بدون مقدمات.. هذا التحقيق الصحفي عن وسائل وأماكن إخفاء ثروة عائلة مبارك وكيفية استعادتها استغرق الحصول علي معلوماته ثلاثة أسابيع من السعي الدؤوب المتواصل.. وفرض عليَّ السفر إلي لندن.. وجنيف.. وزيورخ.. والاتصال عبر شبكة الإنترنت بخبراء في نيويورك.. إن كل كلمة فيه حقيقة.. والحقيقة دائما أغرب من الخيال. 1
لو لم تكن المستندات الرسمية التي تحت يدي سليمة.. يستحيل الطعن فيها.. لما صدقت أن أحدا في مصر كان يستطيع تأسيس شركة أو تعديلها دون موافقة مباشرة من حسني مبارك.. شخصيا.
كانت التعليمات الرئاسية المشددة التي يوصلها زكريا عزمي إلي الوزراء والمحافظين ومسئولي الاستثمار: لا تتصرفوا من دماغكم.. أرجعوا قبل اتخاذ قرارتكم إلي " الباشا الكبير".
وبالقطع.. لو كان الرجل الأول في الحكم مشغولا بالسجل التجاري ونقل الأسهم وتعديل الشركاء وزيادة رأس المال.. فهل نتعجب من إهمال الوحدة الوطنية.. أو تبديد حصة مصر من مياه النيل.. أو فقدان السيطرة علي الحدود.. أو غيرها من القضايا الأساسية التي تبعثرت وتبخرت في نظام فضل البورصة علي الأمة.. والثروة علي الدولة؟.
في أول مارس 1997 دخل مجدي يعقوب في شركة تسمي " مجموعة التنمية العربية" التي كانت تضم علي موسي (وشقيقه مصطفي وشقيقتهما نفيسة الشهيرة بنانا) ورءوف بطرس غالي وكريم رشدي صبحي (ابن تاجر السلاح المقيم في لندن وشقيقته دينا) وأحمد بهجت فتوح (مجموعة دريم) وماريا ليا نادلر (زوجة بطرس غالي الكبير) وشركة بيكو (صلاح دياب) وغيرهم.
كانت حصة مجدي يعقوب (مليون و385 ألف جنيه) تسمح له بتمثيل الشركة والتعامل باسمها.. وهو ما حدث عندما تعاقد مع شركة "المقاولون العرب" في 5 مايو 1998 لبناء قرية سياحية تسمي «المورينا» علي قطعة أرض تملكها شركته في الغردقة.. واستخرجت محافظة البحر الأحمر الترخيص رقم 317 لسنة 1997 لتشييدها. كانت قيمة العقد تزيد علي 15 مليون جنيه دفع منها فور التوقيع عشرين في المائة (أكثر من ثلاثة ملايين جنيه) علي أن يسدد الباقي علي دفعات شهرية تنتهي بتسليم القرية بعد ستة اشهر. لكن.. ما أن بدأت بلدوزارات المقاولون العرب عملها في تسوية الموقع تمهيدا لحفر الأساسات حتي أصدر المحافظ سعد أبو ريدة في 21 يونيه 1998 قراره رقم 92 لنفس السنة بسحب قطعة الأرض التي ستبني عليها القرية (124815 مترا مربعا) بل أكثر من ذلك سحب من الشركة قطعة أرض أخري (100625 مترا مربعا) وفسخ عقدي التخصيص بدعوي أن مجدي يعقوب اشتري الأرض من الشركة.. دون الرجوع للمحافظة.. وهي حجة واهية.. فهو قد أصبح شريكا في الشركة بكل ما لها من أصول وما عليها من خصوم.
ولجأت المحافظة إلي مجلس الدولة لعله يساندها بفتوي قانونية فيما فعلت.. لكن.. المستشار مجدي العجاتي حكم لصالح الشركة.. ولم يجد مبررا لسحب الأراضي منها.. خاصة أن هناك حالات سابقة جري الصلح فيها.. مثل شركة ميرت.. وشركة جراند حياة.
وسعي مجدي يعقوب إلي سعد أبوريدة للصلح معه.. ووافق المحافظ.. بشرط التبرع بثلاثة ملايين للمحافظة.. وعلي الفور حرر مجدي يعقوب الشيك رقم 1301302 علي البنك الأهلي بمليون جنيه لصالح صندوق خدمات المحافظة.. علي أن يسدد ما تبقي من التبرع (مليوني جنيه) بعد إعادة الأرض.
لكن.. المفاجأة.. أن المحافظ لم ينفذ قراره.. وإنما أرسل خطابا رسميا بتاريخ 3 يناير 1999 إلي زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية قال فيه: " لا مانع في ضوء توجيهات السيد رئيس الجمهورية من إعادة تسليم الأرض للسيد مجدي يعقوب علي أن يبدأ العمل فورا في إنشاء القرية وينتهي منها في مدة أقصاها 24 شهرا وبطاقة عمالة لا تقل عن 500 فرصة".
واستطرد المحافظ: " علما بأنه أبدي استعداده للتبرع بمبلغ ثلاثة ملايين جنيه لصالح المحافظة ".
وانتهي راجيا: "اتخاذ ما ترونه سيادتكم مناسبا للعرض علي السيد رئيس الجمهورية حيث سبق عرض الموضوع علي سيادته".
واضح من الفقرة الأخيرة أن السيد رئيس الجمهورية كان مشغولا بقرية مجدي يعقوب.. وسبق عرض موضوعها علي "سيادته".. وتستحق أن تعرض مرة أخري علي "سيادته".. فهل لم يكن علي مكتب "سيادته" ملفات أهم وأخطر منها؟.
ولم يتلق المحافظ ردا من أحد علي خطابه.. لكنه.. فوجئ باختيار مجدي يعقوب من بين قائمة طويلة من مشاهير رجال الأعمال المديونين للبنوك ليدخل السجن.. وتجمدت القرية في العراء.. وتجمد صاحبها في الزنزانة.
بل أكثر من ذلك طاردت الضرائب مجدي يعقوب زيادة في التنكيل.. فقد أدعت وزارة المالية أن علي شركاته 84 مليونا و921 ألفا و530 جنيها عن أربع سنوات فقط.. ثم بعد طول معاناة وتحقيق اتهامات انتهت الجهات المسئولة إلي البراءة.. وهو حكم معروف مسبقا.. لكن.. الوصول إليه بعد " البهدلة ".
2
كانت قائمة المديونين تضم إبراهيم كامل.. عراب التوريث.. المشجع الأول لخلافة جمال مبارك لأبيه.. وكان إبراهيم كامل قد نجح في تقوية علاقته الشخصية بالرئيس عبر صديقه أسامة الباز.. وفي كل مكان كان إبراهيم كامل يفتخر بأنه يلعب الطاولة مع " الرأس الكبيرة ".. فكأن "زهره" الرابح كان كافيا لمنحه مساحات شاسعة من الأراضي السياحية في الساحل الشمالي.. وسمح له بمطار في العلمين.. وسويت مديونياته البنكية بما يثير السخرية قبل الدهشة.
لقد وصلت المديونية إلي أربعة مليارات جنيه.. خفضت بقدرة قادر إلي النصف.. لم يدفع منها سوي مائة مليون جنيه.. والباقي "حين ميسرة".. فهو علي حد قوله "سوف" يدفع.. و"سوف يسدد".. و"سوف يلتزم".. لكن.. لم تتحقق "سوف" واحدة منها.. فقد ظل النظام يتستر عليه حتي آخر نفس.. وآخر دليل علي ذلك أنه كان بطلا من أبطال يوم مظاهرات دعم مبارك التي انتهت بهجمات الجمال والحمير فيما عرف بموقعة "الجحش".. وبعد أيام قليلة من تنحي الرئيس استردت البنوك شجاعتها بأثر رجعي.. وطالبته بحقوقها.
3
لقد اختلطت السياسة بالتجارة.. ففسدت السياسة.. وبارت التجارة.. وسادت المحسوبية.. وترنحت العدالة.. وتراكمت الثروة.. ونالت العائلة الحكمة نصيبها من مشروعات البيزنس التي زغللت عنيها.
إن مجدي راسخ (حما علاء مبارك) مغرم بتنوع استثماراته.. يضيف إليها ما يشاء.. من بناء المنتجعات العقارية إلي توكيلات الأجهزة الطبية.
وقد توثقت صلته بمبارك بعد وفاة حفيدهما محمد الذي كسر رحيله قلب مبارك.. وأضعف شهيته للحياة.. ويروي مقربون منه: " إنه حتي غادر قصر العروبة كان يضع في غرفة نومه "بيجامة" محمد بجانب بيجامته.. و"شبشب" محمد بجانب شبشبه ".
وفور الوفاة اكتشف مبارك وعائلته أنهم لم يحسبوا حسابا للموت.. فلم تكن لديهم مقبرة يدفنون فيها الحفيد.. فلم يترددوا في بناء واحدة تليق بهم.. فهي تضم إلي جانب "التربة"صالات لتقبل العزاء.. ونجحت شركة المقاولون العرب في تشييدها خلال أسابيع معدودة.. وسرعان ما أضيئت الشوارع المظلمة حولها.. وأعيد تنظيم الميدان ليليق بالزوار.
وفي ذلك الوقت أطلق مبارك لحيته.. فحزنه كان نبيلا.. وتكرر ترك لحيته الآن بعد تنحيه ولجوئه إلي شرم الشيخ.
إن مبارك لم يتخيل أنه سيختفي من السلطة بهذه الطريقة المباغتة التي لا تخلو من الإهانة.. وبضغط من الجيش يقترب من حد التهديد بانقلاب عسكري.. وكان كل همه وهو في
الساعات الأخيرة أن يسأل عن مبني التليفزيون في ماسبيرو هل سقط في يد المتظاهرين أم لا يزال تحت سيطرته؟!.. وجاء المستشار فاروق سلطان رئيس المحكمة الدستورية العليا ليصيغ بيان التنحي الذي تلاه عمر سليمان أمام كاميرا وضعت في طرقة المجلس الأعلي للقوات المسلحة.. وبعد أن انتهي منه صافحه المشير حسين طنطاوي هو وفاروق سلطان.. ثم قرر أن يتجول في القاهرة.. لكن.. بسبب شدة الزحام اكتفي بأن تكون جولته في مصر الجديدة.
إن حزن مبارك لفراق حفيده تساوي مع حزنه علي فراق السلطة.. فكان الحل الوحيد إطلاق اللحية.
لكن.. موت الحفيد لم يمنع مجدي راسخ من الاستفادة التجارية مهما كانت الظروف الإنسانية.. علي أنه لم يكن وحده.. وإنما شاركه في استثمار السلطة لتحقيق الثروة كل أفراد العائلة المالكة.
لقد أقنع جمال مبارك رئيس الحكومة الأسبق عاطف عبيد بتحرير سعر الصرف لكن قبل ساعة صفر تنفيذ القرار تسرب الخبر إلي أصحابه وشركائه فانهالوا علي سوق العملة الأجنبية لشرائها بكل ما يتوافر لديهم من سيولة.. وفي ساعات قليلة زادت ثرواتهم بنسبة 54% تقريبا.
وما أن خصصت وزارة إسكان محمد إبراهيم سليمان لمنير غبور أرض مشروع منتجع وفندق الميراج حتي نال علاء وجمال مبارك مكافأة خمسة آلاف متر مربع لكل منهما.. وجاء من يعرض عليهما مؤخرا 50 مليون جنيه ثمنا لكل قطعة.. وكأنها أرض حبلي بالنفط.
وبعد أن جذب خالد وطارق أبو طالب (ومعهما محمد ثابت) بمشروع القطامية هايتس الأثرياء سعي علاء مبارك لشراء فيللا هناك عرضتها فايزة أبو الغيط شقيقة وزير الخارجية بمبلغ 25 مليون جنيه.. لكن.. علاء مبارك كان مصرا علي دفع 21 مليون جنيه فقط.. فلم تتم الصفقة.. واشتري علاء مبارك من جارها علي منصور.. أما هي فقد فرت بجلدها من المكان بعد أن باعت ما تملك لأول مشتري.
الغريب أن علاء مبارك وزوجته هيدي راسخ وجدا من يحذرهما من أن عتبة هذا البيت ستكون نحسا عليهما.. لكنهما لم يصدقا إلا بعد أن فقدا ابنهما.. فتركاها إلي قصر العروبة حيث يعيش والده ووالدته.. لكنهما سرعان ما عادا إلي البيت مرة أخري فكانت الطامة الكبري.. الثورة التي انتهت برحيل النظام.. فتركا البيت من جديد إلي قصر العروبة.. وخرجا منه في حراسة المدرعات العسكرية ودعا جيرانه لمرافقته خوفا من الهجوم علي المنتجع.
وقبل أن يترك القاهرة إلي شرم الشيخ اعتذر لأفراد من طاقم حراسته بأنه سيتركهم بعيدا عنه. وبتوطد العلاقة بين علاء وجمال مبارك وخالد وطارق أبو طالب أمر الصحف الحكومية بعدم ذكر اسميهما في قضية البوشي.. شريك وزير الزراعة السابق أمين أباظة في إحدي شركات الأموال والذي هرب بملايين المودعين إلي دبي.. وأعلن إفلاسه هناك.. وكان الأخوان أبو طالب قد تركا عنده أكثر من عشرة ملايين دولار لاستثمارها. وتولت خديجة الجمال رئاسة مجلس إدارة مشروع "نيو جيزة" الذي يديره والدها محمود الجمال.. ولا شك أن وجود زوجة جمال مبارك في هذا المنصب سهل استخراج كل ما هو مطلوب من أوراق رسمية.. واللافت للنظر أن العائلة المالكة القطرية اشترت نسبة من المشروع (15 % تقريبا).. وهو ما يفسر لماذا كانت قناة «الجزيرة» تهاجم نظام مبارك دون أن تجد فيه من يتحمس للرد عليها.. إن المثل الشعبي الذي يقول "أطعم الفم تستحي العين" ينطبق هنا بسهولة.
والمثير للدهشة أن قرار تجميد أموال جمال مبارك لم يشمل باقي أفراد عائلته الصغيرة.. كما أنه لم يتضمن ما هو أهم.. منعه من السفر.. لكن.. بعد نحو الشهر تدارك النائب العام ذلك ومنع جميع افراد العائلة الرئاسية من السفر قبل يومين (أقرأ الصفحة الثانية).
4
ولا شك أن التفتيش في العلاقة «الأنتيم» بين جمال مبارك وعمرو طنطاوي وشقيقه شريف ستكشف عن ملفات مثيرة من ملفات البيزنس الخفية للعائلة الحاكمة في مصر.
لقد هاجر شريف طنطاوي إلي سويسرا ليعيش هناك حياة صعبة تحت خطوط الطبقة الوسطي إلا أنه انتقل فجاة إلي مصاف الأثرياء الكبار بسبب شركة براجون للاستثمارات المالية التي أنشأها هناك واستغلت في توظيف أموال جمال مبارك وعائلته.
ومنذ سنتين تقريبا عاد شريف طنطاوي إلي القاهرة ليعرض بيع شركة لزراعة بنجر السكر علي مساحات هائلة تضم مئات الأفدنة بجانب تصنيعه وتصديره مع سلطان أدهم ابن كمال أدهم المدير الأسبق للمخابرات السعودية.. وطلب شريف طنطاوي 750 مليون جنيها ثمنا للشركة التي منحها له بأرضها جمال مبارك دون أن يعرف أحد هل هي هدية من ابن الرئيس إليه أم أنها عملية تخص جمال مبارك ويروج لها شريف طنطاوي مقابل عمولته؟.
والمعروف أن شركة فرنسية هي التي تدير المزارع والمصانع كما أنها تعطي فائدة 20 % للمساهمين الذين يمولون سنداتها.
5
وهدم منير وسوزان ثابت فيللا كانا يمتلكانها في شارع فريد (مصر الجديدة) رغم قرار رئيس الحكومة وقتها (كمال الجنزوري) بتجريم هدم الفيللات.. وبيعت الأرض لمقاول كان صديقا لكبار رجال الرئيس هو وجدي كرارة ليقيم عليها عمارة مميزة.. وفي الوقت نفسه اشتري وجدي كرارة أرضا من جمال مبارك وزكريا عزمي في جمعية أحمد عرابي.. ودفع لكل منهما أربعة ملايين وهي لا تساوي أكثر من مليون جنيه.
وبتعليمات مباشرة من مبارك سحبت أرض مشروع قرية لومير في طابا من وجيه سياج لتصبح علي الفور من نصيب حسين سالم.. والمثير للدهشة أن مبرر سحب الأرض كان وجود شركاء إسرائيليين في القرية السياحية التي بدأ في بنائها.. وسر الدهشة أن حسين سالم هو الذي مد خط الغاز الطبيعي إلي إسرائيل بسعر التراب.. ونجح وجيه سياج في جرجرة الحكومة المصرية إلي التحكيم الدولي بعد تنازله عن جنسيته.. ودفعت مصر 75 مليون دولار عقابا لها.
ولست في حاجة للتذكير بأنني أول من فجر قضية تصدير الغاز إلي إسرائيل ونشرت لأول مرة صورة العقد الذي وقعه حسين سالم مع هيئة البترول والذي يضمن له حصة هائلة من الغاز يتصرف فيها كما يشاء فلم يجد افضل من الإسرائيليين لتوليد الكهرباء لهم علي حساب مجاعة الطاقة التي نعاني منها.
وأخذ إبراهيم يسري المحامي ما نشرت من معلومات ومستندات وذهب بها إلي القضاء الإداري ونجح في أن يحصل منه علي حكم ببطلان العقد ولكن جري التحايل عليه من النظام الذي كان البيزنس شاغله وهمه.
وقبل ذلك كان مشروع ميدور علي أطراف منطقة برج العرب وهو أكبر مشروعات التطبيع مع إسرائيل.. شارك فيها حسين سالم ومستثمر إسرائيلي اسمه نيمان بجانب هيئة البترول.. والمشروع عبارة عن مصفاة ضخمة للتكرير.. اعتمدت في تصميمها علي النفط العربي.. وعندما رفضت الدول العربية مدها بالزيت الخام خرج الشريك الإسرائيلي.. ثم في مرحلة لاحقة خرج حسين سالم.. وكسب الرجلان مئات الملايين من الدولارات دفعتها هيئة البترول التي استحوذت علي الشركة كلها بقرض أثقل كاهلها من البنك الأهلي.
وبالمستندات ايضا نشرت ملف استيلاء حسين سالم علي جزيرة التمساح السياحية بالأقصر.. وكيف خالف عاطف عبيد القانون بأن أمر بتسجيلها لشركة الصديق الشخصي والتابع الأمين لمبارك.. لكنني فوجئت باستدعاء من عمر سليمان في مكتبه بالمخابرات العامة.. وبود شديد.. أوضح لي أن حسين سالم مستثمر وطني.. مثله مثل غيره.. لا ينال مما يفعل أكثر من عشرة في المائة.
والحقيقة أن عمر سليمان رجل لم تغيره السلطة.. وظل علي تواضعه ونقائه واحترامه لنفسه.. وكان يؤدي ما عليه بتوصيل كل ما يعرف من معلومات إلي مبارك.. تاركا له حرية اتخاذ القرار.
ولا جدال أن حسين سالم هو اللغز المالي المعقد لنظام مبارك.. هل هو شريك له فيما ينال من مشروعات ومميزات؟.. أم أنه كان مجرد غطاء لجهات مختلفة يستثمر لها أموالها مقابل نسبة من الأرباح؟.
وبحكم عمله السابق في المخابرات وبحكم صلاته القوية بأجهزة المعلومات كان أول من شم رائحة العاصفة فسارع بالسفر إلي سويسرا لترتيب أحواله المالية.. ثم تركها إلي إسبانيا.. حيث يتمتع بجنسيتها.. ويمتلك بيوتا واستثمارات فيها.. وخرجت معه عائلته المكونة من زوجتين وابن وابنه (من الزوجة الأولي).
6
في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير دعيت لتقديم وتكريم فؤاد سعيد وهو مهاجر مصري حصل علي جائزة الأوسكار بتصنيع استديوهات متحركة وفرت علي هوليوود الجهد والمال وساعات التصوير الطويلة.. كما أنه أول من نجح في بث الإرسال التلفزيوني علي الهواء مباشرة.
وترك فؤاد سعيد عالم السينما والميديا إلي عالم البيزنس الأكثر اتساعا.. وكون شركة ضمت شخصيات سياسية حكمت في يوم من الأيام الولايات المتحدة التي يحمل جنسيتها وإن فضل الإقامة بعيدا عنها في سويسرا.
ومنذ عشر سنوات سعي إلي رد الجميل لمصر باستثمار مائة مليون دولار فيها.. لكن.. سوء حظه أوقعه في ناصف ساويرس التي اشتري منه حصة من إحدي شركات الأسمنت التي سيطر عليها..
وبعد أن نجحت الشركة سعي ناصف ساويرس لاستعادة الأسهم التي باعها لفؤاد سعيد بحثا عن مكسب أعلي.. ودخل الطرفان في نزاع قضائي استمر نحو عشر سنوات انتهي بانتصار فؤاد سعيد.
وخلال النزاع استعان فؤاد سعيد بصديقه وشريكه جورج بوش الأب للتوسط عند مبارك كي ينقذه مما وضعه فيه ناصف ساويرس.. لكن.. تدخل شقيقه نجيب غاضبا.. متحديا.. مهددا بسحب استثماراته من مصر إذا ما تدخل الرئيس.. والغريب أن الرئيس لم يتدخل.. مستسلما للوعيد.
وسبق أن فجرت قضية الشهادات البنكية المزورة التي رفع بها نجيب ساويرس رأسمال شركة أوراسكوم تليكوم واعترف بذلك في عريضة دعوي رفعها علي هيئة سوق المال محتجا علي عقابها له بالغرامة رغم أنها جريمة عقوبتها السجن وبدلا من أن يعترف نجيب ساويرس بالخطأ رفع علينا 27 قضية كسبناها كلها.. لكن.. ما أثار دهشتي استدعاء من ضابط مسئول بالمخابرات العامة حاول تفسير الخلاف مع نجيب ساويرس تفسيرا طائفيا.. كي يشعرني بالحرج فابتعدت.. لكني لم ابتعد.. فالطائفية آخر تهمة يمكن أن توجه لي.. لكني أدركت في هذه اللحظة أن قوة عائلة ساويرس تتجاوز الحدود.
وفيما بعد خرج نجيب ساويرس ليلحق بقطار الثورة وينضم إلي لجنة الحكماء مهاجما الديكتاتورية مطالبا بالديمقراطية.. ناسيا أن النظام الذي شنع عليه هو سر النعمة التي وصل إليها.. ولولاه لكان مليونيرا صغيرا لا مليارديرا كبيرا.. ولم ينس شقيقه سميح أن يحتفل بالثورة في الجونة قبل أن يترك البلاد خوفا من أن تأتي رجله في قضية وزير السياحة زهير جرانة.. لقد شربوا في صحة الثورة بعد أن غرقوا في " مزة " مبارك.
7
ويعيش في سويسرا رجل أعمال مصري نجح بعرق جبينه في تكوين ثروة هائلة لم تفقده تواضعه.. وسمعت منه قصة يصعب تصديقها.. لا أملك دليلا عليها سوي ثقتي في صاحبها.
ذات يوم وصل إلي جنيف وزير مصري وهو في الحكومة بدعوي نقل علاجه من بريطانيا إلي سويسرا.. لكنه.. تقمص شخصية رجل اعمال.. فهبط بطائرة خاصة مستأجرة.. ونزل في جناح مميز في فندق علي البحيرة.. وما أن عرف سفيرنا في المقر الأوروبي بوجوده حتي سعي إليه للترحيب به كما تقضي الأصول الدبلوماسية.. لكن.. الوزير الذي اشتهر بالغطرسة هب في وجهه.. واعتبره شخصا غير مرغوب فيه.
كان الوزير الذي أصبح سابقا الان يحمل شيكا بمبلغ خمسين مليون جنيه موقعا من رجل أعمال شهير حصل علي شركة من حكومته نقلته من الأرض إلي السماء.. ووسعت استثماراته من الداخل إلي الخارج.. وسعي الوزير إلي وضع هذه الأموال باسمه وأسماء أفراد من عائلة رئيس الحكومة.. وهو ما لفت الأنظار إليه هناك.
وتطوع مسئولو البنوك في سويسرا بإخبار الملياردير المصري المقيم هناك بما وصل إليهم من معلومات فوضعوها علي فاكس حمله إلي القاهرة وأطلع عليه أحد أصدقائه وهو رجل من رجال البنوك الكبار فإذا بصديقه يأخذه في سيارته إلي جهاز المخابرات العامة ليضع بين يدي المسئول عنه الفاكس الدامغ بكل ما فيه من قنابل سريعة الانفجار.. ولابد أن الرجل بحكم عمله نقل ما عرف إلي الرئيس في انتظار تعليماته.. لكن.. حتي الآن لم يتحرك الرئيس.
8
والحقيقة أن مبارك كان يعلم الكثير عن قصص الفساد الذي استشري في نظامه.. وكانت هذه القصص بمثابة خاصية من خصائص نظامه ووسيلة من وسائل السيطرة علي الشخصيات المؤثرة في إدارة السياسة وتكوين الثروة.
كما أنه شجع علي الوقيعة بين الفئات والجماعات المختلفة في البلاد.. فاشتعلت الحروب الأهلية بين الصحفيين.. والقضاة.. ورجال الأعمال.. والوزراء.. وامتدت إلي المسلمين والمسيحيين.. وكانت هذه هي الخاصية الثانية لنظامه.
أما الخاصية الثالثة فكانت حصر المميزات في شريحة رفيعة في قمة السلم الإداري تحصل علي كل شيء لتمسك بيدها وأسنانها بمناصبها ولتنفذ كل ما يطلب منها حتي لا تفقد سلطتها وثروتها.. إن المسافة بين دخول مديري الأمن وزملائهم في الرتبة نفسها شاسعة.. وأيضا مسئولي البنوك وباقي موظفيهم.. وكذلك رؤساء القطاعات في التليفزيون وغيرهم.
وكل خاصية من هذه الخصائص بمثابة نوع من السرطان ظل ينهش في جسد النظام حتي انهار في دقائق معدودة.
لكن.. الأخطر والأهم أن العائلة التي حكمت النظام وصاغت ملامحه تورطت هي الأخري في تكوين ثروات حرام يصعب حصرها وتحديدها وربما تصعب إعادتها.
9
عندما قامت ثورة يوليو كانت ثروات الإقطاعيين أرضا وثروات الرأسماليين مصانع فيما يعرف بالأصول المادية الملموسة التي يصعب تهريبها أو نقلها.. فكان من السهل إعادتها للشعب الذي نهبت منه.
لكن.. عندما قامت ثورة " 25 يناير ".. كانت طبيعة الثروات تغيرت.. فقد لبس أغلبها " طاقية الإخفاء ".. وراحت تتجول عبر شبكات الإنترنت المحمية في صورة أشعة ليزر يحتاج الامساك بها إلي معجزة.
ولابد أن نعترف بأن جمال مبارك المتعلم في الجامعة الأمريكية والمتدرب في بنوك أمريكية تعمل في بريطانيا هو رجل بنوك شاطر.. يعرف شفرة إخفاء الأموال.. وتهريبها.. وساعده علي ذلك عدد من الخبراء الذين عمل معهم هناك ممن بقوا يعملون معه.. ويساعدونه علي تهريب ثروته وثروة عائلته بالطرق الحديثة.
إن أولي هذه الطرق تعرف بشركات الأوف شور.. والمصطلح غامض.. يشير إلي شركة ذات كيان قانوني.. تسجل في بلد غير بلد مؤسسيها.. كما أنها قد تمارس نشاطها في بلد ثالث.. وربما تديرها شركة أخري في بلد رابع.. باختصار أوف شور تعني شركة ينحصر عملها خارج الحدود.
وتتمتع شركة الأوف شور بالسرية فيصعب الكشف عن مؤسسيها.. فهي كيان قانوني مستقل.. كما أنها معفاة من الضرائب.. ولا يفرض عليها سوي رسوم لا تذكر.. ويسهل تأسيسها عبر الإنترنت بأمر مباشر من البنوك التي لا تحافظ علي سمعتها.. وأن تفرض قوانين مكافحة غسيل الأموال الكشف عن هياكلها.. وهو ما يفتح الباب لفضح أصحابها.
وهناك شركات أوف شور قابضة تستهدف شراء الممتلكات دون الالتزام بضريبة التركات أو الضرائب العقارية إلي جانب سهولة البيع ونقل الملكية وتخفيض عمولات السماسرة.
ويمكن إيداع أو استثمار الأموال المتراكمة من خلال مجموعة شركات خاصة في مناطق الأوف شور حول العالم.. وهناك مناطق أوف شور توضع فيها الأموال المهربة كوديعة بنكية تتزايد فيها الفوائد والأرباح الرأسمالية.. كما يمكن استثمار هذه الأموال المخفية في شركات الأوف شور في البورصات وأسواق المال في صناديق استثمار لا يتوافر مثلها للمواطنين المحليين.. فقوانين الأوف شور عادة ما تكون أقل صراحة.. وتسمح بحركة غير مقيدة.. وربما عدوانية أيضا.
وأخطر ما في هذه الشركات هو الخصوصية التي تحصن بها رءوس الأموال وأصحابها.. ولو سعت دولة المنشأ إلي معرفة بياناتها فإنها تسترها عن الجهات الخارجية.. وتعين هذه الشركات ممثلين عنها هم أوصياء علي أسهمها بموجب عقد ائتمان يوقع مع أصحابها مما يشكل صعوبة بالغة في الكشف عن المساهمين فهؤلاء الممثلون بمثابة ملاك وهميين لها.
ويحظر علي هذه الشركات ممارسة الأعمال التجارية.. وهناك قيود علي بعض أعمالها.. وقد تواجه صعوبات في فتح حسابات مصرفية لها.. وفي إطار تعليمات غسيل الأموال فإن البنك الدولي يتطلب عادة وثائق تحقق من هوية الموقعين علي الحسابات.. أو يفرض تصديقا من محاسب أو محام أو مصرفي للاطمئنان.
وفي حالة وفاة أحد المساهمين في مثل هذه الشركات فإن من الضروري الحصول علي وصية معترف بها تضمن حقوق الورثة.. لكن.. في كثير من الأحيان لا يعرف الورثة بها.. فتضيع حقوقهم.
وتستخدم هذه الشركات في التجارة الدولية وحماية الأصول والتأمين وتسجيل اليخوت وتجنب الضرائب والسرية غير الجنائية.. لكن.. تاريخيا.. استخدمت شركات الأوف شور في تمويل الإرهاب.. وغسيل الأموال.. والتهرب الضريبي.. والاحتيال.. والممارسات التجارية غير الرسمية.. وتجنب الدائنين.. بجانب إخفاء ثروات الشعوب المنهوبة.. ولا تزال بعض هذه الأنشطة قائمة ولكن.. بنسبة أقل.
ولا يتطلب تأسيس شركة اوف شور سوي مذكرة وعقد تأسيس ونظام داخلي.. ويكفي وجود عنوان بريدي للمكاتبات دون الحاجة إلي مقر.. ويمكن أن يكون للشركة عناوين أخري.. لمزيد من التمويه والإخفاء.
وغالبا ما يستعين الملاك بآخرين من أجل تبسيط الإجراءات أو من باب عدم الكشف عن هويتهم.. ويدفعون في المقابل مبلغا ماليا يتفق عليه مسبقا.
ويدير هذه الشركات مديرون أو مندوبون نيابة عن أصحابها الذين يصدرون التعليمات والأوامر مع حرصهم علي البقاء في الظل.
وهناك أكثر من نوع لهذه الشركات.. منها شركة لها رأسمال.. تنتهي التزامات المساهمين فور سداد حصصهم.. دون تبعات أخري عليهم.. ومنها شركة محدودة الضمان يوافق المساهمون فيها علي دفع الحد الأقصي في حالة التعثر.. ومنه شركة تسمي الهجين.. وهي مزيج من النوعين السابقين.. وأخيرا نوع يسمي شركة المحفظة المستقلة.. ويسمي أحيانا باسم شركة الخلية المحمية.. وهي الشركة الأخطر.. فكل ما فيها من أصول وأرباح وموجودات معزول عن الآخر.. فلا تستطيع لو أمسكت بطرف من الأطراف أن تجر باقي الخيوط.
وهناك العديد من الدول تسمح بإنشاء شركات الأوف شور فيها.. مثل قبرص وكوستاريكا وبنما وهونج كونج وسيشل ومورشيوس وسنغافورة وموناكو ودبي ورأس الخيمة.. لكن.. هناك جزر بعيدة تسمح بتكوين هذه الشركات وتمنحها مميزات أكثر في السرية.. وتسمح لها بتجاوزات أكبر في اللعب بالأموال القذرة.. مثل البهاماز وبرمودا وفيرجن وكايمان ومارشال والأنتيل.
وحدث عام 2004 أن شب حريق في ملهي ليلي بعاصمة الأرجنتين بيونيس إيريس وبعد الكشف عن ملكيته اتضح أنه لمجموعات شركات " شل " فقرر النائب العام في وقت لاحق تجميد 20 مليون دولار لها.. ومنعت شركات الأوف شور من العمل هناك إذا ما ثبت أن نشاطها خفي.
10
وبجانب شركات الأوف شور هناك بنوك أوف شور وهي بنوك توجد في أماكن بعيدة عن المودعين وتتمتع بضرائب منخفضة وبمزيد من السرية التي تفوق السرية المصرفية التي فرضها القانون في سويسرا منذ عام 1934.
وفي هذه البنوك يسهل الوصول إلي الودائع التي تتمتع بحماية ضد عدم الاستقرار السياسي المحلي وعدم الاستقرار المالي.
وعادة ما ترتبط بنوك الأوف شور بالاقتصاد السري والجريمة المنظمة ونهب ثروات الشعوب.. فهي تتهرب من الضرائب.. والكشف عن مصادر أموال عملائها.. وهو ما يعطي للسياسيين الفاسدين فرصتهم كاملة لإخفاء ما سرقوه من شعوبهم بعيدا عن العيون.
لكن.. الودائع في بنوك الأوف شور تكون عرضة للخطر في الأزمات العالمية.. كما حدث في الكارثة المصرفية التي اجتاحت العالم عام 2008.. فقد خسر المودعون في هذ البنوك كل ما لديهم.. فليست هناك حكومات ملزمة بتعويضهم كما هو الحال في البنوك الظاهرة.
11
وتخفي عائلة مبارك مكونات من ثروتها في شركات وبنوك الأوف شور.. والدليل علي ذلك أن جمال مبارك عندما كشفت الصحافة البريطانية والمصرية عن بيت عائلته في لندن نقل ملكيته إلي شركة أوف شور تسمي أوكرا انتربرايس في بنما.. ويدير الشركة هناك مكتب محاماة.. قال ممثل عنه: " إنه لا يقدر علي التصريح بأسماء أصحاب الشركة ".. لكنه أضاف: " إنه يتلقي الأوامر من شركة أخري في مسقط.. عاصمة سلطنة عمان".. لم يفضح أسمها.
ولاشك في وجود علاقة متينة بين عائلة مبارك وسلطان قابوس عبر ممثله الشخصي عمر الزواوي الذي يسكن في فيللا ملاصقة لفيللات عائلة مبارك في منتجع مرتيم جولف بشرم الشيخ.. وسبق أن قضي جمال مبارك أيام زواجه الأولي في صلالة.. وهي منطقة ساحرة في عمان.. له ولشقيقه ولوالده فيللات هناك.
ويؤمن محمود عبد العزيز أشهر مصرفي تولي رئاسة البنك الأهلي بأن جمال مبارك يضارب في البورصة المصرية من خلال شركات أوف شور مجهولة يقدر عددها بـ 19 شركة.. تتستر وراء نشاط الأجانب في سوق المال.. وبحكم وجوده في مطبخ صنع القرار وسيطرته علي لجنة السياسات ونفوذه علي مديري البنوك فإنه يعرف من المعلومات الخفية ما يتيح لهذه الشركات المضاربة علي الأسهم الصاعدة وتجنب الأسهم الهابطة.. كما أنه يعرف متي يأمر هذه الشركات بشراء الأسهم ومتي يطالبها ببيعها.
ولو صح ذلك فإنه يكون قد ارتكب جريمة استخدام المعلومات الداخلية (انسيدر انرفورميشن) وهي أسوأ أنواع الجرائم التي ترتكب في البورصات.. خاصة في الولايات المتحدة التي تسجن من يتورط فيها دون تردد. وسوف تفتح البورصة المصرية أبوابها للتعامل.. فليس من حقها البقاء مغلقة أكثر من أربعين يوما وإلا شطبت من منظمة بورصات الأسواق الواعدة.. لكن.. مع فتحها يجب الانتباه إلي حركة الشركات الأجنبية داخلها.. فهذه الشركات التي خفي بعضها تعاملات جمال مبارك ستسارع بالخروج.. وفي هذه الحالة لابد من الإصرار علي معرفة كل المعلومات عنها.. وإلا طردت من البورصة.. أو تعرض من يديرون محافظها للتحقيق.. ولو حدث ذلك سنعرف الكثير عن ثروة عائلة مبارك.
إن من السذاجة الاكتفاء بقرار الحكومة السويسرية بتجميد أرصدة مبارك وعائلته.. فربما لا توجد لديها حسابات هناك.. فحسب القانون السويسري لا يحق للسياسيين فتح حسابات في بنوكها.. ولو وجدت حسابات لأفراد فيها أو لمقربين منها فإن ما فيها من أموال غالبا لا يعود.. فأصحابها لن يطالبوا بها بعد رحيلهم عن السلطة وإلا اتهموا بجريمة تهريب الثروة.. والحكومات التالية لا تعرف ما فيها.. ومن ثم فإن سويسرا هي الوحيدة المستفيدة.
12
ولخبرة جمال مبارك في البنوك الاستثمارية ولارتباطه بعدد من خبرائها المحترفين الذين ارتبط بهم خلال عمله المصرفي في لندن فإنه بجانب شركات الأوف شور أو تداخلا معها كون شركات لإدارة المحافظ المالية مثل شركة بوليون مع وليد كابا وشركة فود ترست مع حسن هيكل وهي شركات تحرك استثماراتها عبر شبكة الإنترنت وبسرعتها في مجالات مختلفة.. بضغطة واحدة علي كمبيوتر تنتقل الاستثمارات من دولة إلي دولة.. ومن بورصة إلي بورصة.. ومن نفط إلي غذاء.. ومن سلاح إلي اتصالات.. وهو ما يجعلنا نلهث وراءها حتي نعرف حقيقتها.
لكن.. لكل داء دواء.. ولكل شركة مخفية شركة قادرة علي فضحها.. ومعرفة أصحابها.. وحجم أموالها.
في سويسرا يشيرون إلي شركة تسمي " المركز الدولي لاستعادة الأصول ".. يملكها ويديرها دانيل سيكلاف.. وهو ضابط شرطة سابق.. خدم في البوليس الفيدرالي آخر عامين في القرن الماضي.
وهو استشاري لكل عمليات إعادة الأموال القذرة المهربة في كل الجزر البعيدة التي تتصرف بحرية في إخفاء وحماية شركات الأوف شور.. وسبق أن أعاد إلي هايتي الأموال التي نهبها رئيسها السابق ديفيله.. ويقوم الآن بالبحث عن الأموال التي هربها بن علي من تونس بتكليف من حكومتها.
بصريح العبارة قال سيكلاف: " إن مبارك وضع خمسة مسئولين حكوميين تحت التحفظ لإبعاد نزاهته المالية عن الشبهات ".. ولكن.. ذلك لا يكفي لتبرئة ذمته.. " يجب علي السلطة العسكرية المتولية شئون البلاد أن تطلب من الشركات المتخصصة القيام بتحريات جنائية " عن ثروة مبارك وعائلته.. فلن تعود إليها تلك الثروة وهي في مكانها.
وهناك شركة أخري تسمي " الشركة الدولية لتحديد أماكن الأصول " يمتلكها ويديرها جون باترك كويرك وهو يحمل الجنسية الأمريكية ويحظي باعتراف من كل وكالات الاستخبارات الدولية.
قال عنه وليم كولبي المدير الاسبق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي أيه): " إن كويرك يفهم جيدا في عمله.. ويستطيع بسهولة الوصول إلي العجل في بطن أمه.. وقال عنه فرنسيس مولن المدير السابق للمباحث الفيدرالية (أف بي أي): " إنه يملك حاسة سابعة تجعله يشم من يريدهم عن بعد ".. ووصفته صحيفة لوس أنجلوس تايمز بأنه " الوحيد الذي يستطيع الدخول إلي الملفات السرية وحل المشكلات المستعصية ".. وعبرت مجلة بيزنس ويك عن ندم مخابرات الاتحاد السوفيتي (كي جي بي) لأنها " اشتغلت " ضده.
وهناك أشخاص تستطيع أجهزة المخابرات ووكالات الأمن تكليفهم بأي مهمة مهما كانت صعوبتها.. وحدث في عام 2008 أن نجح واحد من هؤلاء المحترفين في تجنيد رجل بنوك متخصص في الكمبيوتر اشتري منه أسطوانة مدمجة (سي دي) عليها قائمة طويلة من المتهربين من الضرائب سلمها للسلطات الألمانية مقابل 4 ملايين يورو.. اختفي بعدها عن الأنظار في استراليا.. وسبق للشخص نفسه أن باع معلومات للولايات المتحدة عن ثروات حكام دول في أمريكا اللاتينية كانت مخابراتها تريد السيطرة عليهم.
13
ليس هناك مستحيل لو عقدت السلطة القائمة في مصر النية لاستعادة أموال عائلة مبارك المهربة.. إن شركات التحري عن الأموال والأصول جاهزة ومستعدة وتنتظر التعاقد معها للبدء علي الفور في مهمتها.. وتعمل غالبية هذه الشركات بنظام الدفع المؤجل بعد الوصول إلي هدفها.. لتقبض فيما بعد نسبة مما توصلت إليه يمكن التفاوض بشأنها.. فشعارها: " لا انتصار.. لا أتعاب".
لكن.. لا أحد في مصر جاد في إعادة أموال العائلة الحاكمة السابقة.. وكل ما يتخذ من إجراءات لا يطول إلا وزراء ورجال أعمال.. ويستهدف تسكين الشعب بأقراص مهدئة.. فلا يزال من حق أفراد عائلة الرئيس المتنحي السفر إلي الخارج.. ولا تزال هناك جيوب تابعة لهم تساعد.. وتسهل.. وتخفي ما يدينهم.. لا جدية..ولا إرادة في استعادة ما نهب من ثروات.. وهنا مربط الفرس.. خاصة أن ما يتخذ من إجراءات قد يطول شخصيات لا تزال تدير وتحكم.
14
وهناك شخصيات مفتاح يمكن أن توصلنا إلي ما نريد.. مثل حسن وأحمد هيكل ووليد شاش في مصر.. ومثل وليد كابا في لندن.. والأهم منهم فريد باشا.
إن فريد باشا هو أشهر رجل بنوك متخصص في إدارة ثروات حكام الشرق الأوسط وربما من بينهم مبارك نفسه.. وقد عمل في بنك يو بي إس السويسري في زيورخ ثم انتقل منه إلي جولدمان ساكس وهو بنك أمريكي متخصص في المحافظ المالية.. ولا يقبل فريد باشا المقيم الآن في مونت كارلو التعامل مع مبلغ يقل عن عشرة ملايين دولار.. ويساعده في عمله شخص لا نعرف سوي اسمه هو فادي أبو علي.. أغلب الظن أنه لبناني الجنسية.
وهناك أيضا شخصية تعرف كل صغيرة وكبيرة عن مبارك وعائلته.. زكريا عزمي.. الأقرب إليهم من حبل الوريد.. واللصيق بهم إلي حد الجلد.. يعرف عنهم كل ما خفي.. أموالهم.. علاقاتهم.. ممتلكاتهم.. صدقاتهم.. تحويلاتهم.. فلو لم يعرف هو فمن الذي يعرف؟.
ومن ناحية أخري تسعي اللجنة الشعبية للتفتيش في ثورة مبارك وعائلته إلي الحصول علي أكبر عدد من الوثائق البنكية التي تحاول إثبات حسابات وتحويلات الرئيس المخلوع وابنيه وزوجته.. وكان المسئول الأول عنها الدكتور حسام عيسي قد أفتتح عملها بمقال في «الفجر» منذ أسابيع.
وقد نشرت صحف وثائق ـ أخذتها من موقع اللجنة ـ وهي وثائق جري التحقق منها ـ علي حد قول الدكتور محمد محسوب عضو اللجنة ـ وقد قدم يوم الأربعاء بلاغاً إلي النائب العام.
وتفحص اللجنة وثيقتين جديدتين الأولي عبارة عن تحويل باسم مبارك بثلاثة مليارات دولار علي بنك هولندي والثاني باسمه أيضا بقيمة 50 مليون دولار علي بنك باركليز في بريطانيا.
لكن الأهم من ذلك كله هو الكشف عن الشركات والاستثمارات المجهولة والتي نري أن لا أحد يستطيع التوصل إليها إلا بواسطة الشركات المتخصصة التي تحدثنا مع أصحابها.
15
لكن.. ليست عائلة مبارك وحدها التي تستحق الحساب.. هناك رجال أعمال يجب إعادة النظر فيما حصولوا عليه من أموال لم يدفعوا عنها ضرائب.. إن أشهرهم ناصف ساويرس الذي باع مصانع الأسمنت التي تملكها عائلته إلي شركة لافارج الفرنسية بأكثر من 60 مليار جنيه لم يدفع عنها مليما واحدا ضرائب وزعم أنها شركة متداولة في البورصة لا تخضع للضرائب.. ولو جري تحقيق عادل في هذه الواقعة فربما وصلنا إلي أن لافارج غير متداولة في البورصة وتستحق البيعة دفع عشرين في المائة عليها.. نحو 12 مليار جنيه.. وهو مبلغ ضخم يعوض بعضا مما نحن فيه الآن.
والمثير للاستهجان أنني عبرت عن هذه القضية في برنامج تليفزيوني وفي اليوم التالي طلب بطرس غالي نسخة من الحوار كي يقاضيني.. ولكن.. في اليوم التالي كان قد أقيل من منصبه.. وفر هارباً من وطنه.. إن القانون المغطي بالنفوذ كان يستخدم ضد من يكشف فساداً.. ولم يكن يستخدم ضد المتهمين فيها.. العقاب لم يكن للفاسدين.. كان لمن يكشفهم.. لذلك كان نظام مبارك جنة المنحرفين علي الأرض.
إن تكوين لجنة عاجلة من خبراء محايدين وبارعين لفحص ما كان يجري في البورصة وسوق المال سيكشف عن حالات بالمئات تعيد أموالا بالمليارات.. لكن.. مرة أخري نحتاج إلي إرادة سياسية لا يبدو أنها سهلة الحصول عليها الآن.
المصدر : الفجر - مي سمير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق