تنشر «المصرى اليوم» أول تحليل لخطاب ثورة يناير ٢٠١١ اجتهد فى رسم ملامحه، الباحث المتميز الدكتور عماد عبداللطيف، أستاذ الأدب والنقد بجامعة القاهرة، صاحب دراسة «التصفيق» الشهيرة، ويفصل فيه عبداللطيف كيف كان خطاب الثورة مبدعا براقا إيجابيا، استطاع شحذ الهمم وحشد المواطنين وراء أفكار ومطالب مشروعة، وكان مباشرا وتصدره فعل الأمر «ارحل»، ويشرح الباحث كيف استطاع الثائرون تحويل ميدان التحرير إلى ورشة للإبداع الفنى والأدبى والشعرى، أخرج فيه المتظاهرون أفضل ما لديهم للتعبير عن صدق مسعاهم ونبل طموحاتهم، بل استهدفوا من حاولوا تشويه ثورتهم بهتافات وعبارات ولافتات ساخرة مثل «أنا زهقت من الكنتاكى..ارحمنى وارحل»، وغيرها من العلامات المشرقة فى إبداعات الثورة التى يضع عليها الباحث ظلالاً تستحق أن تتبعها دراسات ودراسات عن خطاب شعب أراد استعادة كرامته، وإليكم النص فيما يلى:
الثورة حالة شاملة تزلزل كل مناحى حياة الفرد والمجتمع. والثورة أيضًا حالة إبداع فوار، تستفز طاقات من يقومون بها على الابتكار والتجديد. ولأن لكل ثورة خصوصية فى دوافعها وأحداثها وأهدافها والظروف المحيطة بها، فإن لكل ثورة خطابها الخاص الذى يصوغ ملامحها ومبادئها ومطالبها. وإذا تخيلنا أن الثورة هى عربة مسرعة تحمل داخلها طموحات الشعب فى التغيير فإن الخطاب هو هيكل هذه العربة وعجلاتها؛ فهو الذى يعطى للثورة شكلها ويحمل طموحاتها، فى حين أن الأفعال المادية للثورة مثل التظاهر والاعتصام والمواجهة هى الموتور الذى يجر العربة إلى محطة الوصول.
لقد كانت عربة الثورة تتحرك بسرعة مذهلة منذ بدأت أحداث ٢٥ يناير. وكلما ازدادت سرعتها تغير شكل خطابها؛ وهو ما انعكس على تنوع هتافاتها ومطالبها وحدود ما رسمته لنفسها من آفاق. فمن الدعوة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والإصلاح السياسى ومقاومة الفساد والاستبداد إلى المناداة بتفكيك بعض مؤسسات النظام التى قامت على أسس واهية مثل مجلس الشعب ومحاكمة شخصيات سياسية فاسدة، إلى المطالبة بإسقاط النظام الحاكم بأكمله- متمثلا على نحو خاص فى رأس النظام- بعد أن فقد شرعيته فى استفتاءات شعبية نادرة بلغت ذروة تألقها يوم الثلاثاء الماضى فى المظاهرات المليونية فى عدد من مدن مصر. والسؤال الذى أحاول الإجابة عنه هنا هو: ما تجليات خطاب ثورة الشباب؟ وما سماته؟
لخطاب الثورة تجليات عديدة من أبرزها الهتافات التى تقوم بوظائف بالغة الأهمية مثل صياغة مطالب الثورة فى شكل بلاغى موجز. وقد كان الهتاف الأبرز لثورة يناير فى الأيام الماضية هو فعل الأمر (ارحل)، الموجه للنظام السياسى ممثلا فى الرئيس مبارك. وهو مطلب اشتركت هتافات أخرى عديدة فى التعبير عنه ربما كان أكثرها تكرارا هو هتاف «مش هنمشى.. هو يمشى» الذى يحمل نبرة تحدٍ صارمة. سعت بعض الهتافات كذلك إلى وصف حالة تماسك الثوار ووحدتهم فى مقابل محاولات التفريق التى بُذلت بضراوة لتفتيتهم، وكان المحتجون يهتفون بين الحين والآخر بعبارات مثل «الشعب والجيش إيد واحدة» و«مسلم.. مسيحى.. إيد واحدة».
التجلى الثانى لخطاب الثورة تمثل فى لافتات الثورة التى تنوعت فى أحجامها ووظائفها، فبعض اللافتات كان فى صغر شريط اللاصق الطبى الذى يلصقه المتظاهرون بجباههم، بينما كانت إحدى اللافتات فى حجم عمارة كاملة تتكون من أكثر من عشرين طابقًا كتب عليها الثوار مطالبهم السبعة التى توافقوا عليها. كذلك ساهمت اللافتات فى تفنيد الأساطير التى تم ترويجها عن المتظاهرين، والتمييز بين شباب الثوار وعصبة البلطجة، كما فندت بعض اللافتات كثيراً من الأساطير التى تخص نظام الحكم والقوى السياسية الفاعلة فيه مثل اللافتة التى تقول: (مصر هى أمى بس مبارك مش أبويا)، أو (أنا ذقنى طويلة، أنا مش إخوان).
التجلى الثالث لخطاب الثورة هو الأغانى الثورية التى رددها المتظاهرون والتى انسابت إلى آذانهم إما عبر مكبرات الصوت أو عبر أصوات بعض المطربين والمنشدين. فقد ردد المحتجون أغانى وطنية قديمة مثل أغنية «أحلف بسماها وبترابها»، «مصر هى أمى»، «يا بيوت السويس»، «باسم الله»، ونشيد «بلادى بلادى». كذلك ظهرت أغانى جديدة أنشدها ولحنها مطربو الثورة المعتصمون فى ميدان التحرير، من المؤكد أنه سيكتب لها الخلود. وبالإضافة إلى أن الأغانى تقوم بخلق إيقاع حماسى تهتز له نفوس الثائرين فإن الأغانى الوطنية القديمة، على وجه التحديد، تستثير عواطف مشتركة بين المتظاهرين.
من تجليات خطاب الثورة كذلك أسماء الثورة، فقد أُطلقت عليها تسميات عديدة منها «ثورة الشباب»، «ثورة ٢٥ يناير»، «ثورة اللوتس» (نسبة إلى زهرة اللوتس المشهورة فى الحضارة الفرعونية، ومحاكاة لثورة الياسمين التونسية)، «ثورة الغضب»، «انتفاضة الشباب». ومن المؤكد أن الأسابيع المقبلة سوف تشهد تنازعًا حول تسمية الثورة، وذلك استنادًا إلى ما ستحققه من أهداف، وإلى الواقع الذى سوف تخلّفه فى كل المجالات. ومن التسميات المرتبطة بالثورة كذلك أسماء أيام الثورة وأحداثها مثل «جمعة الغضب»، «جمعة الرحيل»، «أحد الشهداء»، «أسبوع الصمود»، «المظاهرة المليونية». وقد كانت هذه التسميات بالغة الفاعلية لأنها قامت.
لقد وظّف خطاب الثورة المصرية حزمة كبيرة من العلامات مثل اللغة والموسيقى والرسم والنحت. وقد أفاد مبدعو الثورة من تقنيات معالجة الصور فى رسم صور مختلفة للشخصيات السياسية التى يرغبون فى التخلص منها، فقد رُسِمت صور للرئيس مبارك تجعله قريب الشبه بهتلر أو بحاخامات اليهود، أو الصورة المتخيلة لإبليس، وعادة ما يقوم الكلام المكتوب أسفل الصورة بتحديد وجه الشبه بين الصورة والأصل.
سمات بلاغة الثورة
يصعب فى الوقت الرهن الإحاطة بسمات بلاغة الثورة لأنها لا تزال فى مرحلة التشكل، ومع ذلك فإنه يمكن الوقوف عند سمات بارزة من أهمها ما يلى:
الإبداع الفردى: الثورة تفتح آفاق الإبداع
لم يفرض الثوار على أنفسهم الالتزام بشعار واحد أو الهتاف بعبارات محددة أو حمل لافتات متطابقة، بل تُركت لكل فرد مشارك حرية الاختيار. واستفزت هذه الحرية الطاقات الإبداعية للمشاركين فى الاحتجاجات فخرجت آلاف الهتافات واللافتات التى تحمل البصمة الفردية لكل ثائر، وإن كانت تتحرك جميعًا فى إطار الهدف العام للثورة وهو التغيير الفورى للنظام الاستبدادى القائم، وتأسيس شرعية جديدة تقوم على الديمقراطية والمواطنة.
لقد خلق الطابع الفردى لإبداعات الثورة زخمًا إبداعيًا هائلا. وربما لا أبالغ فى القول بأن ميدان التحرير –أبرز ميادين الثورة- تحول إلى ورشة إبداع أدبى وفنى طوال الأيام الماضية، وقد استفاد الثوار فى عرض إبداعات الثورة من الإمكانيات البسيطة المتاحة لهم مثل المساحة البيضاء فى علم مصر، وألواح الرسم، والورق الفلوسكاب وأقلام الفلوماستر، والحجر الأبيض، واللوحات القماشية وقطع الكرتون البنى واللاصق الطبى، وأقمشة الخيام التى يبيتون فيها، وأعمدة الإنارة وواقى الرأس بل وأسطح الدبابات.
ثورة مفعمة بالفكاهة: إبداعات ابن النكتة حين يصبح ثائرا
فى ميدان التحرير كان شباب الثوار يتبادلون النكات التى سرعان ما ألفوها حول الأحداث التى يقومون هم بصناعتها. خاصة النكت المتعلقة بهروب بعض رجال الأعمال المليارديرات خارج مصر، أو إجهاض ثورة الشباب لأحلام أسرة الرئيس فى وراثة الحكم. كذلك استطاعت عشرات اللافتات الفكاهية التى يتجول بها الشباب فى جنبات الميدان أن تقتنص ابتسامات الحاضرين وربما ضحكاتهم أيضًا. وكثير من هذه اللافتات كانت تدور حول أفكار بعينها، من بينها فكرة أن الشباب لن يغادروا الميدان إلا بعد انصياع الرئيس لطلب الشعب برحيله، وهو ما يرونه قريب المنال وإن بدا صعبًا.
الطابع التفاعلى لخطاب الثورة: «إيد واحدة» فى إنتاج بلاغة الثورة
لأن الثورة لم تخرج من رحم فرد أو جماعة معينة، فقد اتسمت بطابع التفاعلية والحوار وليس طابع الإملاء والتكرار। يفسر هذا ظاهرة تراجع مساحة الخطب مقارنة بهيمنة الهتافات، سواء فى الوقت الذى تستغرقه أو فى عدد مرات تكرارها. هذا الطابع التفاعلى لإبداعات الثورة يظهر جليًا فى أنواع الهتافات التى يقوم فيها الجمهور بالرد على قائد الهتاف على نحو ما كان يفعل المتظاهرون حين يردد قائد الهتاف أحد أسماء السياسيين المنتمين لنظام مبارك، ويردد الجمهور وراءه كلمة «باطل»، إشارة إلى سقوط شرعيته بواسطة الجماهير.
المصري اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق