مجهولون يؤسسون هيئة أهلية للتطبيق
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. جملة تعتادها أسماع كل المسلمين.. يحفظون آياتها في القرآن الكريم, كما يحفظون نص الحديث الشريف الداعي لتغيير المنكرباليد أو القلب أو اللسان..

ولكن فجأة وقبل أن تتواري آخر أيام عام2011 ويظهر عام جديد ظهرت علي سطح المجتمع المصري هذه النصوص, كقضية ساخنة أشعل فتيلها إعلان مفاجئ عن كيان تطبيقي لهذا الأمر من خلال مجهولين, لم يكشفوا عن هويتهم ولم يحددوا انتماءاتهم.. مجرد صفحة علي موقع الفيس بوك تحمل من التهديد والوعيد مايصل لدرجة التحذير والتلويح باستخدام العصي الكهربائية في التعامل مع المواطنين, وبدأ فعلا الصدام في إحدي المحافظات, وبدأ كذلك الرعب من هؤلاء وتبعه للأسف رعب لدي البعض من بعض الجماعات والأحزاب, وبدأت نذر الخطر تظهر في وقت لدي مصر فيه مايكفيها من دواعي القلق, وأصبح السؤال هل يصلح أحوالنا أن تكون لدينا هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أم أن ذلك يزيد الطين بلة ويعطي صلاحيات وسيفا مسلطا علي الرقاب يستخدمه مواطنون ضد غيرهم من المواطنين ؟
حاولنا الاتصال بمؤسسي هذه الهيئة ولكن المحاولة باءت بالفشل حيث وجدنا علي صفحتهم بيانا يؤكد أنهم لن يجروا أي لقاءات إعلامية ولن يدلوا بتصريحات صحفية, إلا بعد أيام, حيثما يتم تعيين أحدهم متحدثا رسميا للهيئة التي تقدم نفسها علي أنها جمعية أهليه غير حكوميه( حتي الآن) أسسها شباب يخشي الله و يدعون إليه بالحكمة و الموعظة الحسنة لإنفاذ شرع الله تعالي في أرضه وتفعيل العمل بما انزل في كتابه العزيز لما فيه سواء المجتمع وصلاحه, وتطلب الهيئة الدعاء والدعم لمواجهة الفساد الذي ساد في البر والبحر وابتعاد الكثيرين عن طريق الله وصراطه المستقيم, وتنهي تعريفها المقتضب بجزء مقتطع من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم:( من رأي منكم منكرا فليغيره بيده) ولا تكمل باقية الحديث عن التغيير باللسان وبالقلب.
ورغم مقاطعتهم للتصريحات الإعلامية الإ أننا رصدنا حرصهم علي المتابعة الدقيقة لكل ماينشر حول الهيئة والرد علي المنتقدين بهجوم شديد ومن أبرزهم الدكتور نصر فريد واصل مفتي الجمهورية الأسبق الذي اتهمته الهيئة علي صفحتها ــ عكس الشائع عنه ــ بأنه كان بوقا لنظام مبارك, وذلك لأنه طالب مؤسسيها بالرجوع إلي أهل الاختصاص( الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء) وقال في تصريحات نشرتها الصفحة نقلا عن إحدي الصحف إنهم يسيئون للإسلام ويجعلون الناس تنفر من الدين. نفس المنطق تعاملت به الهيئة مع البيان الذي صدر أخيرا عن الأزهر والرافض لوجودهم.
والغريب أن عشرات بل مئات التعليقات من المواطنين تنهمر عقب كل بيان أو خبر أو مجرد موعظة دينية, وأغلبها يتحول إلي سباب بألفاظ يعاقب عليها القانون موجهة بالأساس لشخصية أدمن الصفحة المجهول, وتحذر كذلك من نزولهم للشارع وتتوعد أي محاولة منهم للتحدث مع أحد بشأن الدين أو الزي أو الالتزام بأي خلق, ولعل ذلك مايفسر الخبر الذي تداولته الصحف حول الاعتداء علي نفر منهم في محافظة القليوبية, الأمر الذي لم تنكره الهيئة علي صفحة الفيس بوك بل أكدته محذرة من تصعيد الموقف في التعامل مع المواطنين بالعصي الكهربائية التي ينتظرون الإفراج عن شحنتها في الجمارك, وهو الخبر الذي عادت الهيئة للتعليق عليه بعد يومين بأن الشحنة تمت مصادرتها في جمارك السويس وأن ذلك لن يثني الهيئة عن مسيرتها ومهمتها.
ماهو المنكر؟
كثير من النصوص والتعاليم الدينية خاصة في الدين الإسلامي تتعرض للتشويه عندما يحدث تناول سيئ لها علي مستوي العوام ووسائل الإعلام, لذا لابد أن نعرف ماهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يستطيع مسلم أن ينكره كجزء من الدين الإسلامي, وفقا للتعريف اللغوي نجد معني المعروف: ما يستحسن من الافعال, وكل ماتعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه, والمنكر: كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه, وعلي مستوي الشرع يظن الكثيرون أن المراد بـ(المعروف) الأمر بالشعائر التعبدية كالصلاة والصيام وتقويم السلوك والأخلاق,أما المنكر فهو: المخدرات, والخلوة بالأجنبية, أو الزني والفاحشة, والحق أن هذه المفاهيم قاصرة, لأن المعروف شامل لكل خير وفضيلة,وأخلاق, وبالمقابل فالمنكر شامل أيضا لكل شر ورذيلة, ابتداء بالشرك وحتي سائر المخالفات في العقيدة والعبادة والمعاملات, وحكمة دعوة الأمة إلي ذلك أن مصالح الأفراد متشابكة وحياتهم متداخلة كمثل ركاب سفينة واحدة إن غرقت غرقوا جميعا وإن نجت نجوا جميعا وهو نفس التشبيه الذي استخدمه النبي صلي الله عليه وسلم للمطالبة بالقبض علي أيدي المفسدين ومنعهم من الفساد حماية للمجتمع بأسره. وهذا الأمر وردت بشأنه نصوص قرآنية عديدة منها:( ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) وفيها يتبين أنه أمر موجه للمسلمين جميعا في حين ربطت آية أخري بين الأمر والنهي وبين الإيمان وبين أن نكون أمة خير:( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وجعلته آية ثالثة من علامات الصلاح:(... يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) وفي آية جعلته سببا للرحمة ودعت لمشاركة المرأة: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وفي آية تظهر عقاب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داود وعيسي ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) أي لم يكن ينهي بعضهم بعضا.
في السعودية.. الهيئة حكومية
النموذج الشهير في الأذهان لتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو المملكة العربية السعودية,وعلي الموقع الإلكتروني الخاص بالرئاسة العامة للهيئة وجدنا مبادئ وأهدافا معلنة وتبعية واضحة للدولة كجهاز حكومي مستقل يرتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء, تم إنشاؤه عام1400 هجرية,بهدف إرشاد الناس وتوجيههم وحثهم علي فعل الخير عن طريق الترغيب وتنبيههم علي خطورة المنكرات والمحرمات ونهيهم عن الوقوع فيها, ومنع اتباع العادات السيئة والبدع المنكرة,وحمل الناس علي أداء الواجبات الشرعية,والحرص علي أن تظهر هذه البلاد بالمظهر الحسن المشرف اللائق بها بصفتها قلب العالم الإسلامي وقدوته. وبالطبع لسنا في معرض بيان سلبيات أو إيجابيات التجربة السعودية خاصة أن لكل مجتمع ظروفه ومايصلح لمجتمع قد لا يصلح لغيره.
الأزهر يرفض من يزاحمه
بعد صمت استمر عشرة أيام تقريبا أعلن الأزهر الشريف رفضه القاطع لما يسمي بـهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤكدا أن الأزهر هو المرجعية الإسلامية الوحيدة القائمة علي الشأن الديني في مصر, وأن هذه المهمة شرعية يحددها القانون, وتؤكدها المسيرة التاريخية للأزهر, لأكثر من ألف عام. وأكد مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف, في اجتماع طارئ, برئاسة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب رئيس المجمع, رفضه إنشاء أية مؤسسات تزاحمه في أداء رسالته الدينية والدعوية.
ووصف الأزهر إنشاء هذه الهيئة بأنه خروج علي دور الأزهر, وعلي مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية, مما يعد خروجا عن التوجه الشرعي والديني لمصر, وعلي شرعية الأزهر كمؤسسة دينية.
تغيير الباطن أفضل من الظاهر
الشيخ محمود عاشور عضو مجمع البحوث الإسلامية يتحدث بغضب شديد عن فكرة تولي أفراد مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الصورة التي يري أنه لو تم التمادي فيها فستكون سببا لوقوع حرب أهلية في مصر, ويتساءل: هل تستجيب فتاة غير محجبة إذا فوجئت بمن يوبخها أو يضربها في الشارع لعدم احتشام ملبسها, ويقول عاشور: الدعوة بالحسني والنصح والإرشاد موجود في كل مكان في مصر: المساجد وفي لجان الفتوي والأزهر وبشكل يضمن عدم التصادم أو التشابك بين الطرفين الناصح والمنصوح, فإذا كانت الحسبة تغير المواقف الظاهرة ولا تغير الأشخاص.. فالدعوة إلي الله تعالي تغير الأشخاص فتنصلح كل مواقفهم في الظاهر والباطن أيضا..
عودة لزمن الفتوات
إنشاء كيانات تعمل علي تطبيق أحكام أو واجبات دينية في دولة ينص دستورها علي أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع أمر هل يستطيع القانون أن يمنعه ؟
المستشار الدكتور محمود العطار نائب رئيس مجلس الدولة يؤكد أنه من حق الدولة أن توقف إنشاء كيانات تسعي لممارسة دور رقابي أو عقابي علي المواطنين استنادا إلي نصوص قانونية تبيح لها التدخل في حال وجود ما يكدر السلم الاجتماعي أو يخل بالنظام أو الأمن العام, ومن حقها المنع كذلك استنادا إلي أن هذه الأدوار ومن بينها تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي اختصاص أصيل لها ولا يجوز لجهة أو جمعية ممارسة هذا الدور بدلا من الدولة وبعيدا عن إشرافها ورقابتها
وإنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكرـ يضيف العطارـ من شأنه استفزاز تيارات أخري في المجتمع لإنشاء كيانات مماثلة تتبني إخضاع المجتمع لما يرونه خطأ أو صوابا, فالتطبيق لن يكون دائما التزاما حرفيا بتعاليم الدين خاصة أنه ليس لدينا تعريف جامع مانع يبين ماهو المعروف وماهو المنكر, منتقدا أي كيانات مماثلة كتلك التي أعلنت عنها الكنيسة لحماية منشآتها واسمتها بالكشافة, وكذلك الألتراس الخاص بجماهير كرة القدم, ومحذرا أيضا من تأييد فكرة الجماعات الشعبية وإطلاق يدها في الانتشار في الشوارع لحماية الأفراد والممتلكات, فمهما كانت الفكرة نبيلة في أصلها, إلا أنها ستحيل بلدنا بعد فترة إلي عصر الفتوات.
تجربة الجماعة الإسلامية
لأنهم أصحاب تجربة في الدعوة إلي تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل وقاموا علي مدي أكثر من عشر سنوات بممارسة مايسمي بـ الحسبة من خلال أفرادهم, فكان لابد أن نطرح علي الدكتور ناجح إبراهيم القيادي البارز بالجماعة الإسلامية أسئلتنا والتي جاءت إجابتها خلافا للتجربة القديمة, إذ أكد لنا رفضه التام لإنشاء أي هيئة خاصة بتنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء كانت تابعة للدولة كما هو الحال في السعودية أو تابعة لأفراد أو جمعيات كتلك التي برزت علي سطح المجتمع المصري أخيرا, ويعترف بأن تجربة الجماعة الإسلامية في الأمربالمعروف والنهي عن المنكر شابتها سلبيات عديدة وكانت تؤدي إلي صدامات مع بعض أفراد المجتمع, بل إنه لا يري في تجربة السعودية نموذجا ناجحا خاليا من الصدام وتداخل الأدوار مع الشرطة, ويوضح أن نظام الحسبة والأمر بالمعروف بشكله القديم قد تغير تماما, فكان هناك محتسب الأسواق المسئول عن ضبط أسعار السلع ومنع الغش والتلاعب, والآن موجود في صورة مباحث التموين, وكذلك بالنسبة للمحتسب القائم بشئون الطريق والأخلاقيات المرعية نجد مقابلا له الآن شرطة الآداب.. وهكذا تغير الشكل ولا يمكن إعادته مرة أخري الآن, نقطة أخري يبرر بها محدثنا رفضه للهيئة, تتعلق بمدي الصلاحيات المتاحة لأفرادها وهل سيتم السماح لهم بحمل سلاح, ويقول: إذا لم تكن لديهم ضبطية قضائية أو سلاح فلن يستطيعوا ممارسة عملهم وإذا كان لدي المحتسبين سلاح فهذا يدعو للفوضي, لأن الشرطة أيضا تحمل سلاحا كما أن منحهم سلطات للضبطية القضائية سيؤدي بلاشك لازدواجية مع أجهزة الدولة, ولذا فالدولة هي الجهة المنوط بها تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق جهاز الشرطة لأنها هي الصورة الحديثة للاحتساب.
ولكن كلنا يعلم أن الشرطة لا تأمر بالمعروف أو تنهي عن المنكر ؟
أجاب الدكتور ناجح إبراهيم عن هذا السؤال قائلا: الشرطة لم تكن تفعل دورها بالفعل لأنها كانت مسخرة لخدمة نظام مبارك وحمايته, وكانت مباحث الآداب ممنوعة من القيام بدورها كما ينبغي, أما لو عادت الشرطة لخدمة البلد فستنجح في دور المحتسب خاصة أنها ستعمل في ظل أحزاب إسلامية تأخذ بزمام البلاد وتشجع هذا التوجه.
فرض عين أم فرض كفاية؟
هل بذلك يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا علي كل مسلم؟
الدكتور عبدالمهدي عبد القادر الأستاذ بجامعة الأزهر يبين شروط القيام بهذا الفعل ـ سواء كان من فرد عادي أو من مجموعة أفراد يشكلون كيانا لهذا الهدف ـ أن يكون القائم به علي علم ودراية بالدين, وأن يعرف أولا ماهو المنكر المتفق عليه وماهو المختلف حوله, وألا تتسبب مهمته في إحداث منكر أكبر أو فتنة وأن يغلب علي ظنه استجابة من يدعوه لترك المنكر, فإذا لم يحدث فعليه أن يبحث عن وسيلة أخري أو شخص آخر يكون أكثر تأثيرا, وليعلم الجميع أن هذه المهمة محكومة بقاعدة قرآنية أشمل هي: ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.. وفيما يتعلق بالنص النبوي الخاص بالتدرج في تغيير المنكر من اليد إلي اللسان إلي القلب يوضح د.عبد المهدي أن التغيير باليد لا يعني أبدا الاعتداء البدني علي مرتكب المنكر, وإنما التدخل لمحاولة منع المنكر أو الظلم, فإذا استشعرت ضررا أو فتنة محتملة يكون بمجرد النصح الهادئ باللسان, وإذا لم يستطع أيضا يكتفي بانكار هذا الفعل في قلبه ويشهد ربه علي ذلك. ويبين محدثنا حكم الأمر والنهي, فهو إما أن يكون فرض عين أي يجب علي المسلم بذاته القيام به, كأن يكون هو الوحيد العالم بالفساد أو المنكر, وإما يكون فرض كفاية إذا كان الجميع يعلمه ويصبح مسئولية الأمة إذا قام بها نفر منهم سقط عن الباقين
المصدر : الاهرام

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق