
إذا كان هناك شيء يميز حركة الاحتجاج التي شهدتها الشركة المصرية للاتصالات في الآونة الأخيرة مقارنة بموجة الاحتجاجات العارمة السائدة بالبلاد.
فهو أنها حركة شعاراتها الإصلاحية المعترضة علي السياسات والأفكار اكبر وأهم من شعاراتها الفئوية المطالبة بتحسين المرتبات, وقد تجسد ذلك في الكثير من الوقائع, من بينها الموقف العفوي الذي حدث أمام مكتب النائب العام وتناقلته بعض الأخبار, حينما بدأ أحد المحامين المتطوعين للدفاع عن المحتجين يردد شعارات فئوية مطالبة بتحسين الأجور, فما كان من جمهور العاملين الموجودين إلا أن رفض الاستجابة له ورددوا بصورة عفوية شعارات مطالبة بالتغيير والتطهير ورافضة للمطالبة بتحسين الأجور, وهذا السلوك من قبل الحركة الاحتجاجية يجعل من واجبنا أن نتناول القضية من زاوية السياسات المطبقة, ليس في الشركة وحسب ولكن في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ككل.لقد أشرت الأسبوع الماضي إلي أن ما حدث للمصرية للاتصالات خلال السنوات العشر الماضية وما جري تطبيقه فيها من سياسات وأفكار كان بمثابة القلب النابض لحزمة السياسات التي استهدفت ما أطلق عليه تحرير قطاع الاتصالات وإعادة هيكلته, فمعظم الخطط التي نفذت بالقطاع كانت إما تبدأ بالشركة أو تنتهي بها, سواء عند وضع سياسات تسعير الخدمات, أو عند إدارة العلاقة بين القطاع الخاص والقطاع العام ونصيب كل منهما من الموارد والفرص الاستثمارية المتاحة, أو عند تغيير البيئة التشريعية والقانونية السائدة, أو عند اختيار النموذج التنموي المطبق فعليا علي الأرض.وفي كل هذه الأحوال كانت المصرية للاتصالات في وجه العاصفة طوعا أو كرها, تتأثر سلبيا في معظم الأحيان, وإيجابيا في أحيان أقل علي النحو الذي أوضحناه الأسبوع الماضي, وهو وضع صنع السياق العام أو الرحم الذي تكونت بداخله حركة الاحتجاج الحالية بما تجسده من رد فعل اجتماعي طبيعي ومتوقع يحاول أن يقف في وجه العاصفة, ولعل هذا ما يفسر تركيز الحركة الاحتجاجية علي تغيير السياسات القائمة وما يكتنفها من ملابسات يري البعض أنها جنايات.وبعد نشر مقال الأسبوع الماضي تشرفت باتصالات عديدة من خبراء ومسئولين يعملون بالشركة أو كانوا يعملون بها أو يعملون بشركات وجهات غيرها, واتفق خلالها الجميع علي ضرورة النظر لهذه الحركة الاحتجاجية كجرس إنذار يفرض إعادة النظر في مجمل السياسات المطبقة بقطاع الاتصالات ككل, وكان النقاش الأكبر في هذا الصدد مع عدد من مسئولي الجمعية العلمية لمهندسي الاتصالات, وهي الجمعية التي يقف الكثير من قادتها وناشطيها علي رأس الحركة الاحتجاجية للشركة, وقد طلبت من الجمعية بلورة موقفها تجاه السياسات السائدة بقطاع الاتصالات, ليعرف الرأي العام كيف كان ما يجري خلال السنوات العشر الماضية مقدمة لما يحدث حاليا من احتجاج.وصلتني بعد ذلك رسالة من الجمعية بهذا الخصوص, عادت بالأمور إلي منتصف سبعينيات القرن الماضي, حينما كانت السياسات المطبقة بالقطاع ـ ومن ثم الشركة ـ في ذلك الوقت تدرك أهمي تصنيع الأجهزة ومعدات الشبكات والسنترالات محليا, في إطار نموذج تنموي يعتمد علي تعميق المشاركة المحلية في التصنيع, وفي ظل هذه السياسات تم إنشاء مصنع المعصرة لإنتاج معدات السنترالات الميكانيكية الأوتوماتيكية بتكنولوجيا سويدية وفي79 قام الدكتور مصطفي خليل بعقد ما يسمي باتفاقية القرن بتمويل من بنوك أمريكية وأوربا الغربية, لإحلال وتحديث ونشر شبكات الاتصالات في مصر وتم إدخال السنترالات الاليكترونية في82 والخدمات المصاحبة وفي87 السنترالات الرقمية, وفي سنة93 تم إنشاء مصنع اجتي لتصنيع معدات وأجهزة الشبكات والتوسع في المعدات والأجهزة الرقمية, و كذلك تم إنشاء الشبكة القومية لنقل المعلومات وقامت بإنشاء شبكات نقل المعلومات بين البنوك الرئيسية في مصر والجهات السيادية ومشروع الرقم القومي, وفي96 أنشأت المصرية للاتصالات أول شبكة محمول في مصر.والثابت تاريخيا أن الإدارة التي عملت تحت ظلال هذه السياسات استطاعت أن تسدد القروض التي استدانتها الشركة أو الهيئة وقتها, وتبدأ في تمويل خطط الإحلال والتجديد والتحديث ذاتيا, بل ويتوفر لديها فائض تحوله للميزانية العامة للدولة للمساهمة في تمويل الخط الأول لمترو الأنفاق.وقبيل مجيء أحمد نظيف بقليل إلي وزارة الاتصالات كان قطاع الاتصالات قد بدأ يشهد تغييرا في السياسات القائمة والنموذج التنموي المرتبط بها ويضع محلها سياسات جديدة, فقد بدأ التخلي بسرعة عن التصنيع المحلي للأجهزة ومعدات الشبكات, مع العمل علي تقليص دور الدولة ــ ممثلة في الشركة المصرية للاتصالات ـ في تقديم خدمات الاتصالات, وكانت الخطوة الأولي البارزة التي جسدت السياسات الجديدة هي إجبار الشركة علي بيع شركة المحمول الأولي للقطاع الخاص, واستخدمت في ذلك دعاوي الخصخصة, ثم أعقب ذلك سلسلة من الخطوات التي حرمت الشركة من ممارسة دورها, وكان المثال الأبرز أن الشركة في عام99 كانت قد قاربت علي تنفيذ مشروع لتقديم خدمات الإنترنت في مصر كلها, لكن نظيف ـ وتطبيقا للسياسات الجديدة التي جاء بها ـ اتخذ قرارا بإيقاف المشروع وقام عقيل وفريقه بالتنفيذ, وقد اعترف الدكتور طارق كامل فيما بعد بأن دواعي إيقاف المشروع كانت سياسية وليست فنية, وكان يقصد بذلك إعطاء الفرصة لإنشاء شركات متوسطة وصغيرة قطاع خاص تقوم بخدمات الاتصالات الجديدة, وأنه لابد من تعطيل المارد الكبير المسمي المصرية للاتصالات حتي تقف هذه الشركات الصغيرة وتستطيع المنافسة وكانت خطيئة كبري في حق الشركة.أطلقت السياسات الجديدة يد القطاع الخاص بدون آليات للمحاسبة وترشيد الأداء, ففي كل أنحاء العالم جري تقييد القطاع الخاص بمعايير الجودة وأداء الالتزامات الاجتماعية والإنفاق من مدخراته بصورة أساسية, وترك المنافسة مفتوحة وطبيعيه بينه وبين المشغل الأساسي لأنشطة الاتصالات, ولكن في مصر لم يحدث هذا الأمر, واستطاع القطاع الخاص تعظيم فوائده من هذه السياسات بأقل قدر ممكن من القيود والالتزامات.وأبرز ما خلفته هذه السياسات أنها أنشأت لوبي قوي يرتبط بالشركات والكيانات العالمية الكبري ويعمل كمسوق وبائع لمنتجاتها وخدماتها وخبراتها بالداخل وهذا اللوبي له جناح ظاهر في القطاع الخاص وجناح خفي في الحكومة والمؤسسات الرسمية, ولا يأبه كثيرا ببناء القدرات الوطنية المستقلة في هذا المجال, كما سمحت لهذا اللوبي بأن يشتط ويتطرف في التخلي عن مسئولياته في بناء القدرات الوطنية, حتي تحول قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات إلي قطاع يضخ في خزانة الدولة أموالا من رسوم الجباية والصادرات الضئيلة من هنا وهناك, لكنه يعود ويستنزف من مواردها أضعاف ما يقوم بضخه من أموال في صورة نظم ومنتجات ومعدات مستوردة, فالأرقام تقول أن واردات مصر من الخارج تصل الي36 مليار دولار, ستة مليارات منها في القطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, أما الإنفاق الداخلي علي الاتصالات فيبلغ35 مليارا ناتجة من الاستهلاك عبر77 مليون خط, واغلب هذه القيمة تذهب للشركات ويحول الجزء الأكبر منها للخارج بحكم نسبة ملكية راس المال الأجنبي ومساهماته في القطاع, أي أن قطاع الاتصالات في التحليل الأخير يستنزف من العرق والجهد والمدخرات المصرية في صورة واردات تتجاوز صادراته وما يحققه من دخل بأكثر من أربعة أضعاف, كما يستنزف قدرا آخر من المدخرات الوطنية في صورة أرباح تحققها الشركات الأجنبية علي أرض مصر وتحولها للخارج دون أن تكون مقيدة بما يكفي بآليات وأدوات ترشيد الأداء والمسئولية الاجتماعية الحقيقية.ولو نظرنا إلي ما يستوعبه قطاع الاتصالات من قوي عاملة نجده يستوعب2% من قوة العمل في مصر في حين أن المتوسط العالمي للقدرة الاستيعابية لهذا القطاع تصل إلي حوالي10%عمالة مباشرة و10% أخري عمالة غير مباشرة, وعند مقارنته بالقطاعات الأخري نجد أن قطاع الزراعة مثلا يستوعب17% من حجم قوة العمل الموجودة, والفرق بين وارداته وصادراته3.7 مليار جنيه طبقا لإحصاءات2009, أما قطاع الاتصالات فيستوعب2% من قوة العمل وتصل وارداته إلي ستة مليارات وصادراته إلي ما دون المليار بقليل لأن الأرقام حول صادراته غير متفق عليها بصورة كاملة.وخلاصة ذلك أن ما يقال عن أن السياسات القائمة قد جعلت من قطاع الاتصالات قطاعا إنتاجيا هو قول يكتنفه كثير من الشك وعدم المصداقية, لأنه ببساطة لا يوجد إنتاج حقيقي مؤثر في هذا القطاع, وينطبق ذلك بصورة مؤلمة وواضحة علي الشركة المصرية للاتصالات التي يكرر قادتها مرارا أنها تحقق أرباحا تتجاوز المليار, في حين أن استخدام معايير تقييم موضوعية من منظور تنموي مختلف يقلب الأمور رأسا علي عقب ويظهر أن هذه أرقام خادعة.كان هذا فحوي ما تضمنته رسالة الجمعية العلمية لمهندسي الاتصالات من أفكار ووقائع, وهي رسالة تؤكد مع غيرها من الملابسات أن القضية في المصرية للاتصالات ومن ورائها القطاع ككل هي قضية سياسات وليست مرتبات, فالأمر يحتاج إلي إعادة النظر في النموذج التنموي المتبع داخل القطاع طوال السنوات الماضية, ولا شك أن الثورة والتغيير الكبير الذي حدث بعدها يعد فرصة مواتية لإعادة النظر في هذه السياسات, وتبني سياسات جديدة تنقلنا من اللهفة علي الاستيراد إلي الصبر علي الإنتاج, ومن التلذذ بالتجارة إلي الرضا بالتصنيع, ومن الفهلوة والسمسرة إلي العمل المحترف المنتج, ومن الانبطاح أمام نهم رأس المال الخاص الطفيلي ورغباته الجامحة إلي رعاية قطاع خاص رشيد, ومن التبعية إلي الاستقلال ومن الإتباع الذي يكب الوجوه علي الأرض إلي الإبداع الذي يرفع الرؤوس ويطيل الأعناق.
المصدر: لغة العصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق