الأربعاء، 17 فبراير 2010

عمر الشريف نجم مصر الأوحد عالميا


ربما كان من حسن الطالع أن يدخل عمر الشريف عالم السينما المصرية من بوابة يوسف شاهين، وأن تسطع صورته عالميا على شاشة ديفيد لين، وهذا لا يعنى أن عمر الشريف أصبح على ما هو عليه الآن ــ نجما فوق العادة ــ بسبب ضربات حظ، ذلك أنه- أصلا- يملك مفاتيح النجاح. فإلى جانب ثقافته الأدبية التى تلقاها فى مدرسة فيكتوريا بالإسكندرية حيث درس وليم شكسبير وكورنى وراسين، أحب التمثيل ومارسه كهواية، فضلا عن تمتعه بقوام معتدل، أميل للطول، ووجه محدد القسمات، أوضح ما فيه عينان واسعتان، غائرتان، تلتمعان بالذكاء والانتباه والقدرة على التركيز والاستيعاب، تترقرقان أحيانا بنظرة رومانسية حالمة، ومن الممكن أن تغدو النظرة حادة جارحة، أقرب لنظرات صقر. فوق العينين حاجبان كثيفان يؤكدان أهمية العينين، وجبهة عريضة توحي باتساع أفق صاحبها.. فم رقيق الشفتين، توحيان فى ابتسامتهما بالألفة والرضا، وتعلنان فى انطباقهما عن قوة العزيمة والاستعداد لقبول التحدي، وثمة حسنة على الجانب الأيمن من الأنف، تكسب الوجه طابعا خاصا. مشكلتان واجهتا عمر الشريف فى البداية، تتعلق إحداهما بأدائه الصوتي المتسم بلكنة أجنبية لا تجيد نطق حرفي الطاء والضاد، وتتجسد الثانية فى بطء التعبير عن ردود الأفعال، فانفعالاته تتأخر للحظات قبل أن يعبر عنها، وهذه المشكلة تلاشت أو كادت مع يوسف شاهين الذى منحه بطولة «صراع فى الوادى» 1954. فهنا- كما فى معظم أفلام يوسف شاهين- المتدفقة بالحركة والحيوية- يتعرض البطل «أحمد»، المهندس الزراعى النابه، إلى عشرات المواقف المتباينة والأحداث الساخنة، تتوالى متسارعة، بطريقة تتطلب من عمر الشريف انتقالا يقظا، متفهما، من إحساس لآخر، فضلا عن تهيُئه، نفسيا وجسمانيا، للدخول فى جميع ألوان الصراع: الساكن، المتصاعد، المتصادم، داخل ذاته وضد آخرين، بل ثمة مطاردات دامية بين عمدان معبد الكرنك، ومعارك حياة أو موت، وبالتالى كان لابد أن ينطلق عمر الشريف جريا وقفزا وتسلقا، ما أدى إلى تخلى عمر الشريف عن تحفظه وجموده وجعله أكثر مرونة وطواعية. جاء «صراع فى الوادى» متمتعا برونق خاص، سواء فى عمق المجال الممتد على طول الأفق أو نضارة الصورة، أو نشاط الكاميرا التى لا تعرف السكون، أو حيوية حركة الممثلين داخل الكادرات، والأهم ارتقاء عنصر الأداء التمثيلي عند الجميع، خصوصا فى حضور فاتن حمامة ومشاركتها لصاحب الوجه الجديد الذى يبادل البطلة حبا بحب، ويتعرض لتجربة بالغة المرارة حين يحكم على والده ــ ظلما ــ بالإعدام شنقا، ويصبح على عمر الشريف التعبير عن مدى الفجيعة التى تنتابه إزاء هذا الحكم، وبصرخة واحدة تبدو كما لو أنها عفوية يجسد عمر الشريف إحساسه بالموقف، والأهم قدرته على الحفاظ على وحدة أدائه العام برغم تنوع التفاصيل، فطوال النصف الأول من الفيلم ينطلق مشرقا، مبتهجا، مترعا بالأمل، حتى عندما يواجه المشكلات أو المتاعب. وفى النصف الثانى، عقب القبض على والده، ترتسم فى عينيه تلك النظرة القلقة، الحائرة، الحذرة، الحزينة برغم لمسات الأمل والمحبة التى يحظى بها من حبيبته «بطاطا» أو «بتاتا» حسب نطقه. نجح عمر الشريف فى الاختيار واستقبل نقديا وجماهيريا بحفاوة لم تتحقق فى فيلمه التالي «شيطان الصحراء» ليوسف شاهين 1954، الأقرب للمغامرات ذات الطابع التاريخى، ذلك أنه هنا يقدم دور الفارس الذى يمتطى صهوة جواده ويعدو به مبارزا جنود طاغية، منقذا فتاة من قبيلته. دور يتطلب حركة خارجية ولياقة بدنية ويكاد يخلو من الانفعالات الداخلية التى وجدها فى فيلمه التالى «صراع فى الميناء» ليوسف شاهين أيضا 1955، حيث يخوض صراعا أشد شراسة من صراعه ضد عواصف البحر التى تعرض لها فى مهنته كبحار، فى هذا الفيلم رسخ عمر الشريف نجاحه الذى حققه فى «صراع فى الوادى». مع آخرين فى السنوات التالية لثورة يوليو 1952 انعكست الحيوية المعتملة فى المجتمع المصرى على الشاشة الفضية، سواء بالنسبة لشخصيات الأفلام، بمهنهم التى تم الاعتراف بها أخيرا، مثل العمال والفلاحين وصغار الموظفين والصيادين والجنود، أو بالنسبة لظهور نجوم جدد، ومن بينهم عمر الشريف الذى شارك كلا من عبدالحليم حافظ وأحمد رمزى فى «أيامنا الحلوة» لحلمى حليم 1955. جاء الفيلم دافئا رقيقا، يعلى من شأن الصداقة بين الشبان الثلاثة. يدور فى حجرتين فوق سطح بيت فى حى شعبى، إحدى الحجرتين تسكنها فتاة عليلة، مقطوعة من شجرة، تخفق القلوب بحبها، ومع اشتداد المرض تزدهر الرحمة فى صدور الشبان. يحاولون إنقاذها بلا فائدة. تباينت التكوينات النفسية للأبطال الثلاث، فبينما بدا عبدالحليم حافظ رومانسيا، طالعنا أحمد رمزى أميل إلى الشقاوة، فى حين ظهر عمر الشريف متوازنا، عقلانيا، يعبر باقتصاد ولكن بعمق عن أحاسيسه المترعة بالمحبة تارة والقلق تارة ثانية والحزينة تارة أخرى. توالت أفلام عمر الشريف مع مخرجين أضافوا له بقدر ما أضاف لهم، وأثبت قدرته على مراعاة ظلال الشخصيات التى يؤديها برغم تكوينها الداخلى المتشابه، فمثلا جسد شخصية الشاب الذى تبلغ براءته حد السذاجة، حتى أنه يغدو ألعوبة فى يد الآخرين، بل مخلبا ينفذ إرادة الأشرار. فى هذا الإطار قدم «من أجل امرأة» لكمال الشيخ 1959، و«صراع فى النيل» لعاطف سالم 1959، و«إشاعة حب» لفطين عبدالوهاب 1960. فى «من أجل امرأة» المحكم البناء، يمتزج الحب الجنونى بالجريمة، والجمال بالتآمر، والثقة بالخداع. عمر الشريف، مندوب تأمين، يذهب لعمل بوليصة لثرى عجوز. فى الفيلا الأنيقة يلتقي زوجة الثرى ذات الجمال الفاتن، ليلى فوزى، يهيم بها حبا ورغبة، تستدرجه بنظراتها الأخاذة ووعودها المتلألئة إلى جريمة قتل زوجها، وبعد إقدامه على فعلته يكتشف علاقتها بآخر، يعصف به الغضب وفى معركة أخيرة يصاب بطلق نارى حيث تنتهى حياته وهو يعترف بكل ما جری. عمر الشريف، مع أستاذ التشويق الهادئ كمال الشيخ، تعلم ضبط الانفعال لا إطلاقه، السيطرة الكاملة على ملامح الوجه وارتفاع الصوت، فضلا عن الانتقال السلس من إحساس لإحساس، ولعل لحظات التردد التى انتابت عمر الشريف إزاء إلقاء ضحيته من باب القطار أن تكون من أعمق اللحظات إبداعا، فالإنهاك النفسانى الذى يحسه عمر الشريف ينعكس على جسمه فيبدو مرهقا تماما، يتابع بنظرات مضطربة، زائغة، حركة الثرى العجوز الجالس بالقرب منه، وفجأة تداهمه رغبة فى القيء، إنه ليس مجرما بالسليقة، لكن متورطا بلا عودة. من شخصية الأفندى، الموظف، المحترم والمحبوب فى «من أجل امرأة» ينتقل إلى شخصية الصعيدى الطيب، المكلف بالسفر للقاهرة كى يشترى «صندلا» نيليا جديدا، ومعه قريبه المجرب رشدى أباظة، ولأن محاولة نشل النقود التى معه تفشل، تدس العصابة فى المركب غانية تؤدى دورها هند رستم، تفتنه بجمالها، وتحاول سرقة النقود، ويغدو ألعوبة فى يدها، حتى إنها تثير غيرته تجاه قريبه ويتمنى الفتك به. هنا تتباين طريقة أداء عمر الشريف عما كانت عليه فى «من أجل امرأة»، ذلك أنه يضع الفروق التفصيلية بين الشخصيتين فى وعيه. إنه عاشق فى «من أجل امرأة» ومستثار فى «صراع فى النيل»، الثروة المتوقعة تزيد من اندفاعه فى الفيلم الأول، والشبق فقط هو الذى يحركه فى الفيلم الثانى. مشارك وفعال مع كمال الشيخ وأقرب إلى المراهق الذى يسيل لعابه مع عاطف سالم. فى «إشاعة حب» حقق عمر الشريف نجاحا غير مسبوق فى مجال الكوميديا، يطالعنا بنظارة طبية وشارب مشعث وبذلة غير مكواة ورابطة عنق مترهلة، مظهره يتوافق مع مخبره كوقور ساذج، يحب ابنة عمه ــ سعاد حسنى التى لا تكترث به، بينما والدها، بأداء بديع ليوسف وهبى، يريد ابن أخيه المحافظ، الجاد، زوجا لابنته، فيشيع عنه أنه على علاقة حب مع نجمة الإغراء هند رستم، ما يثير غيرة ابنة عمه.. طوال الفيلم، يحافظ عمر الشريف على وحدة أدائه بلا مغالاة أو افتعال، وتتجلى سيطرته على أدواته خلال ردود أفعاله المتباطئة وصوته المنخفض البعيد عن الانفعالات الساخنة ومتابعته للمواقف كمشاهد أكثر من كونه مشاركا، وهذه كلها تصب وتعبر عن شخصيته. فى أقل من عشر سنوات، قبل انتقاله للسينما العالمية، قدم عمر الشريف أكثر من عشرين فيلما وعمل مع كبار المخرجين المصريين: نيازى مصطفى فى «فضيحة فى الزمالك» 1959، وعزالدين ذوالفقار فى «نهر الحب» 1960، وهنرى بركات فى «فى بيتنا رجل» 1961، لكنه يصل إلى مرتبة رفيعة مع صلاح أبوسيف فى «بداية ونهاية» 1960. حسنين، الموغل فى الأنانية، ابن الأسرة الفقيرة التى مات عائلها، يعيش متذمرا على وضعه الاجتماعي المتدني، يطمح للصعود بأى ثمن وأية وسيلة، يقبل مساعدة شقيقه البلطجى كى يدفع مصروفات الكلية الحربية التى التحق بها. يأخذ من شقيقته القروش التى تملكها ليتنزه بها.. بعد التخرج يطلب من أخيه ترك البلطجة، وتأتيه الضربة القاصمة حين يقبض على شقيقته وهى تمارس الدعارة. شخصية مركبة، تعيش فى أجواء خانقة وعاصفة فى آن، تريد تغيير العالم وفق هواها، وبأسلوبه المتميز استوعب عمر الشريف هذه الشخصية وامتلأ بها وعبر عنها بلمسات تفصيلية بالغة البساطة قوية الإيحاء، فعندما يعود إلى الحارة مرتديا بزة طلبة الكلية الحربية يقترب منه أحد الجيران، عجوز غلبان، يصافحه بمودة، وبحركة عفوية يمسح عمر الشريف كفه فى بنطاله باستعلاء وضيق. هكذا، ابن الحارة ينزعج من مصافحة جاره، وحين يذهب مع خطيبته دار السينما ويلتقى الرجل الثرى واسع النفوذ مع ابنته، يصافحهما ويعود لمقعده، وبنظرة واحدة يشعرنا أن كدرا ما اعتمل فى صدره وكأنه اكتشف بدانة خطيبته وأنها ــ الآن ــ لا تليق به، ويصل عمر الشريف إلى مستوى رفيع عندما يباغت بشقيقته الذليلة أمامه فى قسم الشرطة، حبات عرق تتفصد من وجهه وتؤكد نظرته الزائغة أن دوارا عاصفا أصابه، وها هو يغادر وهى تسير خلفه كأنها بلا إرادة، مسحوقة، مسحوبة بحبل غير مرئى، وفى مشهد النهاية، تلقى الشقيقة بنفسها إلى مياه النيل، وبلقطة واحدة يمتزج فى عيني عمر الشريف مزيج من الانفعالات المركبة: الذعر مع الأسى ومع الرغبة فى إيقافها مع اليأس. فى حوار مع هاشم النحاس شهد صلاح أبوسيف بالتالي: عمر ممثل محترم. تعودت أن أراه يأتي قبل التصوير بساعتين حيث أذهب لمراجعة العمل والإعداد للتصوير. كان يصاحبني فى كل ما أقوم به من أعمال، ويتابع معى اللقطات التى تم تصويرها وأراجعها أولا بأول. وعندما اقتضى الأمر تعديل البدلة التى يلبسها فى الدور لتكون قديمة كالحة قام بنفسه بصنفرة الياقة وإضافة بعض البقع. كان لا يعيش دوره فقط وإنما يعيش الفيلم كله.. انتهى كلام المخرج الكبير، وأحسب أنه يفسر بقاء عمر الشريف حاضرا، فى السينما العالمية والعربية، لعشرات السنوات المقبلة. عبور البحر المخرج البريطاني ديفيد لين بحث طويلا عن ممثل يسند له دور «الشريف على» فى «لورانس العرب» وبعد أن استقر على اختيار آلن ديلون تراجع النجم الفرنسى، وبينما أخذ ديفيد لين فى تأمل صور الممثلين المرشحين لهذا الدور، استرعت انتباهه صورة شاب تلمع عيناه السوداوان بالذكاء، وتتسم ملامحه بطابع عربى، صحراوى، وفورا وقع اختياره عليه، ووقف عمر الشريف أمام بيتر أوتول وأنتونى كوين وأليك جينيس. تجلت براعة ديفيد لين فى أول لقطة يظهر فيها عمر الشريف، رجال قبيلة عربية تسأل عن سبب تأخر الشريف على، يلتفت الجميع إلى عمق المجال. عمر الشريف يمتطى صهوة جواده قادما فى اتجاه الكاميرا.. إنه استقبال حار وجميل لنجم وافد. أدى عمر الشريف دوره على نحو متفهم، متمكن، معبرا عن قوة وصلابة وربما خشونة الشريف على، المقاتل، الذى لا يعرف الخوف أو التردد لقلبه سبيلا، ومع نجاح الفيلم نجاحا هائلا، أصبح لعمر الشريف حضور معترف به على شاشة السينما العالمية. تلاحقت أفلام عمر الشريف: «انظر إلى جواد شاحب» 1962 من إخراج فريد زينمان، أمام جريجورى بيك وأنتونى كوين، «سقوط الإمبراطورية الرومانية» 1962 من إخراج أنتونى مان، أمام صوفيا لورين وستيفن بويد وجيمس مايسون، «الرولز رويس الصفراء» 1963 من إخراج أنتونى اسكويس أمام أنجريد برجمان وركس هاريسون وآلن ديلون، ومرة ثانية يتعاون عمر الشريف مع مكتشفه عالميا ديفيد لين الذى منحه بطولة «دكتور زيفاجو» 1965 أمام جولى كريستى وجيرالدين شابلن. المساحة التى شغلها عمر الشريف فى «دكتور زيفاجو» تختلف تماما عن المساحة التى تمتع بها فى «لورانس العرب»، فهنا تكاد تكون البطولة مقصورة على شخصية محورية واحدة، تجد نفسها فى دوامة أحداث تاريخية عاصفة، فضلا عن مواقف عاطفية تتضمن الحب والفراق واللقاء من جديد والوداع والألم والسعادة، وتمتزج أحداث الثورة والمطاردة والهروب الجماعى والنجاة مع المواقف الذاتية للدكتور زيفاجو. عمر الشريف وجد ضالته فى هذا الدور الذى جسد فيه عشرات الأحاسيس بشفافية أخاذة، خصوصا أن زيفاجو يكتب الشعر، وبالتالى يتأثر بعمق وهو يرى الممارسات الوحشية للثوار ضد الناس. بصرف النظر عن التوجه السياسى العام للفيلم، إلا أنه، بما فى ذلك عمر الشريف، جاء قويا، مؤثرا، ناجحا تماما، خصوصا من ناحية شباك التذاكر. لاحقا يؤدى عمر الشريف الأدوار الأساسية فى عشرات الأفلام، بعضها متواضع القيمة، لكن عمر الشريف، فى مشواره الذى أخذه مأخذ الجد، صقل موهبته وازداد خبرة ودراية، حتى إن أداءه فى العديد من المشاهد يظل عالقا فى الذاكرة، ربما بمعزل عن الأفلام التى علاها غبار النسيان، فعلى سبيل المثال فى «الموعد» لسيدنى لوميت 1969 يهيم حبا بامرأة ــ آنوك إيميه ــ ولأسباب عدة تعصف به الشكوك، وها هو يقف وراء باب فى بيت مشبوه ويتوقع قدومها.. يسمع خطوات امرأة فى الممر، وصوت اقتراب الخطوات ينعكس على كيانه كله الذى يوحى لنا بأنه يتداعى، نكاد نسمع دقات قلبه المضطربة، الإعياء يتزايد على صفحة وجهه بينما تعبر نظرته عن انفعال مركب من حب الاستطلاع والحزن والخوف، هكذا، فى لحظة واحدة.. الأهم، فى أداء عمر الشريف تلك القوة الإيحائية التى تبعث بالرسالة من دون أن تعلن عنها مباشرة. فى المشهد الافتتاحى لفيلم «إبراهيم وزهور القرآن» الذى أخرجه فرانسوا دوبيرون 2003، يجلس صاحب محل البقالة ــ عمر الشريف ــ صامتا، مستكينا، أمام طاولة صغيرة، وبرغم أنه لا يرى الصبى الذى يسرق بعض المعلبات فإنه يعطى إحساسا بأنه يراه، وهذا ما نتأكد منه عندما يحنو على الصبى السارق ويمنحه ما سرقه.. لقد وصل عمر الشريف إلى درجة عالية من الشفافية. العمدة: الثابت والمتغير فى رحلته الطويلة خارج البلاد، لم ينفصل عمر الشريف عن مصر، يعود بين الحين والحين ليشارك فى مسلسلات إذاعية مثل «أنف وثلاث عيون» عن رواية إحسان عبدالقدوس، و«الحب الضائع» عن رواية لطه حسين، كما قام ببطولة ثلاثة أفلام: «أيوب» لهانى لاشين 1984، «الأراجوز» لهانى لاشين 1989، «المواطن مصرى» لصلاح أبوسيف 1991. بالتأكيد ثمة جوانب مضيئة فى أدائه لدور الرجل الذى عمل وتآمر ودخل فى صفقات مشبوهة ليجد نفسه مهجورا، قعيدا فوق كرسى متحرك فى «أيوب»، وثمة لمعان فى تجسيده للاعب الأراجوز الطيب، الدافئ العواطف، الشهم فى الفيلم الثانى، فإن اكتماله يأتى مع مخرج «بداية ونهاية» فى فيلمه الأثير «المواطن مصرى» حيث يطالعنا عمر الشريف فى دور عمدة يعبر وجهه عن تاريخه كله: وجه حزين لا يضحك ولا يبتسم من قلبه الجريح، غلالة دموع لا تسقط أبدا، حركة وئيدة كأن صاحبها فقد حماسه لكل شىء، وبرغم تغيير انفعالاته، جزئيا، إزاء المواقف المختلفة، فإن عمر الشريف يظل محافظا على ثبات ملامحه الجوهرية، فماذا ننتظر من رجل تم تأميم أرض عائلته أيام الإصلاح الزراعى ومات والده كمدا ولم يقتنع يوما بما فعله عبدالناصر؟ حتى حين تعاد له الأرض، لا ينتشي فرحا، ذلك أن نزف قلبه لا يتوقف أبدا. هنا يبدو منطق الشخصية واضحا، يعبر عنه نجمنا الكبير بجلاء وإبداع، بل بشفافية باتت تتوافر بسخاء.. عند عمر الشريف
الشروق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق