أو القفز للمستقبل، استدعاء الأموات أو الغائبين، تجسيد الأفكار والرغبات فى أشخاص يتكلمون ويحاورون البطل. يصل الأمر غالبا لذروة انفعالية حين يعبر مشهد ما عن وجه مؤلم أو قاس أو كاشف عن مشكلة البطل أو أزمته بعد أن قلبّتها مشاهد مختلفة على أوجه متعددة. ينهى المخرج المسرحية الارتجالية عند درجة معينة ويدير نقاشا هادئا بين كل الحاضرين حول ما حدث قبل أن يتفرق الجميع. المخرج هو د. خليل فاضل والمسرح هو غرفة «السيكودراما» فى عيادته الخاصة والحضور الذىن يتناوبون على أداء دور البطل والممثلين المساعدين والجمهور هم زوار عيادته ممن يقصدونه للعلاج من متاعب نفسية يمرون بها. منذ 9 سنوات يستخدم د. خليل فاضل فى موعد أسبوعى ثابت أسلوب «السيكودراما»، الذى يسمى أيضا «المسرح النفسى العلاجى». وهو الأسلوب الذى ابتكره جاكوب مارينو، الطبيب النفسى الأمريكى من أصل نمساوى، فى الأربعينيات واستخدمه أولا لمعالجة جنود شاركوا فى الحرب العالمية الثانية. وهو يعتمد على المزج بين فن المسرح وبين أسلوب العلاج الجماعى الذى يقوم فيه المعالج بإدارة مجموعة من المتعالجين الذين يشاركون بعضهم البعض بمشكلاتهم وهمومهم ومتاعبهم. يتم التحضير لجلسة السيكودراما بالإحماء، حيث يجلس المشاركون فى حلقة يعرفون أنفسهم سريعا ويذكرون ما يحضر على ذهنهم من المواقف والأحداث أو آخر ما مروا به الأسبوع الماضى بشكل عام أو ما هو متعلق بمشكلتهم الأساسية. يقوم كل واحد بذلك ويختار من يتكلم بعده سواء يعرفه أو لا، يلقى إليه بكرة خيط يظل طرفها عند المعالج/ المخرج، وإن لم تكن موجودة يتخيل المشاركون وجودها ويمثلون تسليمها إلى بعضهم البعض ويسملها آخرهم إلى المعالج مرة أخرى. ومن الحكايات والبوح يحدد المعالج ــ الذى يعرف خلفيات كل مشارك ــ من سيكون البطل هذه الليلة، ليأخذ دوره فى مواجهة الباقين وتبدأ الدراما. يقول د. خليل فاضل: «تعتمد السيكودراما على تكثيف اللحظة وحرق المراحل، فهى تساعد على سرعة علاج مشكلات نفسية قد تستغرق سنوات طويلة إذا تم علاجها بالأدوية فقط أو بالجلسات التقليدية. فى السيكودراما نستدعى الماضى أو المستقبل، كما نستحضر مشاهد من الحاضر ولكن بعد «تأطيرها» أى وضعها فى إطار جديد، فالمشارك يتفاعل مع شخصيات وأحداث بشكل مكثف وليس كما يحدث فى الواقع». السيكودراما إحدى أشكال العلاج بالتعبير وهى تعتمد على أحد مبدأين. أولهما أن الأداء والتعبير الفنى له تأثيرات صحية وأن له دورا فى التعافى وهو ينطبق أكثر على العلاج بالفنون المختلفة Art therapy، وثانيهما أن التعبير الفنى فيه مجاز ورمزية يتيحان تعبيرا وتواصلا لا تتيحه اللغة العادية والتواصل العادى. والسيكورداما تعتمد بعض الشىء على المبدأ الأول لكنها أقرب للاعتماد على المبدأ الثانى. ينصح د. خليل فاضل بجلسات «السيكودراما» عملاء عيادته ممن يشكون من إعاقة اجتماعية ما أو مشكلتهم تتعلق بالتواصل مع الناس والمجتمع. وهذا يشمل ممن يعانون من مشكلات أسرية أو مشكلات زوجية أو اضطرابات فى الشخصية أو الإدمان وربما بعض المرضى العقليين إن كانت حالتهم تسمح ويمكنهم التواصل مع آخرين. ولكن د.خليل فاضل يوضح: « فائدة جلسة السيكودراما لا تتوقف على البطل الذى تدور المشاهد حول مشكلته، فهى أيضا تعطى كل فرد الفرصة أن يلعب أدوارا مختلفة لا يؤديها فى الحقيقة، وأن ينظر للمشكلات من زوايا مختلفة، وأن يرى غيره يفصح عن مشكلته بصراحة وبلا خوف ويمثلها أمامه قبل أن يأتى دوره هو أيضا ليفعل ذلك. واحد ممن كتبوا عن السيكودراما قال إنها: فضح متبادل». أحيانا ما يتماهى شاب يشكو فى الأصل من انطوائيته مع دور شاب جرىء متمرس فى «غواية» الفتيات أو أن ينفعل شخص متدين ليتوجه بحديثه إلى الله. «لا تابوهات فى جلسات السيكودراما» كما يقول د.فاضل، «لكن أحيانا ما أحول مسار الدراما لو شعرت أن المشاركين يفتعلون مخرجا ثقافيا لمشاكلهم الشخصية، فأحيانا ما كادت تتحول الجلسات إلى ندوات سياسية تشكو أوضاع البلد وسوء الخدمات والفساد وغير ذلك. وقد يكون ذلك من الحيل الدفاعية النفسية التى نتهرب خلالها من مواجهة مشكلات المباشرة». ولكن بالتأكيد، المشكلات الشخصية المتكررة والتى تظهر عند «أبطال» جلسات السيكودراما تعد مؤشرا على مشكلات اجتماعية. يخص د.خليل فاضل منها مشكلة علاقة الآباء والأبناء. ويعتبر أكبر المشكلات تكمن فيما يسميه «الإخصاء» الذى يمارسه بعض الآباء ضد أبنائهم الذين يفشلون فى التمرد عليهم إلا بعد إصابتهم بمتاعب نفسية: «أتعجب من شباب تجاوزوا الثلاثين ويعانون من أن آباءهم لا يزالون يتحكمون فى تفاصيل حياتهم، ليس فقط مكان السكن والزوجة والعمل، بل حتى ماركة البنطلون!» المشكلات بين الزوجين والمشكلات المتعلقة بالجنس وحالات القلق الدينى والأفكار التى تخشى الإعلان فى الحياة العادية تجد متنفسا فى السيكودراما. ففى إحدى الجلسات أفصح واحد من الشباب أنه يشعر بمتعة شديدة عند تناول البيرة فى نهار رمضان، وعلى الرغم من انتقاد الآخرين له إلا أنه دخل معهم فى جدل صريح بلا خوف أو خجل من نفسه. وفى مرة أخرى أثناء نقاش حول سلوك البنات والشرف وقفت فتاة غير متزوجة لتصرخ فى الجميع: «أنا لست عذراء! عاوزين حاجة؟» وباحت للآخرين بتجربتها بكل قوة، ولم يقم أحد من زملائها بوصمها أو الابتعاد عنها بعد ذلك. لكن د.فاضل يقول إن بعض الآباء من المشاركين أصيبوا بالذعر من ذلك وبدأوا فى التقرب من بناتهم ومحاولة التعرف على حياتهم بشكل أقرب. يتعلم المشاركون مرة بعد مرة القدرة على الدفاع عن وجهة نظرهم أو الاعتراف بأخطائهم بشجاعة ولكن تظل فائدة السيكودراما الأهم كما يقول د. خليل فاضل أن المشاركين من خلال وضع أنفسهم فى أدوار مختلفة أو التعاطف مع البطل يتعلمون ألا يحكموا على الناس من خلال منظورهم الخاص فقط.من نافذة الخيال تدخل الصحة النفسية يفتح نافذته صباحا فيجد وردة بلدى حمراء! يتعجب لأنه يسكن فى الدور العاشر. يلقى بنظرة إلى الشجرة التى تستقر أسفل العمارة فيجد أن فرعا بعينه امتد وطال حتى وصل إليه بالوردة وكأنه يقصده تحديدا. يقص الوردة ويضعها فى كوب ماء بسكر، يتناول ساندوتش جبنة رومى، يرتدى ملابسه على مهل. ينزل فيكتشف أن ربع ساعة فقط تبقت على موعد عمله، ولكنه يجد أكثر من ميكروباص متجهين إلى التحرير يقفون لإشارته، أحدهم يفتح له الباب ويخبر الباقين:«خلاص، الأستاذ معايا». يجلس مستريحا على مقعد لا يزاحمه فيه أحد. يفاجئه أن السائق يعطيه زجاجة مياه غازية. يشربها ويفكر أنه سيعطيه ثمنها فوق الأجرة. وهو ينزل يحاول فعل ذلك فيقسم السائق أنه لن يأخذ إلا الأجرة المقررة وأن المياه الغازية «عزومة» وتحية. يدخل إلى عمله فيكتشف أنه تأخر عشر دقائق، يعتذر لمديره فيتقبل اعتذاره فى ود، يدخل إلى زملائه الذين يخبروه أن المدير لم يغضب لأنهم قاموا بدلا منه بكتابة الأوراق المطلوبة على الفور. يجلس مطمئنا ويؤدى عمله وفى نهاية اليوم يرحل فى موعده. وأول ما ينزل يجد نفس السائق ينتظره بالميكروباص لكى يعيده إلى بيته ويقول له أنه أحبه «لله فى لله». يحكى محمد مهدى ــ مدرب الدراما العلاجية فى دار الصحة النفسية بالمقطم ــ أن هذا المشهد تخيله ومثّله أحد المرضى فى إحدى الجلسات عندما طلب منه أن يتخيل يوما من أجمل أيام الدنيا: «لقد ضحكنا معا على المفارقات وبكينا معا على بساطة الحلم وجماله فى الوقت نفسه». بين الكوميديا والمرح واللعب والعبث من جانب والاندماج الذى يصل بالمجموعة أحيانا إلى البكاء تمضى جلسات الدراما فى دار الصحة النفسية ــ الشهيرة باسم مستشفى الرخاوى. يوضح د. محمد الرخاوى ــ أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة ومدير المستشفى ــ أن الدراما العلاجية كما يقدمونها هى أحد أشكال العلاج بالفن لكنها تختلف عن «السيكودراما». فالأخيرة تقلب فى جذور المشكلة النفسية لدى المريض وتجعلها تبرز على السطح فى قوة وسرعة، وهى مسئولية كبيرة ويجب أن يكون هناك دائما معالج نفسى شديد الخبرة واليقظة لكى يتعامل مع ذلك بشكل مناسب. ويضيف: «ولكن فى الدراما العلاجية Drama therapy فنحن ببساطة نلعب وننمى أنفسنا. نحن نعالج لا بالتوجه نحو المشكلة ولكن بالصحة النفسية، نمارس السلوك الصحى وندعه يستبعد السلوك المرضىّ». الدراما هى الفن الأقرب للحياة اليومية، كما أنه يمكن أن يشمل داخله فنون الأداء جميعها، الأداء الصوتى والحركية، يمكن أن يشتمل على موسيقى وغناء ورقص. ولذلك يتحيز د. الرخاوى للدراما كنشاط مفيد للصحة النفسية لأى إنسان وليس المرضى فقط. فالتمثيل يوفر مهارات مطلوبة للتكيف فى الحياة، أهمها أن يتمكن كل إنسان من لعب أدوار مختلفة ولا يتصلب فى دور واحد. يقول د. الرخاوى :«عندما تقف فى الطابور ربما تحتاج عدة أدوار، مرة دور القوى الغضوب حين يريد أحدهم أن يأخذ دورك، دور المتعاطف إن وجدت سيدة عجوز متعبة من الوقوف وتطلب أن تأخذ دورك، ربما تلعب دور المتفاوض مع آخرين. أن تؤدى دورا واحدا فى كل الحالات فهذا هو التصلب فى قالب واحد، والقدرة على لعب أدوار مختلفة هذا ما نسميه المرونة وهى من علامات الصحة النفسية». فى أحد تمارين جلسة الدراما، يأمر المدرب محمد مهدى كل مشارك أن يسير على سجادة حمراء مرة كأنه وزير ومرة كأنه رجل أعمال ومرة كأنه ممثلة جميلة مشهورة ومرة كبطل رياضى. يقول مهدى: «فى كل حالة هو فقط يتقمص حالة ويعيش شعورا لا يعيشه فى الواقع، كما أن جسده يتشكل مع كل حالة وهى خبرة مختلفة». تشكل الجسد بأسلوب غير معتاد فى حياة الفرد، هى فكرة العلاج بالرقص الذى يمارسه البعض بمعزل عن الدراما، فالاعتقاد وراء هذا الأسلوب من العلاج أن الخبرة الجديدة للجسد تجعل الشخص يجرب جانبا من أسلوب حياة جديد غير معتاد بالنسبة له. مزج الدراما بالموسيقى والغناء أيضا يضفيان أجواء مرحة وممتعة على جلسات الدراما، وقد يكون لها دورها العلاجى. يشرح محمد مهدى: «الغناء فيه تنظيم للنفس وإخراج للطاقة وانفتاح للذات على الخارج فهى تؤدى وتستعرض، عكس الحالة المرضية من بطء أو تسارع النفس أو الميل للانسحاب إلى الداخل». ممارسة التمثيل تخرج المريض من عزلته وتجعله منفتحا على الآخرين، كما أنها فرصة لتفريغ المشاعر المكبوتة. بعض الأشخاص الملتزمين قد يجد فرصة لعيش خبرة جديدة تتعلق برغبات دفينة لديه مثل أن يؤدى دور شخص يغازل فتاة أو يمثل شخصية رئيس عصابة. «أوجه شخصياتنا التى أخفيت عن الآخرين تخفى علينا نحن أيضا» ولذلك يرى د. الرخاوى أن «التمثيل يعطينا الفرصة لإعلاء صوت أجزاء من أنفسنا لا نعترف بها ولا نتحملها، وفى الوقت نفسه يتم استيعابها فى المساحة الآمنة للعب الدرامى». الدراما أيضا تمنحنا فرصة إعادة تمثيل أدوارنا فى الحياة ولكن مع «مسافة» ما. «موازنة المسافة أو ضبطها من أهم المهارات النفسية الصحية المطلوبة»، يضيف د. الرخاوى: «بعض الناس تندمج فى مشكلتها تماما أو فى مشكلة غيرها وتغرق فيها، والبعض الآخر يضع مسافة كبيرة بينه وبين مشكلته أو مشكلة غيره فيتعامل بتبلد وبرود. فى التمثيل يتعلم الممثل أن يكون معايشا للشخصية ولكن ليس مبالغا أو Over وهذه المسافة الجمالية المطلوبة فى الفن هى المسافة الصحية المطلوبة فى الحياة». ألوان جديدة للحياةيقفان على طرفى غشاء شفاف، بالتبادل يمسك كل منهما بالألوان ويبدأ فى «شفّ» صورة الآخر على اللوحة الشفافة. ولأنه لا يمكن أن يظلا يحدقان فى بعضهما البعض بلا كلام يبدآن فى تجاذب أطراف الحديث، ثم الابتسامات والقهقهات، وشيئا فشيئا تتوطد علاقة بدأت بتأمل كل منهما للآخر. هذه اللعبة ابتكرها محمد عبلة ــ الفنان التشكيلى ــ وسماها «تجربة التفاعل» وسجلها باسمه كأحد أساليب العلاج بالرسم. ويذكرها تحديدا ليقول إن العلاج بالفن دائما فيه مساحة مشتركة لفائدة الجميع وليس فقط المرضى النفسيين، فهو يطبقها فى ورش لمن لا يعانون من أى متاعب نفسية بغرض الحصول على ميزات التفاعل والتواصل من خلال اللعب والفن. عقب تخرجه فى كلية الفنون الجميلة وفى أثناء دراسته للفن فى سويسرا، بدأ محمد عبلة الاهتمام بالمساحة المشتركة بين علم النفس والفن، والتحق بمعهد «يونج» ودرس به ثم افتتح بالاشتراك مع طبيبة نفسية سويسرية عيادة للعلاج بالرسم: «كان الأطباء والمعالجون يحولون إلينا الحالات المستعصية التى وجدوا صعوبة بالغة فى التعامل معها، وكنا بخلافهم لا نهتم بتحليل العقدة أو المشكلة ولكن نستخدم الرسم كنشاط يعطى المريض لغة جديدة يتواصل بها مع نفسه ومع العالم وتساعده على مواجهة مشكلته». يرى عبلة أن المعالج بالرسم يجب أن يكون مختلفا عن الطبيب النفسى الذى يتعامل مع المشكلة وعن مدرب الرسم الذى يركز على التقنيات الفنية، فعلى العكس منهما يجب أن يلتقط الإشارات فيما يرسمه المريض ويوجهه شيئا فشيئا لكى يكون شكلا ذا معنى وليس مجرد شخبطة وأن يخرجه من حالة تكرار الخطوط والإصرار على تفاصيل محددة والميل لألوان بعينها إلى حالة من المرونة والتنوع والتوازن. بعض الحالات تعبر بشكل صارخ عن مشكلتها، إذ يحكى محمد عبلة: «عندما بدأ مدرس للتاريخ بالمرحلة الثانوية جلسات العلاج كان يرسم دائما زنزانة بألوان قاتمة ويرسم نفسه جالسا داخلها أو مشنوقا فى سقفها، كان تعبيره واضحا عن إحساسه بأنه محبوس فى إطار حياة نمطى ومكرر وأن هذه الفكرة تسيطر عليه». لم يناقشه فى مشكلته ولكنه اقترح عليه أن يرسم الزنزانة ولكن بلا قضبان حديدية، وفى مرة لاحقة أخفى عبلة الألوان القاتمة، فبدت اللوحة وكأنها لغرفة عادية، ومرة فمرة بدأ المدرس يكتشف أنه يرسم أشياء مختلفة. ربما أعجبه التنوع الممكن من خلال الرسم واكتشف فيه متنفسا لأنه أخبر محمد عبلة أنه اشترى لوحة وألوانا وبدأ فى الاهتمام بالرسم بشكل كبير وساعده ذلك على تحسن حالته. «الاغتراب عن الجمال والانغماس فى حياة روتينية نؤدى فيها مهام نمطية ونجمع أموالا ننفقها على أنفسنا وأولادنا ليدوروا هم أيضا فى نفس الحلقة هو مصدر للمرض النفسى»، هكذا ترى نجلاء صالح، الإخصائية النفسية المسئولة عن العلاج بالعمل اليدوى الفنى فى دار الصحة النفسية. «هذه الحياة تفرض تنميطا على شخصياتنا والمرض النفسى هو شكل من الاختلاف ولكنه اختلاف سلبى ولذلك يتم احتواؤه من خلال الأعمال الفنية». يقوم المرضى فى المستشفى بإنتاج أعمال فنية بسيطة مثل تشكيل الخشب أو صنع لوحة بالرمل الملون. وترى نجلاء صالح أن أهم ما فى الأمر أن يتعلم المرضى أن كل إنسان قادر على إنتاج الجمال وليس فقط قادرا على إنهاء عمل روتينى بمقاييس يرضى بها الناس، كما أنه يتذوق متعة أن يبدع شيئا يحبه ويعجبه. المريض النفسى يكون مغتربا عن فكرة الجمال حتى فى مظهره الشخصى، وعندما ينفتح عليها يبدأ فى الاهتمام بنفسه». تتنوع جلسات العلاج بالعمل اليدوى بين الاهتمام بتنمية مهارات ذات طابع فردى وأخرى ذات طابع اجتماعى، فتبدأ الجلسات بشكل فردى لكى يكتشف كل مريض ذاته ويؤمن أنه قادر على الإنجاز بنفسه ولكى يتعلم أن يتبع إحساسه ويقوم بالأشياء بشكل يرضيه. وفى الجزء الجماعى تنمو مهاراته الاجتماعية ويتدرب على أن يعمل فى مجموعة ويرى نفسه جزء من كل. تقول نجلاء صالح: «العمل اليدوى الفنى نفسه ينمى بعض المهارات التى تساعد على التكيف والتواصل الاجتماعى، فإنجاز اللوحة يتطلب إدراك الوحدة الكلية بكل أجزائها. فيتعلم أن يرى مشكلته كجزء من كل أو أنها مقسمة إلى مشكلات يمكنها أن يتعامل معها واحدة واحدة. ويرى نفسه جزءا من مجتمع عليه أن يفهمه ويتواصل معه ولكنه أيضا جزء متميز له هويته، كما أن متعة إنجاز العمل الفنى تخرج المريض من حالة الخمود والتراخى وتنمى لديه المثابرة والإقبال على العمل والحياة».
الشروق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق