
في 28 سبتمبر 1970 وهو اليوم الذي توفي فيه جمال عبدالناصر، كانت ابنته هدي تبلغ من العمر 24 عاما، وتعمل في سكرتارية الرئيس براتب لا يتجاوز الـ 36 جنيها، لم يترك عبدالناصر لأبنائه ثروة لا قليلة ولا كثيرة، لكنه ترك لهم قيمة أن يكون أبوهم هو عبدالناصر.. وعبدالناصر تحديدا.
كل واحد من أبناء عبدالناصر يحبه علي طريقته، يقدم له ما يستطيع ليحافظ علي ذكراه، لكن وحدها هدي التي عملت من أجل أن تخلد والدها في أمة آفتها النسيان، كما قال نجيب محفوظ في رائعته «أولاد حارتنا» فكل شيء وكل إنسان يمكن أن ينسي في مصر مهما بلغت عظمة ما فعله وقدمه.
شيء من هذا عرفته هدي عبدالناصر مبكرا جدا، ولذلك عكفت في مشروع استمر 12 عاما كاملة تجمع خلاله خطب وحوارات والدها، وهي الخطب والحوارات التي صدرت في 12 جزءاً عن المكتبة الأكاديمية، كان من المفروض أن تقوم مؤسسة «الأهرام» بنشر هذا العمل التاريخي الوطني الموسوعي، لكن خلافا علي تمويل المشروع كتب نقطة النهاية في علاقة «الأهرام» به.
كانت هدي تريد وفقط 105 آلاف جنيه، تكلفة جمع المادة من مصادرها المختلفة، كان يساعدها في العمل 15 باحثا وكان لابد لهم من مرتبات ومكآفات، ولما ماطلت «الأهرام» - ممثلة في رئيس مجلس إدارتها وقتها إبراهيم نافع، ومدير مركز «الأهرام» للدراسات السياسية والإستراتيجية وقتها عبد المنعم سعيد - في تمويل المشروع، حملته هدي علي كتفها ورحلت به، بعد أن قررت أن تنجزه وحدها، فهي أولي بوالدها ووالدها أولي بها.
كانت «الأهرام» توفر لها مكانا مناسبا للعمل، فقامت باستئجار مكان مناسب، دفعت رواتب ومكافآت الباحثين من جيبها الخاص، لم تمد يدها إلي شخص أو جهة (قالوا إن العقيد القذافي ساهم في تمويل المشروع)، لكن هدي كانت حادة وحاسمة عندما قالت إنها وزوجها حاتم صادق لا يحتاجان لأحد.
بالنسبة لها كان جمع تراث عبدالناصر مشروعا قوميا وبعد أن انتهت منه - المشروع استغرق سنوات من 1996 إلي 2008 - لكنها بعد أن أنجزته سعت إلي إتمام مشروع آخر وهو متحف بيت عبدالناصر في منشية البكري، وبالتجربة فلن تهدأ هدي إلا بعد أن تنتهي من هذا المشروع، وفي لحظة فخر بأبيها ستهدي روحه ما فعلت، لأنها كانت تفعل ذلك لوجهه ولوجه مصر التي وهب حياته من أجلها.. كانت لهدي عبدالناصر فلسفة واضحة ومحددة وهي تعمل في مشروعها، سربتها ضمن كلماتها الكثيرة التي أدلت بها للصحف ووسائل الإعلام المختلفة أثناء إنجازها للمشروع الكبير، قالت إنه منذ وفاة عبدالناصر وكل من عمل معه أو اقترب منه ولو للحظات أخذ الفرصة كاملة في أن يتحدث، الوحيد الذي نزعت منه فرصة الكلام كان هو الرئيس عبدالناصر، وجمع تراثه يمكن أن يمنحه الفرصة من جديد ليتحدث ويرد علي كثير مما قيل وهو في أغلبه متناقض وغير صحيح.. لو فعلت هدي عبدالناصر ما فعلته لأن عبدالناصر هو والدها فقط، ما لامها أحد علي ذلك، لكنها أنجزت مشروعها وهي تعرف أن الرجل الذي تسعي إلي تخليد ذكراه ليس والدها وحدها لكنه والد أجيال عديدة من المصريين، ليس ممن عاصروه فقط، لكن ممن جاءوا بعده وممن سوف يأتون، فعبدالناصر زعيم عابر للأجيال، وكانت لدي الأجيال مشكلة في كم التناقض الذي يحيط به، وكم الافتراءات التي ألقيت عليه، فلا أقل من أن يكون هناك مصدر نعرف منه كيف حكم عبدالناصر مصر.
كانت هناك تخوفات كثيرة من أن تزل قدم هدي عبدالناصر، فتتعامل مع أبيها علي أنه إله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أمر متوقع فلا يمكن لأحد أن يتجاهل العلاقة الشخصية بين الباحثة وبين من تبحث في تاريخه وتفتش في أوراقه، لكن هدي تجاوزت هذه العقبة، فقد قدمت تراث أبيها كما جرت وقائعه علي أرض الواقع، وبعد ذلك من حق كل ذي رأي أن يدلي بدلوه وبالشكل الذي يريده.. شيء آخر لم يلتفت له أحد، لكن هدي عبدالناصر حرصت علي تأكيده، وهو الجانب الإنساني لدي عبدالناصر، لقد تعجب البعض عندما شاهدوا فيلم "ناصر 56 " من حالة الرسمية التي بدا عليها عبدالنا صر في بيته، وتحديدا مع زوجته السيدة تحية، وقيل وقتها إن محفوظ عبد الناصر كاتب الفيلم لم يجرؤ أن يجعل من عبدالناصر في مشاهده يبدو كزوج عادي يقبل زوجته ويربت علي شعرها، وهو أمر طبيعي خاصة إذا عرفنا أن كثيرين ممن عملوا مع عبدالناصر لم يعرفوا لون عينيه، لأنهم لا يجرأون علي النظر فيهما مباشرة.
لكن هدي أدركت قيمة أن تصدر الوجه الإنساني لأبيها، أن يعرف الناس مواطن الحب والضعف والقوة في حياة الرجل الذي لا يزال مؤثرا وحاكما رغم وفاته منذ أكثر من أربعين عاما، ساعدت هدي في نشر خطابات أبيها لوالدها، وهي الخطابات التي بدا فيها عبدالناصر شخصا آخر تماما، تحاول وعن قرب أن تصحح أي شيء ينشر عنه، إنها مثل الحارس الأمين علي حياته.. إن الدور الذي تقوم به هدي عبدالناصر يساوي الكثير، خاصة أنها تفعله في أمة بلا ذاكرة، لقد ناضل عبدالناصر، والآن تسعي هدي مناضلة للحفاظ علي نضاله وعلي تاريخه، لقد منح عبدالناصر قيمة أن تكون ابنة لرجل مثله، وها هي ترد
كل واحد من أبناء عبدالناصر يحبه علي طريقته، يقدم له ما يستطيع ليحافظ علي ذكراه، لكن وحدها هدي التي عملت من أجل أن تخلد والدها في أمة آفتها النسيان، كما قال نجيب محفوظ في رائعته «أولاد حارتنا» فكل شيء وكل إنسان يمكن أن ينسي في مصر مهما بلغت عظمة ما فعله وقدمه.
شيء من هذا عرفته هدي عبدالناصر مبكرا جدا، ولذلك عكفت في مشروع استمر 12 عاما كاملة تجمع خلاله خطب وحوارات والدها، وهي الخطب والحوارات التي صدرت في 12 جزءاً عن المكتبة الأكاديمية، كان من المفروض أن تقوم مؤسسة «الأهرام» بنشر هذا العمل التاريخي الوطني الموسوعي، لكن خلافا علي تمويل المشروع كتب نقطة النهاية في علاقة «الأهرام» به.
كانت هدي تريد وفقط 105 آلاف جنيه، تكلفة جمع المادة من مصادرها المختلفة، كان يساعدها في العمل 15 باحثا وكان لابد لهم من مرتبات ومكآفات، ولما ماطلت «الأهرام» - ممثلة في رئيس مجلس إدارتها وقتها إبراهيم نافع، ومدير مركز «الأهرام» للدراسات السياسية والإستراتيجية وقتها عبد المنعم سعيد - في تمويل المشروع، حملته هدي علي كتفها ورحلت به، بعد أن قررت أن تنجزه وحدها، فهي أولي بوالدها ووالدها أولي بها.
كانت «الأهرام» توفر لها مكانا مناسبا للعمل، فقامت باستئجار مكان مناسب، دفعت رواتب ومكافآت الباحثين من جيبها الخاص، لم تمد يدها إلي شخص أو جهة (قالوا إن العقيد القذافي ساهم في تمويل المشروع)، لكن هدي كانت حادة وحاسمة عندما قالت إنها وزوجها حاتم صادق لا يحتاجان لأحد.
بالنسبة لها كان جمع تراث عبدالناصر مشروعا قوميا وبعد أن انتهت منه - المشروع استغرق سنوات من 1996 إلي 2008 - لكنها بعد أن أنجزته سعت إلي إتمام مشروع آخر وهو متحف بيت عبدالناصر في منشية البكري، وبالتجربة فلن تهدأ هدي إلا بعد أن تنتهي من هذا المشروع، وفي لحظة فخر بأبيها ستهدي روحه ما فعلت، لأنها كانت تفعل ذلك لوجهه ولوجه مصر التي وهب حياته من أجلها.. كانت لهدي عبدالناصر فلسفة واضحة ومحددة وهي تعمل في مشروعها، سربتها ضمن كلماتها الكثيرة التي أدلت بها للصحف ووسائل الإعلام المختلفة أثناء إنجازها للمشروع الكبير، قالت إنه منذ وفاة عبدالناصر وكل من عمل معه أو اقترب منه ولو للحظات أخذ الفرصة كاملة في أن يتحدث، الوحيد الذي نزعت منه فرصة الكلام كان هو الرئيس عبدالناصر، وجمع تراثه يمكن أن يمنحه الفرصة من جديد ليتحدث ويرد علي كثير مما قيل وهو في أغلبه متناقض وغير صحيح.. لو فعلت هدي عبدالناصر ما فعلته لأن عبدالناصر هو والدها فقط، ما لامها أحد علي ذلك، لكنها أنجزت مشروعها وهي تعرف أن الرجل الذي تسعي إلي تخليد ذكراه ليس والدها وحدها لكنه والد أجيال عديدة من المصريين، ليس ممن عاصروه فقط، لكن ممن جاءوا بعده وممن سوف يأتون، فعبدالناصر زعيم عابر للأجيال، وكانت لدي الأجيال مشكلة في كم التناقض الذي يحيط به، وكم الافتراءات التي ألقيت عليه، فلا أقل من أن يكون هناك مصدر نعرف منه كيف حكم عبدالناصر مصر.
كانت هناك تخوفات كثيرة من أن تزل قدم هدي عبدالناصر، فتتعامل مع أبيها علي أنه إله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أمر متوقع فلا يمكن لأحد أن يتجاهل العلاقة الشخصية بين الباحثة وبين من تبحث في تاريخه وتفتش في أوراقه، لكن هدي تجاوزت هذه العقبة، فقد قدمت تراث أبيها كما جرت وقائعه علي أرض الواقع، وبعد ذلك من حق كل ذي رأي أن يدلي بدلوه وبالشكل الذي يريده.. شيء آخر لم يلتفت له أحد، لكن هدي عبدالناصر حرصت علي تأكيده، وهو الجانب الإنساني لدي عبدالناصر، لقد تعجب البعض عندما شاهدوا فيلم "ناصر 56 " من حالة الرسمية التي بدا عليها عبدالنا صر في بيته، وتحديدا مع زوجته السيدة تحية، وقيل وقتها إن محفوظ عبد الناصر كاتب الفيلم لم يجرؤ أن يجعل من عبدالناصر في مشاهده يبدو كزوج عادي يقبل زوجته ويربت علي شعرها، وهو أمر طبيعي خاصة إذا عرفنا أن كثيرين ممن عملوا مع عبدالناصر لم يعرفوا لون عينيه، لأنهم لا يجرأون علي النظر فيهما مباشرة.
لكن هدي أدركت قيمة أن تصدر الوجه الإنساني لأبيها، أن يعرف الناس مواطن الحب والضعف والقوة في حياة الرجل الذي لا يزال مؤثرا وحاكما رغم وفاته منذ أكثر من أربعين عاما، ساعدت هدي في نشر خطابات أبيها لوالدها، وهي الخطابات التي بدا فيها عبدالناصر شخصا آخر تماما، تحاول وعن قرب أن تصحح أي شيء ينشر عنه، إنها مثل الحارس الأمين علي حياته.. إن الدور الذي تقوم به هدي عبدالناصر يساوي الكثير، خاصة أنها تفعله في أمة بلا ذاكرة، لقد ناضل عبدالناصر، والآن تسعي هدي مناضلة للحفاظ علي نضاله وعلي تاريخه، لقد منح عبدالناصر قيمة أن تكون ابنة لرجل مثله، وها هي ترد
الفجر - محمد الباز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق