وداعا صلاح السقا مخرج الليلة الكبيرة
كانت المطربة نجاة الصغيرة، ضيفة علي أحد البرامج التليفزيونية في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وطرحت عليها المذيعة سؤالا لم يكن في حسبانها: من هي أفضل راقصة شرقية في رأيك؟.. ودون تردد، أجابت نجاة الصغيرة: إنها راقصة المولد في مسرحية العرائس الليلة الكبيرة! وقدم البرنامج مقطعاً من مسرحية »الليلة الكبيرة« بالألوان، وتابعت الراقصة الخشبية وهي تنثني وتميل علي ألحان سيد مكاوي، بينما صوت حورية حسن يغني "طار في الهوا شاشي وإنت ماتدراشي.. ياولا"! واكتشفت فعلا أن الراقصة الخشبية تتمتع بليونة غريبة، وأن وسطها "سايب" زي الملبن، وإنها تجيد الإنثناء بكل جزعها للخلف، وهي الحركة اللولبية التي لا تجيدها إلا راقصة محترفة مثل نعيمة عاكف، ورجاء يوسف وكيتي والست نبوية مصطفي أشهر راقصات أفلام الخمسينيات! أما راقصات اليومين دول مثل "دينا" فهي تنثني للأمام لتستعرض مؤخرتها بشكل فج وهي حركة غريبة لا علاقة لها بالرقص الشرقي الذي نعرفه، وإنما بفن آخر لسنا بصدد الحديث عنه الآن! المهم أن طريقة أداء الراقصة الخشبية أثار فضولي، وتمنيت ان أعرف كيف تتحرك علي المسرح بهذا التوافق العضلي الغريب، وكأنها كائن من لحم ودم يتحرك مع إيقاع الموسيقي مترجما كلمات بسيطة وعبقرية خرجت من تلافيف مخ صلاح جاهين في لحظة من لحظات التجلي، وتحولت بقدرة الموهبة الفذة للموسيقار سيد مكاوي إلي كيان خاص اسمه الليلة الكبيرة، أخرجه بحرفة صلاح السقا أشهر اسم في دنيا مسرح العرائس! يحتفظ التليفزيون المصري بتسجيلين لمسرحية الليلة الكبيرة، أحدهما بالأبيض والأسود، وكان يعرض في سنوات السبعينيات من القرن العشرين، والتسجيل الآخر بالألوان، وبدأ عرضه مع نهاية الثمانينيات، ولكنني أستمتع أكثر بتسجيل الأبيض واسود! ربما من باب الحنين للماضي، وحدث أن شاهدت برنامجا عن كيفية عمل لاعب الماريونيت، الذي يحرك العرائس علي المسرح، وكان النموذج الذي قدمه البرنامج حول مسرحية الليلة الكبيرة، واكتشفت أن لاعب الماريونيت يرقص وهو يحرك العروسة الخشبية لضبط ايقاع حركتها مع الموسيقي، وأن لكل جزء في العروسة خيوطا تنتهي إلي يد اللاعب الفنان، الذي لا يغفل لحظة أثناء العرض الذي يمتد إلي ما يقرب الساعتين، يقدم خلالها عدة شخصيات في حالة حركة دائمة! نسبة كبيرة من الجماهير التي شاهدت عرض الليلة الكبيرة سواء علي المسرح أو من خلال شاشة التليفزيون، لم يتابع أي منهم وقائع "مولد حقيقي"، قيمة المسرحية وبأطرافها الأربعة المؤلف صلاح جاهين، والموسيقار سيد مكاوي، والمخرج صلاح السقا، ومحرك العرائس محمود بيومي أنهم مجتمعين قدموا لنا مولدا حقيقيا بكل تفاصيله وخباياه حتي يستطيع أي منا أن يجزم أنه عاش أحداث المولد وصادف شخصياته، وتأثر بهم في فترة من حياته، »أنا مثلا أحب شجيع السيما أبوشنب بريمة الذي يتباهي بقوته وهو يشخط شخطة السبع يتكهرب ويبقي فرخة!«، وقد شاهدت في حياتي من يتباهون بقوتهم وفي وقت الجد، ينسحبون من المعركة بصنعة لطافة، مرددين وهم يهربون من ساحة المواجهة "تعاللي اللالي ياحبيبي تعالالي"! ربما يكون المبدع الراحل صلاح السقا، قد قدم في حياته عشرات الأعمال المسرحية الجميلة، ولكن ستظل »الليلة الكبيرة« هي درة مسرح العرائس لأنها من الحالات الفنية التي لا يجود بها الزمن مرتين في حياة الفنان، مثلما كانت أغنية »رق الحبيب« هي الأروع في تاريخ محمد القصبجي، و»الأطلال« في حياة السنباطي »وشيء من الخوف« للمخرج حسين كمال، »وشيء في صدري« لإحسان عبد القدوس و»الثلاثية« لنجيب محفوظ، فإن »الليلة الكبيرة« كانت العمل الفني الأكثر اكتمالا وروعة في تاريخ كل من ساهموا في وجودها، واختفاء عنصر واحد من تلك التوليفة الإبداعية الفريدة، يسحب كثيرا من قيمة العمل، وهو ما حدث فعلا عندما تحولت الليلة المسرحية إلي عرض باليه قدمتها مجموعة من راقصي فرقة الباليه المصري علي مسرح دار الاوبرا، تحولت العرائس الخشبية إلي راقصين من لحم ودم، تصور أنها فقدت الحيوية والعذوبة والصدق والتلقائية حتي أن الفنانة نادين التي قامت بالتمثيل في فوازير »جيران الهنا« وعدة أعمال فنية أخري مثل فيلم »صعيدي رايح جاي« مع هاني رمزي، وكانت تقدم شخصية الغازية في الليلة الكبيرة«، وبذلت قصاري جهدها في تقليد حركات الراقصة الخشبية وهي تنثني للخلف وتقول »طار في الهوا شاشي«، ومع ذلك فلا يمكن أن تتفاعل مع رقصاتها ولا مع رقصات غيرها، فالأراجوز الخشبي أفضل من راقص الباليه الذي أدي دوره، وشجيع السيما وصدره المنفوخ وحركاته المضحكة، أروع كثيرا من نظيره البني آدم، وكذلك العمدة وبائع الحمص وصبي القهوة، سوف يزداد حنينك إلي العرائس الجميلة التي حركت مشاعرك وانفعلت بها وكأنهم نجوم بحق وحقيقي، أما أكثر ما اثار غيظي في عرض الباليه المأخوذ عن مسرحية »الليلة الكبيرة«، فهو حذف مقطع "يا أم المطاهر رشي الملح سبع مرات" ولا أعرف المنطق الذي دعا عبدالمنعم كامل مخرج عرض الباليه لحذف هذا الجزء والاعتداء علي عمل تابعة الملايين طوال أكثر من أربعين سنة ثم يقوم شخص ما بالاعتداء علي أحد مكوناته الأساسية، بحجة أنه لا يليق للعرض علي الأطفال هذا الجيل؟ ويبدو أن سيادته لم يدرس سلوكيات هذا الجيل ولا يعرف عنهم شيئا، علي كل حال حمدا لله أن عرض العرائس البديع الذي قدمه صلاح السقا موجود ويمكن مشاهدته وتحميله من علي الإنترنت، فهو العرض الأصلي، الأكثر جمالا وخلودا، لقد غاب عن مسرح الحياة صاحب الكلمة صلاح جاهين وصاحب اللحن سيد مكاوي ومخرج العمل صلاح السقا، ولكن العمل الفني لا يموت ابدا وهو شهادة علي عبقرية من أبدعوه، وداعا صلاح السقا فقد اسعدتنا كثيرا وآن الأوان لتستريح!
الجمعة، 1 أكتوبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق